هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور، والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل.
والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة.
يقول: "والويل: الهلاك والدمار"، وهي كلمة مشهورة في لغة العرب: هذه اللفظة التي تتكرر كثيراً يفسرها العلماء في كثير من الأحيان بأنها واد في جهنم، وعلى كل حال هي كلمة للوعيد.
ولربما كان أصلها بمعنى الحزن، أو نحو ذلك، فمن أهل العلم من يقول: إن اللام زيدت في آخرها، وإن أصلها (وَي) أي حزن، ثم زيدت عليها اللام، وصارت تستعمل للوعيد أو بمعنى الهلاك، والدمار، فإذا توعدت إنساناً قلت له: ويل لك، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول غير هذا، وعلى كل حال يمكن أن تكون بمعنى الوعيد عموماً، ويمكن أن تكون بمعنى أنها واد في جهنم، مع أنه لا يصح عن النبي ﷺ فيما أعلم شيء في تحديد هذا المعنى.
وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس - ا - أنه قال: "يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرؤونه غضًا لم يُشَب.قوله: لم يُشَب: بضم الياء يعني لم يُخلط بغيره أو لم يداخله غيره من التحريف، والتبديل، أما يَشِب بنصب الياء يعني يكبر ويهرم، لكنها هنا لم يُشَب بمعنى لم يُخلط بغيره، ولم يحرف، كما قال القائل:
تلك المكارم لا قعبان من لبن | شيبت بماء فاستحكمن أبوالا |
شيبت بذي بشم من ماء محنية | صاف بأبطح أضحى وهو مشمول |
تقرؤونه غضًا لم يشب؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً؛ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم"[1][رواه البخاري].هذا الأثر عن ابن عباس مهم جداً؛ لأنه ينهى من الأخذ عن بني إسرائيل، والتلقي عنهم، ورواية الإسرائيليات، ولذلك فإنه ينبغي أن يكون الموقف من هذه الإسرائيليات واضحاً محدداً، مع أن ابن عباس - ا - كان يأخذ من كتب أهل الكتاب، وينقل ذلك في التفسير، تارة بنسبته إليهم، وتارة من غير نسبة، وتعرفون خبره حينما اختلف مع مروان، أو مع معاوية في قوله - تبارك وتعالى -: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] - أو حامية فيها قراءتان متواترتان - فكتب إلى كعب الأحبار، قال لهم كعب الأحبار بأنهم يجدونها في التوراة "أنها تغرب في ثأَط وطين".
على كل حال هذا الأثر يحتاج إليه عند الكلام على الروايات الإسرائيلية، وهو من الآثار المهمة التي يستدل بها على ضرورة تخليص التفسير من هذه الروايات الإسرائيلية.
والحافظ ابن كثير - رحمه الله - بين حين وآخر في هذا الكتاب سيتحدث عن الروايات الإسرائيلية حديثاً خاصاً يلفت النظر إليها، ويبين أنه لا يلتفت إلى هذه الأقوال من جهة الاعتماد، وأنها أخبار لا تثبت، وهذا في أكثر من موضع في هذا الكتاب سيتحدث عنها بخصوصها، وعلى كل حال تحدث عنها كثيرون، ومن أحسن من تحدث عنها الشيخ: "أحمد شاكر" في مقدمته لعمدة التفسير، وكان أهم ما ذكره مما لا يكاد يوجد عند من يتحدثون عنها أن السلف حينما نقلوها لم ينقلوها على أنها مما يفسر به القرآن، وإنما ذكروها من باب وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[2] فيذكرونها للاستئناس لا أنهم يفسرون القرآن بها، وهذه قضية مهمة، فالقرآن لا يفسر بهذه الأشياء التي لا ندري ما حالها هل هي صحيحة ثابتة، أو غير صحيحة، لا يفسر القرآن بهذا، ولكن تذكر من باب الاستئناس مع أنها في أمور لا حاجة إليها، أبهمها الله ، ولو كان فيها فائدة لبيَّنها.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: "الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها".ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام-: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء[3].
وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] هو كقوله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] ومعنى يكتبونه بأيديهم أي يكتبونه كتابة محرفة، فهذا معنى يكتبونه؛ لا أنهم ينسخون منه نسخاً صحيحة؛ إذ هذا لا إشكال فيه، وإلا كيف يتداول الناس الكتاب إلا بهذا، لكن المقصود هنا يكتبون الكتاب على غير وجهه.
وقوله: بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] هذا ليسجل عليهم الجريمة، ومثل هذا الأسلوب كما سبق التنبيه عليه مراراً أنه يأتي للتأكيد، فهو يسجل عليهم جريمتهم، وأنها صادرة منهم، وهذا كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، ومعلوم أن الكتابة لا تكون إلا باليد، وإنما يتكلم الإنسان بفيه، وهكذا حينما يقول تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] والطائر إنما يطير بجناحيه، وأشباه ذلك، وإن كان لكثير منها في موضعه توجيهات أخرى، ولكنها لا تخرج عما ذكرت من حيث الأصل، يعني يقال: إن ذلك ليسجل عليهم هذا، أو يقال: هذا للتأكيد، ثم يذكر معه معنىً آخر، في مثل قوله مثلاً: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ يقول: لينبه، لينبه على أن المراد بذلك الحقيقة وليس المراد بذلك مجرد الإسراع؛ لأن العرب تكني عن السرعة والإسراع بمثل هذا، تقول: طار إليه، طاروا إليه زرافات ووحداناً، فهو يقول: طائر يطير بجناحيه، طائر حقيقي، وبعضهم يقول غير ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب، والبهتان، والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس - ا -: فَوَيْلٌ لَّهُم يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.هذا كما سبق في أخذهم للرشى فإنهم كانوا إذا جاءهم من يعطيهم الرشى فإنهم يكتبون له غير ما يجدونه في الكتاب؛ من أجل أن يوافقوا بغيته، وهواه، ومن دفع إليهم الرشوة وهو محق أخرجوا له الكتاب على وجهه وهكذا.
- أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات - باب: لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها (2539) (ج 2 / ص 953).
- أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء - باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3274) (ج 3 / ص 1275).
- أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320) (ج 4 / ص 560) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5292).