الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَقَالُوا۟ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلَّآ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُۥٓ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة:80] يقول تعالى إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه، وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينجون منها، فردَّ الله عليهم ذلك بقوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا [سورة البقرة:80] أي: بذلك؟ فإن كان قد وقع عهد فهو لا يُخْلِف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى: بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.هذه الطريقة في الرد معروفة، وذلك أن الحال لا يخلو بطريقة السبر والتقسيم العقليين من أحد أمرين لا ثالث لهما، فهذا القول الذي قالوه إما أن يكون بطريق عهد من الله ثابت لهم، وإما أن يكون ذلك قالوه من عند أنفسهم، وليس هناك طرف ثالث في القسمة، فإما أن يكون ذلك من الله بعهد، وإما أن يكون من قبيل الاختلاق، هذا ما يسمى بالتقسيم، إما هذا وإما هذا، وهذا أحد أمثلة التقسيم الصحيح وهو حصر الأوصاف المحتملة، وشرطه الاستيعاب بحيث أن المعترض لا يقول لك: لا، بقي طرف ثالث في القسمة، أو طرف رابع لم تذكره، ثم السبر هو أن تختبر هذه الأوصاف فتقول مثلاً: أما إنه بعهد فهذا غير موجود، فإن كان عندكم عهد فأخرجوه، وبقيت الثانية وهي أنه ما دام ليس هناك شيء آخر فأنتم تقولون على الله الكذب، وتقولون على الله ما لا تعلمون، وهذه الطريقة موجودة في القرآن، وهي من طرق الاستدلال الصحيح، وتذكر أيضاً في كتاب القياس في أصول الفقه عند الكلام على استخراج العلة - طرق استنباط العلة - فإنها كما هو معروف من أشهر طرقها: المناسب، والسبر والتقسيم العقليين وأشباه ذلك.
قوله: أتى بـ"أم" التي بمعنى بل: أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب، و"أم" هذه تحتمل هذا المعنى بمعنى بل، أي: أتخذتم عند الله عهداً بل تقولون على الله ما لا تعلمون، وتحتمل أن تكون أم هذه هي أم المعادلة، فعلى كل حال "أم" إذا قلنا بأنها بمعنى بل، فإن ذلك يعني القطع، بمعنى أن ما بعدها ليس بداخل فيما قبلها، وهي بمعنى لكن أو بمعنى بل، أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون، وإذا قلنا بأنها معادلة فالمعنى أي الأمرين كائن وواقع منكم.
وقال العوفي عن ابن عباس: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل.
قوله: مدة عبادتهم العجل: أي أنهم يقولون: نعذب بهذا القدر، ثم تخلفوننا فيها، يعنون المسلمين، وجاء عنهم أيضاً فيما نقل عنهم في هذه الكتب أنهم حسبوا المدة التي تقطع فيها النار فوجدوها أربعين، فقالوا: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً بمعنى مدة هذا الاجتياز، وفي بعض تلك الأشياء التي تنقل عنهم أنهم حسبوا الدنيا فوجدوا أن عمرها كما زعموا سبعة آلاف سنة، فقالوا: نجلس في كل ألف عام يوماً واحداً، ومعنى ذلك أنهم يجلسون سبعة أيام.
وقولهم: إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً هذا الأسلوب يشعر بالتقليل، أي: سنمكث فيها أيام معدودة قليلة ثم بعد ذلك نخرج منها.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه - رحمه الله -: عن أبي هريرة قال: "لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله ﷺ شاة فيها سم، فقال رسول الله ﷺ: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا فقال لهم رسول الله ﷺ: من أبوكم؟ قالوا: فلان. قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبَرِرْت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله ﷺ: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله ﷺ: اخسؤوا، والله لا نخلفكم فيها أبدًا، ثم قال لهم رسول الله ﷺ: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟، فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًا لم يضرك"[1] [ورواه أحمد والبخاري والنسائي بنحوه].
على كل حال مثل هذه الآية: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً [سورة البقرة:80] فإنه يمكن بطريق الاستقراء - الذي يمكن أن يكون في أغلب المواضع في القرآن - أن يذكر معها القاعدة التي هي أن من عادة القرآن أنه إذا ذكر قول القائلين فإما أن يبطله، أو يذكر ما يدل على بطلانه، وإما أن يسكت عنه، فما ذكر معه ما يدل على البطلان فإنه يؤخذ منه أنه باطل، وما لم يذكر معه ما يدل على البطلان فقد يفهم من ذلك أنه صحيح.
وتارة يذكر أمرين اثنين من قولهم ودعاواهم فيبطل الباطل، ويسكت عن الصحيح، مثاله: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28] فـوَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا هذه دعوى، ووَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا فرد عليهم بواحدة، وسكت عن الأخرى، قال تعالى: قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء، ولم يقل لهم: لم تجدوا آباءكم على ذلك؛ فدل على صحته، وهم فعلاً وجدوا آباءهم على الفواحش.
ومثل هذا قصة أصحاب الكهف في الحديث عن عددهم، فإن الله لما ذكر عن قيلهم أنهم ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ قال: رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22]، فدل على أنه ليس هذا هو العدد، ولما ذكر وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [سورة الكهف:22] ما ذكر ما يدل على بطلانه، فاستنتج منه بعض أهل العلم - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أن عددهم كان سبعة وثامنهم كلبهم.
أقول: هذا هو الغالب وإلا فالقواعد عموماً لها استثناءات، ويكفي أن تكون قاعدة بمعنى أنها غالبة، ولذلك ففي قوله - تبارك وتعالى - في سورة الكهف عن أولئك الذين قالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21] لم يعقب على ذلك بشيء، والمفسرون مختلفون في تحديد قائل هذه المقالة؟ هل هم أهل الإيمان، أو أن هؤلاء من أهل الإشراك لما رأوهم أرادوا أن يقدسوهم فقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا؟ ولذلك تجد الخرافيين من القبوريين، والصوفية؛ يحتجون بمثل هذه الآية، ويقولون: الله ما ذكر ما يرد ذلك، فيجاب عنهم بأجوبة، يقال لهم: أولاً القواعد أغلبية، وهذا من استثناءات القاعدة.
والأمر الثاني: أن شرع من قبلنا، ليس بشرع لنا إذا وجد في شرعنا ما يخالفه، والنصوص عندنا كثيرة في التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فهذا واضح وصريح.
وعلى كل حال فالأقرب أن ذلك لم يكن من قول أهل الإيمان؛ فإن تعظيم القبور، والبناء عليها؛ ليس من عمل أهل الإيمان، ولا يقر أحد عليه لا في هذه الشريعة، ولا قبلها، ولهذا قال النبي ﷺ: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[2] ولو كان ذلك سائغاً في شريعتهم لما لحقهم اللعن بسببه فهو أمر غير جائز، وليس ذلك مختصاً بهذه الشريعة وإنما ذلك إنما يصدر من المشركين الذين يعظمون القبور، ويعبدونها من دون الله .
  1. أخرجه البخاري في أبواب الجزية والموادعة -  باب: إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم (2998) (ج 3 / ص 1156).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز - باب ما جاء في قبر النبي ﷺ وأبي بكر وعمر (1324) (ج 1 / ص 468) ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة - باب: النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (529) (ج 1 /ص 376).

مرات الإستماع: 0

"أَيَّاماً مَعْدُودَةً أربعين يومًا عدد عبادتهم العجل، وقيل: سبعة أيام."

يعني: بعضهم يقول: إن قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً يعني: بقدر عبادتنا العجل. وعبادتهم العجل كانت في مدة غياب موسى ﷺ في الميقات، وذلك في أربعين ليلة، فبعضهم يقول هذا هو المراد - والله أعلم -.

"أَتَّخَذْتُمْ الآية تقرير يقتضي إبطال قولهم."

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- يقول: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:80- 82].

يقول الله -تبارك وتعالى- عن بني إسرائيل وقيلهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ بمعنى: أنه لن يدخلوا النار، ولن يقاسوا حرها، إلا مدة يسيرة، بقدر عبادتهم للعجل إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قليلة العدد، فأمر الله -تبارك وتعالى- رسوله ﷺ أن يرد عليهم بهذا الرد: أعندكم عهد من الله بهذا؟ والله لا يخلف عهده أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ بافتراء الكذب بالقول على الله -تبارك وتعالى- من غير حجة ولا برهان، والواقع أنه ليس لهم شيء من ذلك العهد، فما بقي إلا الأمر الآخر.

فهذه الآية يُؤخذ منها: حسن المجادلة، وطريقة الجدال في القرآن، فإن ذلك من العلوم المعروفة التي تتصل بكتاب الله -تبارك وتعالى- علم الجدل والحجاج في القرآن، وقد ألف العلماء في ذلك مصنفات، وطريقة القرآن تتميز عن طريقة الجدليين من أهل العلوم الكلامية، فإنها طريقة قصيرة مختصرة وموجزة، تنطلق من المسلّمات، ولا تشتغل بتقريرها، كما هي طريقة المتكلمين، وإنما يكون ذلك انطلاقًا من هذه الأمور المسلّمة التي لا تحتاج إلى إثبات، على تنوع في الأساليب، أساليب الجدل في القرآن.

فهنا حصر الحال بأمرين: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدً أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ فالحال لا تخرج عن هاتين، والواقع أنه ليس لهم عهد عند الله بهذا، فما بقي إلا الثاني، فهذا يكون بحصر الأوصاف، ثم بعد ذلك باختبارها، ما يسمى بالسبر والتقسيم العقليين، يذكر الأوصاف الممكنة أو المحتملة، ثم بعد ذلك يبطل منها ما لا يكون صحيحًا، ويبقى بعد ذلك السبب والعلة التي تصلح في ذلك المقام.

وفي قوله -تبارك وتعالى: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ فهذا أمر معلوم أن الله لا يخلف الميعاد؛ وذلك يتضمن صفتين عظيمتين: العهد والوعد من الله -تبارك وتعالى- الذي لا يُخلف، فهذا لا بد أن يكون صدقًا، فإن إخلاف المواعيد هو نوع من الكذب؛ ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال بخلف المواعيد[1] والنبي ﷺ ذكر صفات المنافق قال: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان[2].

والواقع أن هذه الثلاث جميعًا ترجع إلى الكذب، فهذا الذي إذا وعد أخلف الواقع أنه كاذب بميعاده، فقال قولاً، ووعد وعدًا، ولكنه بالفعل خالفه، فلم يفِ بذلك، فهو كاذب بهذا الاعتبار، وكذلك في الأمانة إذا خانها، فحال المنافق تدور على الكذب، كما هو ظاهر.

فالمقصود أن قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ الذي لا يخلف عهده لا بد أن يكون صادقًا، الأمر الثاني: أن يكون قادرًا؛ لأنه كما قال الله -تبارك وتعالى- في خبر يعقوب حينما أخذ العهد على بنيه أن يأتوه بولده الآخر، قال لهم: إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [سورة يوسف:66] بمعنى: أنه أخذ عليهم العهد على إرجاعه، لكن يبقى أمر يكون خارجًا عن قدرة الإنسان وإمكاناته، فيحصل الخُلف بسببه، فهذا بالنسبة لله -تبارك وتعالى- لا يكون؛ لأن الله على كل شيء قدير، فإذا وعد فإن وعهده لا يتخلف، وهؤلاء ليس لهم عهد عند الله -تبارك وتعالى- وإلا فإن الله أصدق ما يقول، وهو القادر على كل شيء، وإنما التخلف إما لكذب، وإما لعجز، فلا يخرج عن هذين، فكون الله -تبارك وتعالى- لا يخلف الميعاد هذا يدل على كمال صدقه، وكمال قدرته.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا في قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (أم) هذه هي التي تسمى المعادِلة لهمزة الاستفهام، والاستفهام هنا على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو على التقرير والتقريع أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ هو الواقع أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وهذا يدل على غرور هؤلاء من بني إسرائيل وعلى تعلقهم بالأماني، وهو أحد المعاني التي فسر بها قوله -تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78].

وقد قلنا في ليلة مضت: بأن قوله: إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: قراءة، تمنى كتاب الله يعني: قرأ كتاب الله، والمعنى الآخر: إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: أماني يتمنونها، كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [سورة البقرة:111] ثم رد الله -تبارك وتعالى- عليهم بقوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:81] فحكم الله -تبارك وتعالى- بأن من ارتكب الآثام، حتى قادته إلى الكفران أن هذا ممن استولت عليه ذنوبه من جميع جوانبه، فأحاطت به خطيئته، وهذا لا يكون بطبيعة الحال إلا لمن وقع في الكفر الأكبر، والإشراك الأعظم، فإن الخطيئة لا تحيط بصاحبها، إلا إذا كانت من هذا القبيل، كما سيتضح - إن شاء الله تعالى.

فالمشركون والكفار هم الذين يلازمون النار فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يخرجون منها أبدًا، وهذا لا يكون لأصحاب الذنوب والكبائر والخطايا فيما دون الإشراك، وإذا أصحاب النار فإن ذلك يعني الصحبة، بمعنى الملازمة للنار، أي: أنهم لا يخرجون منها، وأكد هذا المعنى بقوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وأكد طرفي الكلام، النسبة بينهما بإدخال ضمير الفصل (هم) يقول: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ولم يقال: فأولئك أصحاب النار خالدون فيها، وإنما قال: هم فيها فإدخال ضمير الفصل بين طرفي الكلام لتقوية النسبة، نسبة هؤلاء، أو نسبة الخلود في النار إلى هؤلاء الذين وصفوا بهذه الصفات.

فهذه الإحاطة كما قال الله -تبارك وتعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] تبسل بمعنى: تحتبس عما فيه نجاتها في الدنيا والآخرة، فهذه المعاصي، لا شك أنها قيد لصاحبها، كما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله[3] وحبس له، ومانع له عن الجولان في فضاء التوحيد، وحائل بينه وبين أن يجني ثمار الأعمال الصالحة، فهو محبوس هنا في الدنيا، ومحبوس في الآخرة بسبب جرائمه وجرائره التي هي الكفر بالله والإشراك به بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً فهنا لاحظ لم يذكر حسنة، وإنما قال: سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ والله لا يظلم مثقال ذرة، فدل على أنها سيئة لا حسنة معها، ومتى تكون السيئة التي لا حسنة معها؟

هي سيئة الإشراك، التي لو مزجت بمياه البحار لمزجتها، التي لا ينفع معها عمل وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23] أعمالهم كرماد، أعمالهم كسراب، هذه أعمال الكافرين؛ لأن الإشراك يحبط سائر الأعمال وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88] فهذا لا يكون إلا لسيئة الكفر، ولاحظوا التنكير في قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً فهذا التنكير يدل على التعظيم في هذا الموضع؛ وذلك يصدق على سيئة الإشراك، والكفر بالله

  1.  الفروع وتصحيح الفروع (11/ 92) والمبدع في شرح المقنع (8/ 138) والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (11/ 152). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33) ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59). 
  3.  أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 7).