يقول - تبارك وتعالى - منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ﷺ بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديَّ الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينهم، ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث، والأمتعة، والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] ولهذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ [سورة البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضًا ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه كما قال تعالى: فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ [سورة البقرة:54]، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال - عليه الصلاة والسلام -: مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر[1].
وقوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.يقول تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ واذكروا إذ أخذنا عهدكم الموثق أن لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ [سورة البقرة:84]، والسفك يقال على الإراقة، وأما الجراح اليسيرة التي لا يكون فيها إراقة الدماء فإن ذلك لا يقال له السفك، والمقصود بالسفك القتل، فـلاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ أي لا يسفك بعضكم دم أخيه هذا هو المراد، وليس المقصود بالآية أن لا يسفك الإنسان دمه، وإن كان ذلك يحرم بأدلة أخرى، لكن المقصود هنا لا يسفك بعضكم دم بعض، وقد ذكرنا علته سابقاً، وأشار إليها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في هذا الموضع.
قوله: وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ [سورة البقرة:84] أي: لا يخرج بعضكم بعضاً من دياره، وأصل الديار هي الأماكن التي يسكنها الناس سواءً كانت من المدر، أو كانت من غيره، وسواءً كانت ثابتة، أو مؤقتة، فيشمل ذلك البنيان، ويشمل أيضاً ما حوله من الأراضي الزراعية، وما أشبه ذلك كما قال الله : هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر:2] فديارهم تشمل الأراضي والمساحات التي ليس فيها بنيان، وإنما فيها زروعهم وأشباه ذلك، كما تشمل البنيان.
قوله: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ [سورة البقرة:84] يمكن أن يكون ذلك متوجهاً إلى أجدادهم الذين أخذ عليهم هذا الميثاق أنهم أقروا بذلك، وشهدوا به، وصح الخطاب للذين كانوا في زمن النبي ﷺ؛ لأنهم منهم، وعلى طريقتهم، ومنهاجهم.
وقد سبق الكلام على أن الخطاب قد يتوجه إلى المعاصرين للنبي ﷺ مع أن ذلك قد وقع لأسلافهم، وعلى كل حال إذا كان الميثاق أخذ من أجدادهم فلا شك أن ذلك يشمل الذين كانوا في عهد النبي ﷺ إذ كان يحرم عليهم هذا الصنيع، وهم لا ينكرونه، بل يقرون بثبوته، وصحته.
- أخرجه البخاري في كتاب: كتاب البر والصلة والآداب - باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586) (ج 4 / ص 1999).