الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَٰطَتْ بِهِۦ خَطِيٓـَٔتُهُۥ فَأُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:81]
يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنه من عمل سيئة، وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات؛ فهذا من أهل النار.
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة البقرة:82] أي آمنوا بالله، ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة.
هذه الآية فيها سؤال معروف عند العلماء وهو أن الله قال: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:81]، فذكر أنهم أصحاب النار، ومعنى أصحاب النار أي الملازمون لها، ولا يقال ذلك إلا لمن كان ملازماً للشيء، وأهل الإيمان ليسوا من أصحاب النار وإن عذبوا فيها بعض الوقت، وفي قوله: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ لم يحدد هذه الخطيئة وإنما وصفها بهذه الصفة وهي الإحاطة بصاحبها، ثم إنه ذكر الخلود بسبب هذه الخطيئة، فما المراد بهذه الخطيئة التي استوجبت هذا الخلود، والملازمة لهذه النار؟!
الحافظ ابن كثير فسر ذلك بأن جميع أعمال هذا الذي استوجب هذه الملازمة للنار كانت سيئات، وليس له حسنة، ولا شك أن من كان بهذه المثابة فقد أحاطت به خطيئته، ومعنى ذلك أنه ليس من أهل الإيمان؛ لأن الإيمان أعظم حسنة، وحديث البطاقة في ذلك معروف، فدل ذلك على أن هذا الإنسان ليس من أهل الإيمان، ولم يعمل خيراً قط، فلا شك أن هذا داخل في هذا المعنى - أحاطت به خطيئته -، ولكن هل يدخل فيه غيره؟
بعض أهل العلم يقول: هذا في أصحاب الكبائر، وهذا غير صحيح أبداً؛ إلا أن يقيد ذلك بنوع من الكبائر وهو الإشراك فقوله تعالى: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [سورة البقرة:81] تفسر الخطيئة بالشرك؛ لأن الشرك هو الذي يحيط به.
وبعض أهل العلم يقول: هذا رجل تكاثرت ذنوبه فإن ذلك كما مثله النبي ﷺ بالقوم الذين نزلوا في مكان، فجعل هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود، حتى أوقدوا ناراً فأنضجوا ما معهم.
وعلى كل حال ينبغي أن يفسر هذا بالشرك سواء كان ذلك مع حسنات عنده فذلك لا ينفعه كما قال الله : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، وكما قال - جل وعلا -: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [سورة إبراهيم:18]، وكما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [سورة النور:39]، وبالتالي لا نحتاج معه إلى أن نقول: ليس له حسنة إطلاقاً، والعلم عند الله .
ومعنى الخطيئة في أصلها الذنب، وبعض أهل العلم يفرق بين الخطأ وبين الخطيئة، وبين المخطئ وبين الخاطئ، فيقولون: أخطأ يخطئ، فهو مخطئ، وهذا خطأ يراد به الوقوع في المخالفة من غير عمد، ويقولون: فلان خاطئ وهذه خطيئته، ولا يقولون: مخطئ، بل يقولون: خاطئ، وذلك لمن وقع في المخالفة عن قصد وعمد قال تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [سورة الجن:15]، ما قال المخطئون وقال: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [سورة العلق:16] ما قال: مخطئة، وبعضهم يقول: هما بمعنى واحد، والله أعلم.
وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [سورة النساء:123-124]
وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: أحاط به شركه.
وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خُثَيم: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: الذي يموت على خطايا من قبل أن يتوب، وعن السدي وأبي رزين نحوه.
لكن هذا القول كما سبق فيه إشكال، إذ لا يكون أصحاب الذنوب، وأصحاب الكبائر؛ مخلدون في النار إلا على مذهب الخوارج والمعتزلة.
وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، والله أعلم.
على كل حال هذه الأقوال ينبغي أن تقيد بأن المقصود بالكبيرة الإشراك؛ لأنه ذكر معها الخلود، وهذه الآية مما يحتج بها المعتزلة والخوارج على مذهبهم، ويجب على الإنسان أن يجمع بين النصوص؛ لأنه لو بقينا مع هذه الآية فقط فيمكن أن يؤخذ من ظاهرها ما يمكن أن ينزل على هذه الأقوال أو على بعضها، ولكن الشأن هو أن نجمع النصوص الواردة في الباب، فنجد أن النصوص الصريحة الصحيحة تدل على أن الموحدين لا يخلدون في النار، وأنهم يخرجون منها حتى أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أو حبة خردل من إيمان[1]، فإذا جمعت هذا وهذا اتضح لكن المراد، فنحن لا ننظر إلى النصوص بنظر أعور كما يفعل أهل البدع حيث يأخذون بعض النصوص، ثم يعملونها ويخرجون بقول مشوه، وأهل الإرجاء يأخذون النصوص الأخرى التي ينبغي أن تجمع مع هذا - مثل النصوص التي تدل على إخراج الموحدين من النار، وأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله[2] وأشباه ذلك، يأخذون هذه النصوص، ويخرجون بمذهب الإرجاء.
فإذا جمعت هذا وهذا تكون النتيجة أن أهل التوحيد أو أهل الإيمان يعذبون على ذنوبهم وجرائمهم، ولكنهم لا يخلدون في النار، وقد لا يحصل تعذيبهم بسبب حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو توبة قبل الموت، أو شفاعة، أو برحمة الله ولطفه؛ فيغفر لهم هذه الذنوب تفضلاً وتكرماً.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود  أن رسول الله ﷺ قال: إيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه[3].
وإن رسول الله ﷺ ضرب لهُم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى  جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها[4].
صنيع القوم: يعني الطعام.
  1. صحيح البخاري في كتاب: كتاب: التوحيد - باب: قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (6975) (ج 6 / ص 2695) وصحيح مسلم في كتاب:الإيمان - باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها (193) (ج 1 / ص 180).
  2. أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق - باب: العمل الذي يبتغي به وجه الله (6059) (ج 5 / ص 2360) ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة - باب: الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر (33) (ج 1 / ص 454).
  3. أخرجه أحمد (ج 1 / ص 402) والطبراني (ج 10 / ص 212) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2687).
  4. أخرجه أحمد (ج 1 / ص 402) والطبراني في الكبير (ج 10 / ص 212) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2687).

مرات الإستماع: 0

"بَلى تحقيق لطول مكثهم في النار، أو لقولهم ما لا يعلمون."

يعني: بَلَى أي ليس الأمر كما تمنيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وكما ذكرنا في القاعدة سابقًا أن القرآن حينما يورد مقالة فإما أن يذكر قبلها، أو معها، أو بعدها ما يدل على بطلانها، أو يسكت عنها، فإن سكت عنها فهذا يدل غالبًا على أنها صحيحة، وذكرنا لهذا أمثلة. بَلَى تحقيق لطول مكثهم في النار بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فذكر الصحبة هنا للنار يدل على الملازمة، والخلود الأبدي السرمدي، أو لقولهم ما لا يعلمون. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يعني تقولون على الله ما لا تعلمون.

"مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية في الكفار؛ لأنها ردّ على اليهود."

يقول: الآية في الكفار. يعني لئلا يُتوهم أن فعل المعاصي، والسيئات يكون سببًا في الخلود في النار كما يقوله الوعيدية من الخوارج، والمعتزلة، فإنهم يحكمون بالخلود عليه في النار هذا من جهة الحكم، أما من جهة الاسم فيختلفون فيه: فالخوارج يقولون: كافر. والمعتزلة يقولون: في منزلة بين المنزلتين. لكن في المآل يقولون: هو مخلد في النار. هذه التي يسمونها مسائل الأسماء، والأحكام، ماذا يسمى؟ هذه الأسماء، وما مصيره، وما حكمه؟ الخلود في النار، هذا من جهة الحكم.

يقول: من مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية في الكفار؛ لأنها رد على اليهود. السيئة هنا المقصود بها الشرك، وهذا الذي قال به السلف : كابن عباس، وأبي وائل، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، والربيع[1]؛ لأنه لا يحيط بالإنسان من الذنوب وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ إلا الشرك.

"ولقوله بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة في النار."

لأنه قابل بين هؤلاء، وبين أهل الإيمان فدل على أن من كسب سيئة، وأحاطت به خطيئته هو الكافر، ثم ذكر بعده ما يقابله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

  1. تفسير ابن كثير (1/315).

مرات الإستماع: 0

الله -تبارك وتعالى- يقول: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:80- 82].

يقول الله -تبارك وتعالى- عن بني إسرائيل وقيلهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ بمعنى: أنه لن يدخلوا النار، ولن يقاسوا حرها، إلا مدة يسيرة، بقدر عبادتهم للعجل إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قليلة العدد، فأمر الله -تبارك وتعالى- رسوله ﷺ أن يرد عليهم بهذا الرد: أعندكم عهد من الله بهذا؟ والله لا يخلف عهده أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ بافتراء الكذب بالقول على الله -تبارك وتعالى- من غير حجة ولا برهان، والواقع أنه ليس لهم شيء من ذلك العهد، فما بقي إلا الأمر الآخر.

فهذه الآية يُؤخذ منها: حسن المجادلة، وطريقة الجدال في القرآن، فإن ذلك من العلوم المعروفة التي تتصل بكتاب الله -تبارك وتعالى- علم الجدل والحجاج في القرآن، وقد ألف العلماء في ذلك مصنفات، وطريقة القرآن تتميز عن طريقة الجدليين من أهل العلوم الكلامية، فإنها طريقة قصيرة مختصرة وموجزة، تنطلق من المسلّمات، ولا تشتغل بتقريرها، كما هي طريقة المتكلمين، وإنما يكون ذلك انطلاقًا من هذه الأمور المسلّمة التي لا تحتاج إلى إثبات، على تنوع في الأساليب، أساليب الجدل في القرآن.

فهنا حصر الحال بأمرين: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدً أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ فالحال لا تخرج عن هاتين، والواقع أنه ليس لهم عهد عند الله بهذا، فما بقي إلا الثاني، فهذا يكون بحصر الأوصاف، ثم بعد ذلك باختبارها، ما يسمى بالسبر والتقسيم العقليين، يذكر الأوصاف الممكنة أو المحتملة، ثم بعد ذلك يبطل منها ما لا يكون صحيحًا، ويبقى بعد ذلك السبب والعلة التي تصلح في ذلك المقام.

وفي قوله -تبارك وتعالى: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ فهذا أمر معلوم أن الله لا يخلف الميعاد؛ وذلك يتضمن صفتين عظيمتين: العهد والوعد من الله -تبارك وتعالى- الذي لا يُخلف، فهذا لا بد أن يكون صدقًا، فإن إخلاف المواعيد هو نوع من الكذب؛ ولما قيل للإمام أحمد: بم يعرف الكذابون؟ قال بخلف المواعيد[1] والنبي ﷺ ذكر صفات المنافق قال: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان[2].

والواقع أن هذه الثلاث جميعًا ترجع إلى الكذب، فهذا الذي إذا وعد أخلف الواقع أنه كاذب بميعاده، فقال قولاً، ووعد وعدًا، ولكنه بالفعل خالفه، فلم يفِ بذلك، فهو كاذب بهذا الاعتبار، وكذلك في الأمانة إذا خانها، فحال المنافق تدور على الكذب، كما هو ظاهر.

فالمقصود أن قوله -تبارك وتعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ الذي لا يخلف عهده لا بد أن يكون صادقًا، الأمر الثاني: أن يكون قادرًا؛ لأنه كما قال الله -تبارك وتعالى- في خبر يعقوب حينما أخذ العهد على بنيه أن يأتوه بولده الآخر، قال لهم: إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [سورة يوسف:66] بمعنى: أنه أخذ عليهم العهد على إرجاعه، لكن يبقى أمر يكون خارجًا عن قدرة الإنسان وإمكاناته، فيحصل الخُلف بسببه، فهذا بالنسبة لله -تبارك وتعالى- لا يكون؛ لأن الله على كل شيء قدير، فإذا وعد فإن وعهده لا يتخلف، وهؤلاء ليس لهم عهد عند الله -تبارك وتعالى- وإلا فإن الله أصدق ما يقول، وهو القادر على كل شيء، وإنما التخلف إما لكذب، وإما لعجز، فلا يخرج عن هذين، فكون الله -تبارك وتعالى- لا يخلف الميعاد هذا يدل على كمال صدقه، وكمال قدرته.

ويُؤخذ من هذه الآية أيضًا في قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (أم) هذه هي التي تسمى المعادِلة لهمزة الاستفهام، والاستفهام هنا على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، أو على التقرير والتقريع أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ هو الواقع أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وهذا يدل على غرور هؤلاء من بني إسرائيل وعلى تعلقهم بالأماني، وهو أحد المعاني التي فسر بها قوله -تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [سورة البقرة:78].

وقد قلنا في ليلة مضت: بأن قوله: إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: قراءة، تمنى كتاب الله يعني: قرأ كتاب الله، والمعنى الآخر: إِلَّا أَمَانِيَّ يعني: أماني يتمنونها، كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [سورة البقرة:111] ثم رد الله -تبارك وتعالى- عليهم بقوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [سورة البقرة:81] فحكم الله -تبارك وتعالى- بأن من ارتكب الآثام، حتى قادته إلى الكفران أن هذا ممن استولت عليه ذنوبه من جميع جوانبه، فأحاطت به خطيئته، وهذا لا يكون بطبيعة الحال إلا لمن وقع في الكفر الأكبر، والإشراك الأعظم، فإن الخطيئة لا تحيط بصاحبها، إلا إذا كانت من هذا القبيل، كما سيتضح - إن شاء الله تعالى.

فالمشركون والكفار هم الذين يلازمون النار فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لا يخرجون منها أبدًا، وهذا لا يكون لأصحاب الذنوب والكبائر والخطايا فيما دون الإشراك، وإذا أصحاب النار فإن ذلك يعني الصحبة، بمعنى الملازمة للنار، أي: أنهم لا يخرجون منها، وأكد هذا المعنى بقوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وأكد طرفي الكلام، النسبة بينهما بإدخال ضمير الفصل (هم) يقول: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ولم يقال: فأولئك أصحاب النار خالدون فيها، وإنما قال: هم فيها فإدخال ضمير الفصل بين طرفي الكلام لتقوية النسبة، نسبة هؤلاء، أو نسبة الخلود في النار إلى هؤلاء الذين وصفوا بهذه الصفات.

فهذه الإحاطة كما قال الله -تبارك وتعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [سورة الأنعام:70] تبسل بمعنى: تحتبس عما فيه نجاتها في الدنيا والآخرة، فهذه المعاصي، لا شك أنها قيد لصاحبها، كما يقول شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله[3] وحبس له، ومانع له عن الجولان في فضاء التوحيد، وحائل بينه وبين أن يجني ثمار الأعمال الصالحة، فهو محبوس هنا في الدنيا، ومحبوس في الآخرة بسبب جرائمه وجرائره التي هي الكفر بالله والإشراك به بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً فهنا لاحظ لم يذكر حسنة، وإنما قال: سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ والله لا يظلم مثقال ذرة، فدل على أنها سيئة لا حسنة معها، ومتى تكون السيئة التي لا حسنة معها؟

هي سيئة الإشراك، التي لو مزجت بمياه البحار لمزجتها، التي لا ينفع معها عمل وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23] أعمالهم كرماد، أعمالهم كسراب، هذه أعمال الكافرين؛ لأن الإشراك يحبط سائر الأعمال وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88] فهذا لا يكون إلا لسيئة الكفر، ولاحظوا التنكير في قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً فهذا التنكير يدل على التعظيم في هذا الموضع؛ وذلك يصدق على سيئة الإشراك، والكفر بالله

  1.  الفروع وتصحيح الفروع (11/ 92) والمبدع في شرح المقنع (8/ 138) والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (11/ 152). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة المنافق برقم: (33) ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق برقم: (59). 
  3.  أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 7).