يقول تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي: ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد، والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد.
يذكر الله تعالى مخازيهم فيقول: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ يعني ومن اليهود قوم أميون، أي ومنهم طائفة أمية، والأمي بعضهم يقول: إنه منسوب إلى الأم، أو إلى الأمة الأمية التي هي باقية على أصل ولادتها، وقائل ذلك يريد أنهم منسوب إلى الأمة الأمية، ولك أن تقول: منسوب إلى الأم، فهو باق على حالته الأولى لا يعرف الكتابة، ومن لا يعرف الكتابة فإنه لا يعرف القراءة، ولذلك تجد في كثير من العبارات التي يفسر بها الأمي يقولون: هو الذي لا يعرف الكتابة، ويقتصرون على هذا، ومنهم من يقول: هو الذي لا يعرف الكتابة، ولا القراءة، ولا إشكال في هذا على كل حال، فالذي لا يعرف الكتابة لا يعرف القراءة.
ومنهم من يقول بأنه نسبة إلى أم الكتاب الذي عندهم، وكأنهم نسبوا إليه لنزوله عليهم، وهذا متكلف وبعيد جداً.
المقصود أن الأمي هو الذي لا يعرف الكتابة، ولا القراءة، كأنه قد بقي على أصل ولادته، فالإنسان إذا خرج من بطن أمه فإنه لا يعرف القراءة، ولا الكتابة، ولا شيئاً، والله يقول: وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [سورة النحل:78].
وهنا يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو العالية والربيع، وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد: وهو ظاهر في قوله تعالى: لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:78] أي لا يدرون ما فيه، فنفى عنهم العلم.
ولهذا في صفات النبي ﷺ: أنه أمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [سورة العنكبوت:48]، وقال - عليه الصلاة السلام -: إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا[1] الحديث، أي لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب، ولا حساب، وقال - تبارك وتعالى -: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2].
وقوله تعالى: إِلاَّ أَمَانِيَّ قال الضحاك عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: إِلاَّ أَمَانِيَّ يقول: إلا قولاً يقولون بأفواههم كذباً، وقيل: إلا أماني يتمنونها، قال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله - تعالى - أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئاً، ولكنهم يتخرصون الكذب، ويتخرصون الأباطيل كذباً وزوراً، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه.
وقال مجاهد: وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78] يكذبون، وقال قتادة وأبو العالية والربيع: "يظنون بالله الظنون بغير الحق".
الأماني يمكن أن يكون جمع أمنيَّة - بتشديد الياء - جمع أمنيَّة، والمراد بالأمنية يعني القراءة، وهذا معروف، وعليه أحد الأقوال المشهورة في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [سورة الحج:52] يعني ألقى في قراءته، هذا أحد الأقوال المشهورة في تفسير الآية.
يقولون: جرى ذلك، فسمعه الكفار، فحصل لهم اشتباه والتباس بما سمعوا، فالشيطان أثناء القراءة يلقي بعض الشيء الذي ليس من كتاب الله فيكون ذلك سبباً لبلبلة تحصل عند المفتونين.
قيل في الآية: إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أي تمنى هداية قومه فقد يبعد في الأمنية، فالله لا يقدر هدايتهم، فهو يجنح بعيداً في أمانيه فلا تكون كما قدر الله - تبارك وتعالى - لهؤلاء أنهم لن يؤمنوا.
فالمقصود أن قوله هنا: إلا أمانيَّ يمكن أن يكون جمع أمنيَّة بمعنى قراءة، ومنه قول كعب بن مالك يمدح عثمان بن عفان
تمنى كتاب الله أول ليله | فصادفه حتم من المقادر |
تمنى كتاب الله آخر ليله | تمني داود الزبور على رسل |
"تمني داود" أي قراءة داود الزبور.
"على رسل" يعني على مهل.
فعلى هذا القول إلا أماني يكون الاستثناء متصلاً؛ لأن القراءة هي لون من العلم بالكتاب، فالعلم بالكتاب بقراءته، وبفهم معانيه، ومعرفة الأحكام، وتفسير الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا قراءة لكن لا يعملون به، ولا يعرفون أحكامه، ولا يعرفون معانيه، ولا يتفهمونه، وإنما يعرفونه قراءة فقط فهم جهلة، وهذا اختيار الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في تفسير الآية، وقال به جماعة، وهذا النوع من الجهل واقع عند عامة هذه الأمة.
وإذا كان هؤلاء قد لحقهم الذم وكتابهم ليس كالقرآن، ونبيهم ليس كالنبي محمد ﷺ، وهم أمة ليست بمثابة هذه الأمة في الشرف، والفضل، فالعتب الذي يلحق هذه الأمة لجهلها بكتابها أعظم من العتب الذي لحق بني إسرائيل، فمن الرزايا أن يموت الإنسان وهو لا يعرف معاني القرآن، ولم يقرأ كتاباً في تفسيره، وهو أعظم كتاب يحتوي على ما لا يقادر قدره من المعاني، والهدايات.
إن من الغبن أن يموت الإنسان وما قرأ كتاب الله، وما فهم كثيراً منه، بل ربما ما فك بعض الألفاظ التي يسمعها ويقرؤها صباح مساء في الصلاة، وفي خارج الصلاة، هذا أعظم غبن يمكن أن يقع للإنسان بعد حرمان الهداية إلى الإسلام، ومن أعظم ما يوفق إليه الإنسان أن يفتح الله عليه في هذا الكتاب فيشتغل به قراءة، وتفهماً، وتدبراً، ويجعل لنفسه نصيباً منه في يومه وليلته بحيث يجعل له ورداً في القراءة، وتفهم معانيه، وإذا فتح عليه في هذا رأى من العجائب والغرائب من ألوان الهدايات ما لا يقادر قدره، والناس قد فاوت الله بينهم غاية التفاوت في مثل هذه الأمور
وما كل غائص وقانص | يظفر بالدر وباللآلئ |
ولكن تأخذ الأفهام منه | على قدر القرائح والفهوم |
ألا ليت الشباب يعود يوماًً | فأخبره بما فعل المشيب |
والاستثناء في قوله: لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ يكون منقطعاً؛ لأن الأماني ليست من الكتاب، فهم تمنوا فقالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80]، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [سورة المائدة:18]، وتمنوا فقالوا: لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، فهم هذه حالهم، وهذا شأنهم.
ولو نظرت إلى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ فإنك تجد فيها قرينة ترجح أحد هذين الاحتمالين، وهذه القرينة هي أنه قال: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ فالأمي هو الذي لا يقرأ، فلو قلنا: (إلا قراءة) فكيف يكون أمي وهو ما يعلم الكتاب إلا قراءة؟ فإذا فسرت قوله: إِلاَّ أَمَانِيَّ بمعنى إلا قراءة فكأنك ناقضت نفسك؛ إذ كيف تقول: إنهم لا يقرؤون، ثم تقول: لا يعلمون الكتاب إلا قراءة دون فهم المعنى، وهذا الذي حدا بعامة المفسرين إلى ترجيح القول الآخر وهو أن المعنى أنهم يتمنون أمانٍ فارغة لا تستند إلى شيء يمكن أن يوثق به، فليس عندهم عهد من الله ، وإنما هم يتخرصون.
قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78] (إن) نافية، والمعنى وما هم إلا يظنون أي يتخرصون تخرصاً فهم جهلة.
والظن هنا المقصود به الطرف المرجوح، فالظن يطلق على العلم - وليس هذا المراد هنا قطعاً -، ويطلق ويراد به طرف الرجحان، وذلك حينما تكون القضية فيها احتمال، فالطرف الراجح منها هو الظن.
والطرف المرجوح يقال له أيضاً ظن، يعني يظن القضية بنسبة عشرة بالمائة مثلاً يسمونها عندنا ظاهر، وعندنا مؤول، وعندنا شك
ووهم وظن وشك محتمل | لراجح أو ضده أو ما اعتدل |
وأما ما في بعض مسائل في الفقه التي هي من باب الظن فالمعنى أنه قد لا يكون الدليل فيها قطعياً، فهذا ليس من المذموم في شيء، فالذين يقولون: إن هذا من اتباع التخرص، والظنون، فهؤلاء مخطئون، فالذم الذي ورد في القرآن إنما هو لاتباع الأوهام، والتخرصات، فإذا رأيت الظن مذموماً فهذا المراد به، أما الظن الراجح اتباعه فهو مطلوب، والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب: الصوم - باب قول النبي ﷺ: لا نكتب ولا نحسب (1814) (ج 2 / ص 675) ومسلم في كتاب: الصيام - باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1080) (ج2 / ص 759).