الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۝ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:84-86]
يقول - تبارك وتعالى - منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ﷺ بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديَّ الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم، ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث، والأمتعة، والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] ولهذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ [سورة البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضًا ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه كما قال تعالى: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54]، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال - عليه الصلاة والسلام -: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر[1].
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.
يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ واذكروا إذ أخذنا عهدكم الموثق أن لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ [سورة البقرة:84]، والسفك يقال على الإراقة، وأما الجراح اليسيرة التي لا يكون فيها إراقة الدماء فإن ذلك لا يقال له السفك، والمقصود بالسفك القتل، فـلاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ أي لا يسفك بعضكم دم أخيه هذا هو المراد، وليس المقصود بالآية أن لا يسفك الإنسان دمه، وإن كان ذلك يحرم بأدلة أخرى، لكن المقصود هنا لا يسفك بعضكم دم بعض، وقد ذكرنا علته سابقاً، وأشار إليها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في هذا الموضع.
قوله: وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ [سورة البقرة:84] أي: لا يخرج بعضكم بعضاً من دياره، وأصل الديار هي الأماكن التي يسكنها الناس سواءً كانت من المدر، أو كانت من غيره، وسواءً كانت ثابتة، أو مؤقتة، فيشمل ذلك البنيان، ويشمل أيضاً ما حوله من الأراضي الزراعية، وما أشبه ذلك كما قال الله : هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2] فديارهم تشمل الأراضي والمساحات التي ليس فيها بنيان، وإنما فيها زروعهم وأشباه ذلك، كما تشمل البنيان.
قوله: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] يمكن أن يكون ذلك متوجهاً إلى أجدادهم الذين أخذ عليهم هذا الميثاق أنهم أقروا بذلك، وشهدوا به، وصح الخطاب للذين كانوا في زمن النبي ﷺ؛ لأنهم منهم، وعلى طريقتهم، ومنهاجهم.
وقد سبق الكلام على أن الخطاب قد يتوجه إلى المعاصرين للنبي ﷺ مع أن ذلك قد وقع لأسلافهم، وعلى كل حال إذا كان الميثاق أخذ من أجدادهم فلا شك أن ذلك يشمل الذين كانوا في عهد النبي ﷺ إذ كان يحرم عليهم هذا الصنيع، وهم لا ينكرونه، بل يقرون بثبوته، وصحته.
  1. أخرجه البخاري في كتاب: كتاب البر والصلة والآداب - باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586) (ج 4 / ص 1999).

مرات الإستماع: 0

"لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ لا يسفك بعضكم دم بعض، وإعرابه مثل لا تعبدون."

كما سبق هنا لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ليس المقصود أن لا يقتل الإنسان نفسه، فهذا لا شك أنه حرام، ولكن لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، وهذا كما سبق في بعض المناسبات أنه ينزل النفوس المجتمعة على ملة واحدة، ودين منزلة النفس الواحدة، كما في قوله: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [النساء: 29] يعني: لا يأكل أحدكم مال أخيه، وكقوله - تبارك وتعالى -: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54]، يعني: ليقتل بعضكم بعضًا.

"وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ لا يخرج بعضكم بعضًا. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق، واعترفتم بلزومه. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بأخذ الميثاق عليكم. " 

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما قصه من خبر بني إسرائيل، وما كان منهم من العتو على الله -تبارك وتعالى- وعلى أنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] يذكرهم ويخاطب من وجد منهم في عهد النبي ﷺ في وقت التنزيل بما كان من أسلافهم، وكما ذكرنا أن المعرة اللاحقة للآباء تلحق الأبناء، إذا كانوا على طريقتهم.

فيقول لهم مخاطبًا: واذكروا يا بني إسرائيل وَإِذْ أَخَذْنَا وقلنا: إن مثل هذا يكون فيه مقدر محذوف: واذكروا إذ أخذنا، يعني أخذنا عليكم الميثاق، والميثاق: هو العهد المؤكد في التوراة بتحريم سفك دماء بعضهم لبعض، لا يحل لليهودي أن يقتل اليهودي، ولا أن يخرجه من دياره، وقد أقروا بذلك، واعترفوا، وهم يشهدون على صحته، لكن هؤلاء المردة لم يفوا بهذا العهد، ولم يحققوا ذلك، كما سيأتي.

فيُؤخذ من هذه الآية في مثل هذا التعبير: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ المعنى: لا يسفك بعضكم دم بعض، وكذلك في قوله: وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ يعني: ولا يُخرج بعضكم بعضًا، فالأمة المتحدة المجتمعة على ملة ودين أفرادها كالنفس الواحدة، وهذا له نظائر، وذكرنا شيئًا من ذلك في مناسبات سابقة، كقوله -تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [سورة النساء:29] فإن أحد المعاني المقولة فيه يعني: لا يقتل بعضكم بعضًا، وهو يصح أن يستشهد به على منع قتل الإنسان لنفسه، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [سورة النساء:29] يعني: لا يأكل مال أخيه فنُزلت النفوس المجتمعة على ملة ودين منزلة النفس الواحدة، فهذا يُؤخذ منه أن نفوس أهل الإيمان كالنفس الواحدة، فينبغي أن يحب لإخوانه ما يحبه لنفسه؛ ولذلك فإن النبي ﷺ مثّل حال الأمة في ترابطها وتعاطفها وتراحمها بمنزلة الجسد الواحد: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[1] لو أنه جرح أصبعه، فإن ذلك يتسبب عن ألم في جميع جسده، لو آلمه ضرسه فإن ذلك يؤدي إلى صداع الرأس، وما إلى ذلك من أتعاب وآلام.

  1.  أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم برقم: (6011) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم برقم: (2586).