وقوله تعالى: أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ قال أبو العالية: يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد ﷺ، وتكذيبهم به، وهم يجدونه مكتوباً عندهم، وكذا قال قتادة.
وقال الحسن: أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ قال: كان ما أسرُّوا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد ﷺ، وخلا بعضهم إلى بعض تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد ﷺ بما فتح الله عليهم مما في كتابهم؛ خشية أن يحاجهم أصحاب محمد ﷺ بما في كتابهم عند ربهم.
وَمَا يُعْلِنُونَ يعني حين قالوا لأصحاب محمد ﷺ: آمنا، كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.فقد سبق الكلام على هذه الآية: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76].
والمراد بقوله - تبارك وتعالى -: أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة البقرة:77] يشمل هذا ما يكتمونه ويسرونه من نبوة محمد ﷺ، وأنها حق، وكذلك ما يعلنونه من الكذب عليه - عليه الصلاة والسلام -، والتحريف، والتغيير في أوصافه التي يجدونها في كتابهم.
كذلك أيضاً يعلم ما يسرون، وما يعلنون؛ فيما يتظاهرون به أمام المسلمين من قولهم: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، فالله يعلم هذه المقالات، وهذه الأحوال، فالآية تتحدث عن قولهم هذا: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا [سورة البقرة:76]، ثم عقبها بقوله: أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة البقرة:77] حيث ذكر حالهم في السر وحالهم في العلانية فالله يبين أنه مطلع على ذلك كله.
وقوله: أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ معلوم أن (ما) تفيد العموم، ومعلوم لكل أحد أن الله يعلم السر والعلانية في كل الأمور، ولكن الآية حينما تكون تعقيباً على مثل هذا فإنها تربط به عادة، فيقال: يعلم ما يسرون، وما يعلنون؛ مما يظهرونه، ويبطنونه في أحوالهم المختلفة أمامكم، وإذا خلا بعضهم إلا بعض، ومن قال بذلك لا يعني أنه ينكر أن الله يعلم كل شيء، وإنما المقصود أنه يمكن أن تفسر الآية بهذا، وإلا فيقال: أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون، وما يعلنون؛ في كل شيء، فهذا معنى ً صحيح، ولكن جرت العادة في التفسير أن مثل ذلك يكون مرتبطاً بما قبله، ولهذا تجد العبارات التي يذكرها المفسرون هي عبارة عن محاولات لربط هذه الخاتمة بما قبلها، وإلا فأي واحد من المفسرين يستطيع بكل سهولة أن يفسر الآيات فيقول: أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [سورة البقرة:77] (ما) تفيد العموم، والله عليم بالسر والعلانية، وانتهى، لكن هذا الربط تجده مطرداً في التفسير، وقائله لا ينكر العموم، فمثلاً يقول في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة المائدة:38] يقول: عزَّ فحكم بالقطع، وهذا مع أن الله عزيز - تبارك وتعالى - في ذاته، ولا يغالب، ولا تطاق سطوته...الخ.
فالمقصود إن هذه قضية تجدها في التفسير كثيراً، فإذا رأيتها فتدرك المراد، لماذا يقولون هذا، وهذا الاستطراد إنما ذكرناه لأن هذه المسألة قد تشكل في بعض المواضع فيظن الإنسان أنها من قبيل التخصيص، فأردنا أن نبين أنهم إنما يقصدون هذا الملحظ.