قوله: أتى بـ"أم" التي بمعنى بل: أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب، و"أم" هذه تحتمل هذا المعنى بمعنى بل، أي: أتخذتم عند الله عهداً بل تقولون على الله ما لا تعلمون، وتحتمل أن تكون أم هذه هي أم المعادلة، فعلى كل حال "أم" إذا قلنا بأنها بمعنى بل، فإن ذلك يعني القطع، بمعنى أن ما بعدها ليس بداخل فيما قبلها، وهي بمعنى لكن أو بمعنى بل، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون، وإذا قلنا بأنها معادلة فالمعنى أي الأمرين كائن وواقع منكم.
وقال العوفي عن ابن عباس: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل.
قوله: مدة عبادتهم العجل: أي أنهم يقولون: نعذب بهذا القدر، ثم تخلفوننا فيها، يعنون المسلمين، وجاء عنهم أيضاً فيما نقل عنهم في هذه الكتب أنهم حسبوا المدة التي تقطع فيها النار فوجدوها أربعين، فقالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً بمعنى مدة هذا الاجتياز، وفي بعض تلك الأشياء التي تنقل عنهم أنهم حسبوا الدنيا فوجدوا أن عمرها كما زعموا سبعة آلاف سنة، فقالوا: نجلس في كل ألف عام يوماً واحداً، ومعنى ذلك أنهم يجلسون سبعة أيام.
وقولهم: إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً هذا الأسلوب يشعر بالتقليل، أي: سنمكث فيها أيام معدودة قليلة ثم بعد ذلك نخرج منها.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه - رحمه الله -: عن أبي هريرة قال: "لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله ﷺ شاة فيها سم، فقال رسول الله ﷺ: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا فقال لهم رسول الله ﷺ: من أبوكم؟ قالوا: فلان. قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبَرِرْت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله ﷺ: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله ﷺ: اخسؤوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا، ثم قال لهم رسول الله ﷺ: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟، فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك"[1] [ورواه أحمد والبخاري والنسائي بنحوه].
على كل حال مثل هذه الآية: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فإنه يمكن بطريق الاستقراء - الذي يمكن أن يكون في أغلب المواضع في القرآن - أن يذكر معها القاعدة التي هي أن من عادة القرآن أنه إذا ذكر قول القائلين فإما أن يبطله، أو يذكر ما يدل على بطلانه، وإما أن يسكت عنه، فما ذكر معه ما يدل على البطلان فإنه يؤخذ منه أنه باطل، وما لم يذكر معه ما يدل على البطلان فقد يفهم من ذلك أنه صحيح.
وتارة يذكر أمرين اثنين من قولهم ودعاواهم فيبطل الباطل، ويسكت عن الصحيح، مثاله: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] فـوَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا هذه دعوى، ووَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا فرد عليهم بواحدة، وسكت عن الأخرى، قال تعالى: قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء، ولم يقل لهم: لم تجدوا آباءكم على ذلك؛ فدل على صحته، وهم فعلاً وجدوا آباءهم على الفواحش.
ومثل هذا قصة أصحاب الكهف في الحديث عن عددهم، فإن الله لما ذكر عن قيلهم أنهم ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ قال: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22]، فدل على أنه ليس هذا هو العدد، ولما ذكر وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف:22] ما ذكر ما يدل على بطلانه، فاستنتج منه بعض أهل العلم - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أن عددهم كان سبعة وثامنهم كلبهم.
أقول: هذا هو الغالب وإلا فالقواعد عموماً لها استثناءات، ويكفي أن تكون قاعدة بمعنى أنها غالبة، ولذلك ففي قوله - تبارك وتعالى - في سورة الكهف عن أولئك الذين قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21] لم يعقب على ذلك بشيء، والمفسرون مختلفون في تحديد قائل هذه المقالة؟ هل هم أهل الإيمان، أو أن هؤلاء من أهل الإشراك لما رأوهم أرادوا أن يقدسوهم فقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا؟ ولذلك تجد الخرافيين من القبوريين، والصوفية؛ يحتجون بمثل هذه الآية، ويقولون: الله ما ذكر ما يرد ذلك، فيجاب عنهم بأجوبة، يقال لهم: أولاً القواعد أغلبية، وهذا من استثناءات القاعدة.
والأمر الثاني: أن شرع من قبلنا، ليس بشرع لنا إذا وجد في شرعنا ما يخالفه، والنصوص عندنا كثيرة في التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فهذا واضح وصريح.
وعلى كل حال فالأقرب أن ذلك لم يكن من قول أهل الإيمان؛ فإن تعظيم القبور، والبناء عليها؛ ليس من عمل أهل الإيمان، ولا يقر أحد عليه لا في هذه الشريعة، ولا قبلها، ولهذا قال النبي ﷺ: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[2] ولو كان ذلك سائغاً في شريعتهم لما لحقهم اللعن بسببه فهو أمر غير جائز، وليس ذلك مختصاً بهذه الشريعة وإنما ذلك إنما يصدر من المشركين الذين يعظمون القبور، ويعبدونها من دون الله .
- أخرجه البخاري في أبواب الجزية والموادعة - باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم (2998) (ج 3 / ص 1156).
- أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز - باب ما جاء في قبر النبي ﷺ وأبي بكر وعمر (1324) (ج 1 / ص 468) ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة - باب: النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (529) (ج 1 /ص 376).