السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُوا۟ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة البقرة:79] الآية.
هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور، والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل.
والويل: الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة.
ذكر - تبارك وتعالى - جهلتهم، وعوامهم فقال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78]، ثم ذكر هؤلاء المحرفين قال سبحانه: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ [سورة البقرة:79]، وهذا التحريف كان يقع عادة من علمائهم، ومن أحبارهم الذين استحفظوا كتاب الله ، فتوعدهم الله بالويل فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ.
يقول: "والويل: الهلاك والدمار"، وهي كلمة مشهورة في لغة العرب: هذه اللفظة التي تتكرر كثيراً يفسرها العلماء في كثير من الأحيان بأنها واد في جهنم، وعلى كل حال هي كلمة للوعيد.
ولربما كان أصلها بمعنى الحزن، أو نحو ذلك، فمن أهل العلم من يقول: إن اللام زيدت في آخرها، وإن أصلها (وَي) أي حزن، ثم زيدت عليها اللام، وصارت تستعمل للوعيد أو بمعنى الهلاك، والدمار، فإذا توعدت إنساناً قلت له: ويل لك، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول غير هذا، وعلى كل حال يمكن أن تكون بمعنى الوعيد عموماً، ويمكن أن تكون بمعنى أنها واد في جهنم، مع أنه لا يصح عن النبي ﷺ فيما أعلم شيء في تحديد هذا المعنى.
وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس - ا - أنه قال: "يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرؤونه غضًا لم يُشَب.قوله: لم يُشَب: بضم الياء يعني لم يُخلط بغيره أو لم يداخله غيره من التحريف، والتبديل، أما يَشِب بنصب الياء يعني يكبر ويهرم، لكنها هنا لم يُشَب بمعنى لم يُخلط بغيره، ولم يحرف، كما قال القائل:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبت بماء فاستحكمن أبوالا
وقال الآخر:
شيبت بذي بشم من ماء محنية صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
فالشوب الخلط، ومحضاً يعني خالصاً صافياً، ويَشب يعني يهرم، وذلك لا يقال للكتاب، وإنما يقال لمن من شأنه أن يدركه الشيب.
تقرؤونه غضًا لم يشب؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً؛ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم"[1][رواه البخاري].هذا الأثر عن ابن عباس مهم جداً؛ لأنه ينهى من الأخذ عن بني إسرائيل، والتلقي عنهم، ورواية الإسرائيليات، ولذلك فإنه ينبغي أن يكون الموقف من هذه الإسرائيليات واضحاً محدداً، مع أن ابن عباس - ا - كان يأخذ من كتب أهل الكتاب، وينقل ذلك في التفسير، تارة بنسبته إليهم، وتارة من غير نسبة، وتعرفون خبره حينما اختلف مع مروان، أو مع معاوية في قوله - تبارك وتعالى -: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] - أو حامية فيها قراءتان متواترتان - فكتب إلى كعب الأحبار، قال لهم كعب الأحبار بأنهم يجدونها في التوراة "أنها تغرب في ثأَط وطين".
على كل حال هذا الأثر يحتاج إليه عند الكلام على الروايات الإسرائيلية، وهو من الآثار المهمة التي يستدل بها على ضرورة تخليص التفسير من هذه الروايات الإسرائيلية.
والحافظ ابن كثير - رحمه الله - بين حين وآخر في هذا الكتاب سيتحدث عن الروايات الإسرائيلية حديثاً خاصاً يلفت النظر إليها، ويبين أنه لا يلتفت إلى هذه الأقوال من جهة الاعتماد، وأنها أخبار لا تثبت، وهذا في أكثر من موضع في هذا الكتاب سيتحدث عنها بخصوصها، وعلى كل حال تحدث عنها كثيرون، ومن أحسن من تحدث عنها الشيخ: "أحمد شاكر" في مقدمته لعمدة التفسير، وكان أهم ما ذكره مما لا يكاد يوجد عند من يتحدثون عنها أن السلف حينما نقلوها لم ينقلوها على أنها مما يفسر به القرآن، وإنما ذكروها من باب وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[2] فيذكرونها للاستئناس لا أنهم يفسرون القرآن بها، وهذه قضية مهمة، فالقرآن لا يفسر بهذه الأشياء التي لا ندري ما حالها هل هي صحيحة ثابتة، أو غير صحيحة، لا يفسر القرآن بهذا، ولكن تذكر من باب الاستئناس مع أنها في أمور لا حاجة إليها، أبهمها الله ، ولو كان فيها فائدة لبيَّنها.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: "الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها".ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام-: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء[3].
وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] هو كقوله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91] ومعنى يكتبونه بأيديهم أي يكتبونه كتابة محرفة، فهذا معنى يكتبونه؛ لا أنهم ينسخون منه نسخاً صحيحة؛ إذ هذا لا إشكال فيه، وإلا كيف يتداول الناس الكتاب إلا بهذا، لكن المقصود هنا يكتبون الكتاب على غير وجهه.
وقوله: بِأَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:79] هذا ليسجل عليهم الجريمة، ومثل هذا الأسلوب كما سبق التنبيه عليه مراراً أنه يأتي للتأكيد، فهو يسجل عليهم جريمتهم، وأنها صادرة منهم، وهذا كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم [سورة آل عمران:167]، ومعلوم أن الكتابة لا تكون إلا باليد، وإنما يتكلم الإنسان بفيه، وهكذا حينما يقول تعالى: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] والطائر إنما يطير بجناحيه، وأشباه ذلك، وإن كان لكثير منها في موضعه توجيهات أخرى، ولكنها لا تخرج عما ذكرت من حيث الأصل، يعني يقال: إن ذلك ليسجل عليهم هذا، أو يقال: هذا للتأكيد، ثم يذكر معه معنىً آخر، في مثل قوله مثلاً: وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ يقول: لينبه، لينبه على أن المراد بذلك الحقيقة وليس المراد بذلك مجرد الإسراع؛ لأن العرب تكني عن السرعة والإسراع بمثل هذا، تقول: طار إليه، طاروا إليه زرافات ووحداناً، فهو يقول: طائر يطير بجناحيه، طائر حقيقي، وبعضهم يقول غير ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى: فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب، والبهتان، والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس - ا -: فَوَيْلٌ لَّهُم يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.هذا كما سبق في أخذهم للرشى فإنهم كانوا إذا جاءهم من يعطيهم الرشى فإنهم يكتبون له غير ما يجدونه في الكتاب؛ من أجل أن يوافقوا بغيته، وهواه، ومن دفع إليهم الرشوة وهو محق أخرجوا له الكتاب على وجهه وهكذا.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات -  باب: لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها (2539) (ج 2 / ص 953).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الأنبياء - باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3274) (ج 3 / ص 1275).
  3. أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد - باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله (2320) (ج 4 / ص 560) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5292).

مرات الإستماع: 0

"بِأَيْدِيهِمْ تحقيق لافترائهم."

يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ يعني: الكتابة لا تكون إلا بالأيدي كما هو معروف، فهذه يقال لها: الصفة الكاشفة. وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام: 38]، فالطائر يطير بجناحيه، فتكون صفة كاشفة؛ للتوكيد، لتأكيد المعنى، ابن جرير علل ذلك يعني أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم، الكتابة قد تُضاف إلى غير الكاتب إذا كان ذلك عن أمره، هو الذي أمر بهذا، فيقال: كتب فلان، والذي كتب غيره، لكن إذا كان بأمره فإنه يُضاف إليه، فهنا أكده أن ذلك سطروه بأناملهم قال: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ليس فقط أنهم أمروا غيرهم، فقد يقع فيه التحريف من غير علم، أو قصد، وإنما يكتبونه بأيديهم هم لا يأمرون غيرهم فيقع ذلك، ويجري على يد الكاتب.

"ثَمَناً قَلِيلًا عرض الدنيا من الرياسة، والرشوة، وغير ذلك."

يعني: كل ما يستعيضون به من هذا الحطام فهو قليل، الرُشى التي يأخذونها، وما يستعيضون به من الدنيا كل ذلك داخل فيه.

"يَكْسِبُونَ من الدنيا أو هي الذنوب."

هنا أطلقه فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فهذه المكاسب من الأموال، والرُشى الواقع أيضًا أنها جنايات، وجرائر يُعذبون بها، ويحاسبون عليها، فيدخل في هذا المكاسب المادية، ويدخل في هذا المكاسب الأخرى من الذنوب، والآثام، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: مِمَّا يَكْسِبُونَ، يعني: مما أكلوا به من السحت[1].

وابن جرير - رحمه الله - زاد على هذا: وما اجترحوا من الآثام، والخطايا[2] وذكر أن أصل الكسب العمل، يعني ابن جرير جمع بين المعنيين: الآثام، والمكاسب التي يأخذونها من الرشى، ونحو ذلك، ما أكلوا به من السحت هذا المعنى الأول الذي قاله ابن كثير، وزيادة عند ابن جرير: الخطايا، والآثام. 

  1. تفسير ابن كثير (1/313).
  2. تفسير الطبري (2/273).

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- يقول: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] كان من جرائم هؤلاء اليهود كما قص الله -تبارك وتعالى- أنهم يحرفون كلام الله بعد سماعهم له، وبعد معرفتهم تمام المعرفة، وعقلهم لمعناه، فهذه جراءة على الله -تبارك وتعالى- توعدهم الله على هذا الجرم بمثل هذه الآية: فَوَيْلٌ والويل المشهور في تفسيره أنه الهلاك يتوعدهم.

وبعضهم كما يقول أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- بأن الويل هو وادٍ في جهنم[1]. وهذا منقول عن جماعة من السلف -رضي الله عنهم وأرضاهم.

المقصود أن هذا وعيد لأولئك المحرفين الذين يكتبون الكتاب الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على موسى ويبدلون فيه ويغيرون ويحرفون ويضيفون ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- كل ذلك من أجل أن يقبضوا عرضًا من الدنيا قليل، وكل ما في هذه الدنيا قليل، ولا يمكن أن يستعاض بذلك ببذل الحق أو كتمانه أو تبديله وتحريفه وتغييره ولو أعطي الدنيا وما فيها.

فهؤلاء يتوعدهم الله -تبارك وتعالى- على هذا الإجرام وأخذ هذا العرض الذي يكون من قبيل الرشى ونحوها، فتوعدهم على هذه الكتابة وتوعدهم على هذا الأخذ والكسب: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات أن الله -تبارك وتعالى- حينما توعد هؤلاء المحرفين المبدلين الذين يغيرون ألفاظ الكتاب المنزل كذلك الذين يغيرون معانيه ويبدلونه، وكذلك أيضًا أولئك الذين قد يصنفون كتبًا أو ينشئون مقالات كما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله- ثم يضيفون ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- وهو مخالف لدينه وشرعه وحقيقة ما نزل على رسوله ﷺ فهؤلاء لهم شبه بأولئك.

ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ معلوم أن الكتابة لا تكون إلا بالأيدي ولكنه ذكر الأيدي هنا من باب التوكيد، وذلك -والله تعالى أعلم- كما مضى في بعض المناسبات أنه من باب زيادة التقريع والتقبيح، كذلك فيه تسجيل على هؤلاء بهذا الجرم، وإلا فالكتابة إنما تكون بالأيدي، وذكر الكتابة يَكْتُبُونَ قد يغني عن قوله: بِأَيْدِيهِمْ ولكنه ذكره؛ ليقرر -والله أعلم- هذا المعنى، فهو مما يحسن فيه التوكيد، يقال: هذا ما كتبته بيدك، هذا ما نقشته بيمينك، هذا سطرته بقلمك.

وهكذا تقول: مشى إليه برجله، وقال بفيه يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [سورة آل عمران:167] فهذا كله لتحقيق وقوع هذا الفعل وصدور هذا الفعل عنهم، فهم عامدون قاصدون، يعني كما يقال: مع سبق الإصرار على الفعل، لم يكن ذلك عفوًا أو خطأ وإنما كان عن قصد وعمد، وإنما فعلوا ذلك من أجل أن يشتروا به ثمنًا قليلاً.

والتعبير هنا بالقليل لا يقتضي أن الذي أخذوا عليه إنما هو دراهم معدودة، يمكن أن يكون هذا، ولكن لو أنهم أعطوا عليه الأحمر والأصفر فإن ذلك يُعد قليلا، فالدنيا كل ما فيها فهو قليل، لا يمكن أن يُبدل دين الله -تبارك وتعالى- وأن يُبدّل الحق المنزل بشيء من هذا العرض الزائل الفاني، فهؤلاء جعلوا باطلهم شركًا يصطادون به أموال الناس، ويأخذون ما في أديهم، فوقعوا في ظلمهم من جهتين:

الأولى: أنهم كتموا وكذبوا وبدلوا وغيروا، فإن هذا التبديل يقتضي كتمان الحق، وفيه زيادة أيضًا إذ إنهم أضافوا إلى الله -تبارك وتعالى- ما ليس من كلامه، وكذلك أيضًا: ظلموا الناس بأخذ أموالهم بغير حق، فصار الظلم مضاعفًا، بإظهار غير الحق بالكذب على الناس.

والأمر الآخر: هو أخذ ما في أيدي الناس من الأموال بغير وجه حق، وهذا أعظم ممن يأخذ الأموال سطوًا، أو يأخذ الأموال خلسة، أو يأخذ الأموال سرقة، فإن هذا استعاضة بالتحريف والتبديل فالأمر ليس بالشيء السهل.

ثم أيضًا هنا قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ما قال: فويل لهم مما قالوا، وإنما قال: مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وذلك -والله أعلم- أن الكتابة متضمنة للقول وزيادة، فهذا الذي كتبوه يمكن أن يقال عن المكتوب: بأنه قول فلان، هذا قول فلان وقد كتبه، إضافة إلى أن الكتابة أوثق، فالقول قد يذهب ولكن الكتابة تبقى، فهذا جمع بين كذب اللسان وكذب اليد فهو أبلغ؛ لأن كلام اليد كما سبق يبقى رسمه وأما القول فيضمحل أثره، والله تعالى أعلم.

وهؤلاء اليهود قال الله -تبارك وتعالى- أيضًا: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فهنا قال: يَكْسِبُونَ فعبر عن ذلك بالمستقبل، وأما الكتابة فقال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ كتبت أيديهم بلفظ الماضي، بعض أهل العلم كما يقول الراغب الأصفهاني[2] يقولون: بأن ذلك من قبيل التنبيه على ما قال النبي ﷺ: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة[3].

فهذا الذي أصَّلوه من الباطل، وهذا الذي دونوه وكتبوه من التحريف والتبديل هو من جملة اكتسابهم، فذلك يسري في الناس فيحصل لهم من الآثام المتجددة، والذنوب المتعاقبة ما بقي ذلك ساريًا في الناس، من سن في الناس سنة سيئة فعليه وزرها يعني ما بقيت، فهذا يتردد على الأسماع، ويغتر به طوائف من الناس، ويتناقلونه ويكتبونه فيبقى هذا الوزر يتجدد على هؤلاء: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ الكتابة كانت في الماضي وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فيصير الكسب بهذا الاعتبار ينتظم المعنين:

كسب الآثام والنتائج المترتبة على هذه الكتابة.

وكذلك كسب الأموال.

وأيضًا التعبير بالجملة الاسمية في هذه المواضع الثلاثة فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثم قال: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ثم قال: وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فالجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام، فهذا الويل ثابت دائم لهم، فهم متوعدون بذلك.

وكذلك التنكير في قوله: فويل فإن ذلك يدل على التعظيم والتهويل، فإن من الأغراض التي لها التنكير التهويل والتعظيم.

وهذا التكرار في ذكر الويل في الكسب فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ما قال: ومما يكسبون، وإنما قال: وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فكرر الويل ليدل -والله تعالى أعلم- على أن ذلك من قبيل الذنب المستقل المتوعد عليه؛ لئلا يتوهم لو أنه ذكر الويل مرة واحدة، لو أنه قال: فويل لهم مما كتبت أيديهم وما يكسبون، لكان ذلك باجتماع الأمرين: الكتابة والكسب، لكن الواقع أن الكتابة بحد ذاتها، التحريف بحد ذاته ولو لم يحصل معه كسب فهم متوعدون عليه، وهذا الكسب الذي هو من قبيل الرُشى كذلك هم متوعدون عليه، فذكر هذا وهذا؛ ليبين أن كل واحد مستقل بنفسه، وهذا كثير في القرآن.

وكذلك أيضًا هذه الأفعال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ هذا فعل مضارع يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُون وهذا فعل مضارع فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فهذا فعل مضارع، هذه الثلاثة أفعال جاء التعبير فيها بالمضارع لاستحضار الصورة الكائنة الواقعة في الزمن الماضي كأنك تشاهدها، ولهذا يقولون: إن التعبير عن الماضي بالمضارع يكون لتصوير الحال الكائنة في الماضي كأنك تراها، وهذا كثير في القرآن، وقد مضى نظائر لهذا يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [سورة البقرة:49] يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [سورة الأعراف:141] فهذا كأنك ترى التذبيح وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً [سورة يوسف:16] ما قال: باكين، وإنما قال: يَبْكُونَ [سورة يوسف:16] هو في زمن ماضي فعبر بالماضي كأنك ترى دموعهم تتساقط وهم يبكون أمام أبيهم، فإذا عبر عن الماضي بالماضي فذلك لتصوير الحال الواقعة كأنك تشاهدها -والله تعالى أعلم. 

  1.  تفسير الطبري (2/ 169). 
  2.  تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 241). 
  3.  أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، برقم (1017).