السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَٰبَ إِلَّآ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ* فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:78-79].
يقول تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي: ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد، والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد.
يذكر الله تعالى مخازيهم فيقول: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ يعني ومن اليهود قوم أميون، أي ومنهم طائفة أمية، والأمي بعضهم يقول: إنه منسوب إلى الأم، أو إلى الأمة الأمية التي هي باقية على أصل ولادتها، وقائل ذلك يريد أنهم منسوب إلى الأمة الأمية، ولك أن تقول: منسوب إلى الأم، فهو باق على حالته الأولى لا يعرف الكتابة، ومن لا يعرف الكتابة فإنه لا يعرف القراءة، ولذلك تجد في كثير من العبارات التي يفسر بها الأمي يقولون: هو الذي لا يعرف الكتابة، ويقتصرون على هذا، ومنهم من يقول: هو الذي لا يعرف الكتابة، ولا القراءة، ولا إشكال في هذا على كل حال، فالذي لا يعرف الكتابة لا يعرف القراءة.
ومنهم من يقول بأنه نسبة إلى أم الكتاب الذي عندهم، وكأنهم نسبوا إليه لنزوله عليهم، وهذا متكلف وبعيد جداً.
المقصود أن الأمي هو الذي لا يعرف الكتابة، ولا القراءة، كأنه قد بقي على أصل ولادته، فالإنسان إذا خرج من بطن أمه فإنه لا يعرف القراءة، ولا الكتابة، ولا شيئاً، والله يقول: وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [سورة النحل:78].
وهنا يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو العالية والربيع، وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد: وهو ظاهر في قوله تعالى: لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:78] أي لا يدرون ما فيه، فنفى عنهم العلم.
ولهذا في صفات النبي ﷺ: أنه أمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [سورة العنكبوت:48]، وقال - عليه الصلاة السلام -: إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا[1] الحديث، أي لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب، ولا حساب، وقال - تبارك وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2].
وقوله تعالى: إِلاَّ أَمَانِيَّ قال الضحاك عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: إِلاَّ أَمَانِيَّ يقول: إلا قولاً يقولون بأفواههم كذباً، وقيل: إلا أماني يتمنونها، قال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله - تعالى - أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئاً، ولكنهم يتخرصون الكذب، ويتخرصون الأباطيل كذباً وزوراً، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه.
وقال مجاهد: وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78] يكذبون، وقال قتادة وأبو العالية والربيع: "يظنون بالله الظنون بغير الحق".
الأماني يمكن أن يكون جمع أمنيَّة - بتشديد الياء - جمع أمنيَّة، والمراد بالأمنية يعني القراءة، وهذا معروف، وعليه أحد الأقوال المشهورة في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحج:52] يعني ألقى في قراءته، هذا أحد الأقوال المشهورة في تفسير الآية.
يقولون: جرى ذلك، فسمعه الكفار، فحصل لهم اشتباه والتباس بما سمعوا، فالشيطان أثناء القراءة يلقي بعض الشيء الذي ليس من كتاب الله فيكون ذلك سبباً لبلبلة تحصل عند المفتونين.
قيل في الآية: إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أي تمنى هداية قومه فقد يبعد في الأمنية، فالله لا يقدر هدايتهم، فهو يجنح بعيداً في أمانيه فلا تكون كما قدر الله - تبارك وتعالى - لهؤلاء أنهم لن يؤمنوا.
فالمقصود أن قوله هنا: إلا أمانيَّ يمكن أن يكون جمع أمنيَّة بمعنى قراءة، ومنه قول كعب بن مالك يمدح عثمان بن عفان
تمنى كتاب الله أول ليله فصادفه حتم من المقادر
 وقول حسان بن ثابت يمدح عثمان أيضاً:
تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل
تمنى كتاب الله بمعنى قرأ كتاب الله أول الليل، أو قرأ كتاب الله آخر ليله أو آخر ليلة.
"تمني داود" أي قراءة داود الزبور.
"على رسل" يعني على مهل.
فعلى هذا القول إلا أماني يكون الاستثناء متصلاً؛ لأن القراءة هي لون من العلم بالكتاب، فالعلم بالكتاب بقراءته، وبفهم معانيه، ومعرفة الأحكام، وتفسير الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا قراءة لكن لا يعملون به، ولا يعرفون أحكامه، ولا يعرفون معانيه، ولا يتفهمونه، وإنما يعرفونه قراءة فقط فهم جهلة، وهذا اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في تفسير الآية، وقال به جماعة، وهذا النوع من الجهل واقع عند عامة هذه الأمة.
وإذا كان هؤلاء قد لحقهم الذم وكتابهم ليس كالقرآن، ونبيهم ليس كالنبي محمد ﷺ، وهم أمة ليست بمثابة هذه الأمة في الشرف، والفضل، فالعتب الذي يلحق هذه الأمة لجهلها بكتابها أعظم من العتب الذي لحق بني إسرائيل، فمن الرزايا أن يموت الإنسان وهو لا يعرف معاني القرآن، ولم يقرأ كتاباً في تفسيره، وهو أعظم كتاب يحتوي على ما لا يقادر قدره من المعاني، والهدايات.
إن من الغبن أن يموت الإنسان وما قرأ كتاب الله، وما فهم كثيراً منه، بل ربما ما فك بعض الألفاظ التي يسمعها ويقرؤها صباح مساء في الصلاة، وفي خارج الصلاة، هذا أعظم غبن يمكن أن يقع للإنسان بعد حرمان الهداية إلى الإسلام، ومن أعظم ما يوفق إليه الإنسان أن يفتح الله عليه في هذا الكتاب فيشتغل به قراءة، وتفهماً، وتدبراً، ويجعل لنفسه نصيباً منه في يومه وليلته بحيث يجعل له ورداً في القراءة، وتفهم معانيه، وإذا فتح عليه في هذا رأى من العجائب والغرائب من ألوان الهدايات ما لا يقادر قدره، والناس قد فاوت الله بينهم غاية التفاوت في مثل هذه الأمور
وما كل غائص وقانص يظفر بالدر وباللآلئ
ولكن تأخذ الأفهام منه على قدر القرائح والفهوم
والقول الآخر في تفسير الآية وهو المشهور وهو قول الجمهور: لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [سورة البقرة:78] الأماني جمع أمنية، والأمنية هي أن يود الإنسان ويطلب ما لا يمكن وقوعه، أو ما يبعد وقوعه جداً، مثاله:
ألا ليت الشباب يعود يوماًً فأخبره بما فعل المشيب
فالرجاء والطمع - كما سبق - يكون في الشيء قريب المنال، والأماني يكون في الشيء بعيد المنال، والأماني على هذا الاعتبار جمع أمنية - بالتخفيف -.
والاستثناء في قوله: لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ يكون منقطعاً؛ لأن الأماني ليست من الكتاب، فهم تمنوا فقالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80]، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، وتمنوا فقالوا: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، فهم هذه حالهم، وهذا شأنهم.
ولو نظرت إلى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ فإنك تجد فيها قرينة ترجح أحد هذين الاحتمالين، وهذه القرينة هي أنه قال: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ فالأمي هو الذي لا يقرأ، فلو قلنا: (إلا قراءة) فكيف يكون أمي وهو ما يعلم الكتاب إلا قراءة؟ فإذا فسرت قوله: إِلاَّ أَمَانِيَّ بمعنى إلا قراءة فكأنك ناقضت نفسك؛ إذ كيف تقول: إنهم لا يقرؤون، ثم تقول: لا يعلمون الكتاب إلا قراءة دون فهم المعنى، وهذا الذي حدا بعامة المفسرين إلى ترجيح القول الآخر وهو أن المعنى أنهم يتمنون أمانٍ فارغة لا تستند إلى شيء يمكن أن يوثق به، فليس عندهم عهد من الله ، وإنما هم يتخرصون.
قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78] (إن) نافية، والمعنى وما هم إلا يظنون أي يتخرصون تخرصاً فهم جهلة.
والظن هنا المقصود به الطرف المرجوح، فالظن يطلق على العلم - وليس هذا المراد هنا قطعاً -، ويطلق ويراد به طرف الرجحان، وذلك حينما تكون القضية فيها احتمال، فالطرف الراجح منها هو الظن.
والطرف المرجوح يقال له أيضاً ظن، يعني يظن القضية بنسبة عشرة بالمائة مثلاً يسمونها عندنا ظاهر، وعندنا مؤول، وعندنا شك
ووهم وظن وشك محتمل لراجح أو ضده أو ما اعتدل
فالشك هو ما اعتدل، والظن هو الطرف الراجح، وضده هو الطرف المرجوح الذي يسمونه في الأصول في أنواع الدلالة (الظاهر والمؤول)، والوسط هو الشك، فقوله: وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ يعني الطرف المرجوح أي أنها أوهام وتخرصات، وهذا هو الظن المذموم الذي ذم الله أتباعه في القرآن فقال تعالى: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ [سورة النجم:23]، وقال تعالى: وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [سورة الجاثية:24]، وقال عنهم إنهم يقولون: إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [سورة الجاثية:32]، فهذا الأسلوب دائماً يأتي على سبيل الذم وليس المقصود به الطرف الراجح.
وأما ما في بعض مسائل في الفقه التي هي من باب الظن فالمعنى أنه قد لا يكون الدليل فيها قطعياً، فهذا ليس من المذموم في شيء، فالذين يقولون: إن هذا من اتباع التخرص، والظنون، فهؤلاء مخطئون، فالذم الذي ورد في القرآن إنما هو لاتباع الأوهام، والتخرصات، فإذا رأيت الظن مذموماً فهذا المراد به، أما الظن الراجح اتباعه فهو مطلوب، والله أعلم.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الصوم - باب قول النبي ﷺ: لا نكتب ولا نحسب (1814) (ج 2 / ص 675) ومسلم في كتاب: الصيام - باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1080) (ج2 / ص 759).

مرات الإستماع: 0

"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي: الذين لا يقرءون، ولا يكتبون فهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ "

هذا هو المشهور أن الأمي هو الذي لا يقرأ، ولا يكتب، وقد مضى الكلام على هذا في الغريب، بعضهم يقول: الأميون نسبة إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها. الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم، لا يقرأ، ولا يكتب هذا القول الأول، بأي اعتبار؟ باعتبار الولادة، يعني حينما خرج من بطنها لا يقرأ ، وابن جرير - رحمه الله - يرى أن ذلك الأمي نسبه إلى أمه.

أما ابن جرير فيرى أنه نسبة إلى أمه باعتبار أن الكتابة كانت في الرجال، ولم تكن في النساء، فإذا نُسب إلى أمه معناها أنه يساوي لا يُحسن القراءة، ولا الكتابة، ما كان ذلك من شأن النساء عند العرب، وأكثر السلف، وهو الذي اختاره ابن كثير: إلى أن ذلك كما سبق يقال لمن لا يحسن الكتابة، والقرينة في هذه الآية على أن هذا هو المراد القراءة، والكتابة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ فنفى عنهم العلم قال: إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: مجرد قراءة، كما قال الله : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] فهذا يصلح أن يكون تفسيرًا للأمي.

"والمراد قوم من اليهود، وقيل: من المجوس، وهذا غير صحيح، لأن الكلام كله عن اليهود."

وقوله: والمراد قوم من اليهود، وقيل: من المجوس، وهذا غير صحيح، لأن الكلام كله عن اليهود. صحيح السياق في اليهود.

"إِلَّا أَمانِيَّ تلاوة بغير فهم، أو أكاذيب، وما تتمناه النفوس."

تلاوة بغير فهم يعني إِلَّا أَمَانِيَّ: إلا قراءة، يعني: لا يعلمون معانيه، وما تضمنه من الهدايات، إنما يقرؤونه قراءة مجردة، وهذا المعنى مشهور، وكما جاء في مدح عثمان :

تمني كتاب اللَّه أول لَيْلَة وَآخره لَاقَى حمام المقادر[1]

تمنى بمعنى قرأ، وبه فُسر قوله - تبارك، وتعالى - على أحد الأوجه المشهورة في تفسير الآية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] أمنيته يعني في قراءته، إلا إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته، على أحد المعاني المشهورة في تفسير الآية، فهنا لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: إلا قراءة مجردة من غير فهم للمعنى، وهذا ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[2] والحافظ ابن القيم[3] وغير هؤلاء: فسروه بأن المراد لا يعلمون إلا مجرد قراءة فهم جهلة.

وهذا للأسف حال كثير من المسلمين اليوم، أنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني فأشبهوهم في هذا، يعني لا يعرفون معانيه، ولا يتدبرون بهذا القرآن، وما تضمنه من الهدايات.

وقوله: أو أكاذيب، وما تتمناه النفوس. يعني إلا أماني جمع أُمْنِيّة، هناك جمع أُمْنِيّة يعني قراءة، وهذا جمع أُمْنِيَة يعني ما تطلبه النفوس يعني لا يعلمون الكتاب إلا بالأماني الكاذبة، وهذا جاء عن جماعة من السلف: قتادة، والربيع، وأبي العالية، وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -: أن ذلك مجرد تمني فقط [4]

وهذا قال به أيضًا من المفسرين: الواحدي[5] ومن المعاصرين الطاهر ابن عاشور[6]: أن القضية هي مجرد أماني. واختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: يتمنون الأماني[7] وما القرينة الدالة على هذا التفسير؟

قال: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ يعني هم يقولون مثلًا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة: 80] لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة: 111] فهم لا يقرأون الكتاب، لا يعلمون الكتاب إلا أماني، مجرد أمنيات يتمنونها، لا علم لهم بالكتاب، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ لا يعلمون الكتاب لكن أماني يتمنونها لا علم لهم، ولكن ظنون كاذبة يتعللون بها، أو ما تتمناه النفوس، فتفسيره على كل حال بالأمنيات الكاذبة قال به من ذكرت من السلف، وهو اختيار ابن جرير، والواحدي، وابن عاشور، والشنقيطي.

والقول الآخر: أنه مجرد قراءة من غير علم، وفهم، ومعرفة المعنى، والتفسير. هذا الذي اختاره شيخ الإسلام[8] وابن القيم[9] والشيخ عبد الرحمن بن سعدي[10] فهما قولان معروفان في الآية.

  1.  لسان العرب (15/294).
  2.  انظر: مجموع الفتاوى (14/71).
  3.  الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية، والمعطلة (1/163).
  4.  تفسير الطبري (2/262).
  5.  التفسير الوسيط للواحدي (1/162).
  6.  التحرير، والتنوير (1/674).
  7.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/39).
  8.  مجموع الفتاوى (16/12).
  9.  الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية، والمعطلة (1/163).
  10.  تفسير السعدي - تيسير الكريم الرحمن (ص: 56).

مرات الإستماع: 0

قال الله : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78] من اليهود طائفة جهلة لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ بعض أهل العلم يقولون: لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: إلا قراءة من غير فهم للمعاني، وذلك أنهم فسروا الأماني بالقراءة، كما قال الشاعر يمدح عثمان بن عفان : "تمنى كتاب الله أول ليله"[1] يعني: قرأ، تمنى بمعنى قرأ، وبه فُسر قوله -تبارك وتعالى- وهو أحد القولين المشهورين في قوله : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحج:52] تمنى يعني: قرأ، على أحد القولين في الآية.

فهنا يكون المعنى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [سورة البقرة:78] يعني: إلا مجرد قراءة فهم جهلة، ولهذا قال: لا يَعْلَمُونَ فهم يقرؤون لكن من غير فهم للمعنى، ولا عقل له.

والمعنى الثاني: هو أن ذلك بمعنى الأمنية: لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ لا بصر لهم بحقائق ما أنزل الله -تبارك وتعالى- إنما هم يتمنون على الله الأماني كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [سورة البقرة:80] وكقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] ونحو ذلك.

ويحتمل أن يكون المعنى: أن من هؤلاء طائفة لا يحسنون، لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولا يعرفون ما جاء في كتابهم من صفات النبي ﷺ إنما غاية ما هنالك هو التخرص والأكاذيب التي يتلقفونها من غيرهم، أنهم يبنون أمورهم على ظنون كاذبة، لا يبنونها على علم وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ وفسر ذلك بالأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ، إنما يبنون دينهم واعتقادهم على مجرد الظنون، وهذا لا شك أنه لا يصح البناء عليه.

فيؤخذ من هذه الآية على هذا المعنى كذلك أن من أراد تجهيل الأمة حتى لا تعرف معاني الكتاب فإنه له شبه من هؤلاء، لا شك أن أعداء الإسلام حاولوا ذلك، فجعلوا غير الناطقين باللغة العربية في الأصل، يعني الذين أصولهم من الأعاجم، حالوا بينهم وبين اللغة العربية، وغيروا الحروف التي كانوا يكتبون بها، كانوا يكتبون بالحروف العربية في بلاد الهند وإندونيسيا وبلاد فارس وغير ذلك، فلما جاء الاستعمار حال بينهم وبين اللغة، وجعلهم في حال من الجهل بها من أجل البعد عن القرآن ومعاني القرآن، ولذلك للأسف تجد هناك حتى كثير من الطيبين من الخيرين من الصالحين ونحو هذا لا بصر لهم بمعاني القرآن إطلاقًا، ولربما سمى بعضهم ولده بالخنزير، وربما سمي المسجد بجهنم أو لظى باعتبار أنها كلمة وردت في القرآن، فعندهم أن كل ما ورد في القرآن فهو أمر جيد وحسن وسائغ.

وهكذا لربما قرأوا في مناسبة من الآيات ما لا يصلح لهذه المناسبة إطلاقًا، فإذا سئلوا عن هذا رأيت منهم العجب، ويبدون في ذلك ما يدل على جهل كبير بمعاني القرآن.

وأما العرب فإن الأعداء حاولوا أن يروجوا للعامية، وأن تكون هي لغة المدارس والمعاهد، ولغة الإعلام والثقافة من أجل الحيلولة بين الناس وبين فهم كلام الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء لهم شبه بمثل هؤلاء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله[2] كالذين يقولون: بأن القرآن لا يؤخذ منه معاني الصفات، ولا يؤخذ منه ما يتعلق بذات الرب -تبارك وتعالى- كقول طائفة من المعطلة، وكذلك المفوضة، المفوضة على طوائف:

منهم من يقول: إن معاني القرآن لا يعلمها أحد لا الرسول ولا الصحابة ولا غير هؤلاء، لا يعلمها إلا الله.

ومنهم يقول: لها معانٍ ولكن هذه المعاني محتملة تحتمل المعنى الظاهر، وتحتمل التأويل الذي قاله المحرفة المعطلة، ومن ثَم فإننا لا نعلم المراد فنفوض ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- فالأولون كأنهم يقولون: بأن الله خاطبنا بما لا نعقل ولا نفهم في أجل الأشياء وأشرفها وهو الكلام في صفات الله وأسمائه، ونحو ذلك.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: ذم من لا يعتني بمعرفة معاني كلام الله -تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ذكره على سبيل الذم، فالذي يكون بهذه المثابة يقرأ القرآن ولا يعرف معانيه فله شبه بهؤلاء، له شبه بهؤلاء، الآن لو سألنا عن كثير من المعاني والآيات ما المراد بها، ما معنى هذه الآية، فإنك تجد أن الكثيرين لربما لا يفقه من ذلك قليلاً ولا كثيرًا.

سُئل بعضهم عن قوله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [سورة ص:16] ما المراد بذلك؟ فأشار إلى الهر، وقال: هذا هو المعنى، ومثل هذا كثير، لو سأل الإنسان نفسه عن كثير من المواضع من الآيات من الألفاظ فيجد أنه لربما كالأعجمي لا يفهمها، وهي تردد على مسامعه في الصلاة وفي غير الصلاة.

فهذه تلاوة من غير فهم، وهذا المعنى كأنه الأقرب -والله تعالى أعلم- وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكذلك ابن جُزي وجماعة من المفسرين.

إذا كان الذم الذي يلحق هؤلاء اليهود بسبب تقصيرهم مع كتابهم بحيث غفلوا عن معانيه وكانوا يقرؤونه مجرد قراءة من غير عقل ولا فهم للمعنى فإن الذم الذي يلحق هذه الأمة إذا فعلت فعلهم واتصفت بصفتهم أكبر، وذلك أن هذه الأمة أشرف، ونبيها أشرف، وكتابها أشرف، وقد قيل: على قدر المقام يكون الملام.

فالذم الذي يلحق هذه الأمة إذا أهملت كتابها ولم تفهم معانيه أعظم مما يلحق هؤلاء اليهود، فهذه صفة من لا يفقه عن الله -تبارك وتعالى- وإنما يقتصر على مجرد التلاوة، كما قال الحسن البصري -رحمه الله: "نزل القرآن ليعمل به فاتخذوا تلاوته عملاً"[3] وقد ذكر نحو هذا شيخ الإسلام -رحم الله الجميع[4]

  1.  انظر: مجموع الفتاوى (17/ 435). 
  2.  انظر: مجموع الفتاوى (6/ 355).
  3.  انظر: مجموع الفتاوى (25/ 170). 
  4.  المصدر السابق.