الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
ثُمَّ أَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَٰرِهِمْ تَظَٰهَرُونَ عَلَيْهِم بِٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَٰرَىٰ تُفَٰدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْىٌ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰٓ أَشَدِّ ٱلْعَذَابِ ۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ [سورة البقرة:85] الآية: روى محمد بن إسحاق بن يسار عن ابن عباس - ا - ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ الآية، قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فدَاء أسراهم فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج.هذا الكلام يحتاج إلى مناقشة فهو يقول بأن بني قينقاع هم حلفاء الخزرج والنضير وقريظة هم حلفاء الأوس، والصواب أن النضير هم حلفاء الخزرج وقريظة هم حلفاء الأوس، ففي قصة بني قريظة لما جيء بسعد بن معاذ إنما اختاروه ليحكم بينهم؛ لأنهم حلفاؤه، فكان ذلك رجاء أن يحكم حكماً مخففاً عنهم للحلف الذي كان بينه وبينهم، ولهذا اجتمع عليه قومه من الأوس وكانوا يقولون له: الله الله في حلفائك؛ حيث أرادوا أن يصنعوا لهم معروفاً إذ كانوا ينافسون الخزرج، فالخزرج شفعوا في حلفائهم وهم بني النضير وقصة بني النضير معروفة، وخبر عبد الله بن أبي وهو من الخزرج في شفاعته لهم معروف، وقد شفع أيضاً لبني قينقاع، وإنما أظهر تبرمه واعتراضه لحكم النبي ﷺ وسعد بن معاذ في قريظة، وقال: يقتل أربعمائة دارع في غداة واحدة؟ يعني كيف يقتل أربعمائة رجل ممن يلبس الدروع أي أربعمائة ممن يصلح للقتال، وفي بعض التقديرات أنهم كانوا سبعمائة.
فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنة ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامة، ولا كتابًا، ولا حلالاً ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التوراة، وأخذًا به؛ بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم؛ مظاهرة لأهل الشرك عليهم.
يقول الله تعالى ذكره حيث أَنَّبهم بذلك: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] أي: تفادونهم بحكم التوراة، وتقتلونهم، وفي حكم التوراة ألا يقتل ولا يُخرج من داره، ولا يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله، ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة.
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك، وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها، ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله ﷺ ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله - عليهم الصلاة والسلام -، واليهود - عليهم لعائن الله - يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة البقرة:85] أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ أي: جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

مرات الإستماع: 0

"هؤُلاءِ منصوب على التخصيص بفعل مضمر."

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ منصوب على التخصيص بفعل مضمر يعني أخص هؤلاء.

"وقيل: هؤلاء مبتدأ، وخبره (أنتم)، وتقتلون حال لازمة تم بها المعنى."

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ هؤلاء أنتم، فيكون مبتدأ مؤخرًا، ثم هؤلاء أنتم تقتلون أنفسكم. تكون حالًا، عند ابن جرير: يحتمل معنيين:

الأول: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم ... إلخ.

الثاني: معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن "أنتم" وقد اعترض بينهم، وبين الخبر عنهم "بهؤلاء"[1].

"تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير: حلفاء الخزرج، وكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، وينفيه من موضعه إذا ظفر به. تَظاهَرُونَ أي تتعاونون. تُفادُوهُمْ قرئ بالألف، وحذفها، والمعنى واحد.

بالألف تُفَادُوهُمْ هذه قراءة نافع، وعاصم، والكسائي، والقراءة الأخرى: (تفدوهم) هذه قراءة باقي القرّاء. قال: والمعنى واحد.

المفاداة يمكن أن تكون باعتبار أن ذلك من الطرفين تُفَادُوهُمْ و (تفدوهم) يعني تشتروهم من العدو، وتنقذوهم، فقراءة تُفَادُوهُمْ باعتبار أن هذه بين طرفين من بيدهم الأسرى مع من يريد من يقابل ذلك من يريد الفداء، دفع الفدية.

"وكذلك أسارى بالألف، وحذفها جمع أسير."

يقال: الأسارى جمع أسرى، وأسرى جمع أسير، أسير يُجمع على أسرى، والأسرى يُجمع على أسارى هكذا يقول بعض أهل العلم، فهو جمع الجمع، الأسارى جمع أسرى، والأسرى جمع أسير، وأصل الأسر يقال بمعنى الحبس، والإمساك كما هو معلوم، وبعضهم يقول: مأخوذ من الإسار. يعني كان يُربط الأسير بعصب، أو بجلد من البعير الحديث القطع، أو السلخ، فييبس عليه، يصير مثل الحديد.

"وَهُوَ مُحَرَّمٌ الضمير للإخراج من ديارهم، وهو مبتدأ، وخبره محرّم، و إِخْراجُهُمْ بدل، والضمير للأمر، والشأن، وإخراجهم: مبتدأ، ومحرّم خبره، والجملة خبر الضمير."

ما هو المحرم عليهم؟ الإخراج، فهو محرم عليكم إخراجهم، و إِخْرَاجُهُمْ بدل، أو الضمير وَهُوَ أي الشأن، والأمر مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ

"أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم. وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ القتل، والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم."

يقولون يعني تتناقضون تخرجونهم، وتقتلونهم، وإذا وقعوا في الأسر عند العدو دفعتم الفداء، فتؤمنون ببعض الكتاب، وتكفرون ببعض، كل ذلك حرام عليكم الإخراج، والقتل، ويجب عليكم دفع الفداء لاستنقاذهم، وفكاكهم من الأسر، فأنتم تفعلون هذا، وتفعلون أيضًا ما حُرم عليكم من القتل، والإخراج.

"خِزْيٌ الجزية أو الهزيمة لقريظة، والنضير، وغيرهم، أو مطلق."

مطلق أي جزاء من يفعل ذلك، والخزي أصله الهوان، والهلاك، أصله الإبعاد. 

"وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي: جئنا من بعده بالرسل، وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول."

يعني: يتتابعون وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ كان بنو إسرائيل يسوسوهم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.

"الْبَيِّناتِ المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك."

بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل، وقيل الإنجيل، وقيل الاسم الذي كان يحيى به الموتى، والأول أرجح لقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ؛ ولقوله ﷺ لحسان: اللهم أيده بروح القدس[2]."

وهكذا في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193]، فالمقصود به جبريل - عليه الصلاة والسلام - وسمي بذلك روح القدس، قيل: لأنه يأتي بما به حياة الأرواح وهو الوحي.

أو لأنه ينزل بما يطهر النفوس، يحصل به تطهير النفوس، وهذا الوحي، يعني بمعنى أن هذه المادة القاف، والدال، والسين تدل على التطهير، والله من أسمائه القدوس، قيل: الطاهر.

هذا هو المشهور في تفسيره، وذكرت في بعض المناسبات أن هذه الكلمة تدل على تطهير، وزيادة، يعني تعظيم - والله أعلم - وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة: روح القدس يعني الروح المقدسة، فالموصوف روح، والصفة القدس، فالقدس الطهارة. وقيل: سمي بذلك؛ لأنه كان بتكوين من الله من غير ولادة.

وقيل: بأن القدس هو الله. روح القدس يعني أضيف إلى الله - تبارك وتعالى - إضافة مخلوق إلى الخالق: كبيت الله، وكما قال الله في عيسى ﷺ: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171]، يعني مخلوقة، وقيل غير هذا.

"تَقْتُلُونَ جاء مضارعًا مبالغة؛ لأنه أريد استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد ﷺ لولا أن الله عصمه."

استحضاره في النفوس يعني استحضار هذا الفعل القبيح الشنيع في النفوس، كأنك تشاهد هذا العمل ماثلًا أمامك، يعني عُبّر عن الشيء الذي مضى، وانقضى بالمضارع لتصوير الواقع في الماضي بحيث كأنك تشاهده ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ عَبّر بالمضارع، وهنا قال: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ [البقرة: 91]، وما قال: فلم قتلتم.

هو في الماضي؟ فإما أن يكون ذلك لتصوير الواقع في الماضي بحيث كأنك تشاهده، فعَبّر بالمضارع، أو يكون ذلك باعتبار أن هذا مستمر فقد وضع السُّم للنبي ﷺ وحاولوا قتله بإلقاء الرحى عليه، وفي آخر حياته ﷺ كان يقول: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم[3] فكان ذلك يُعاوده، يقول: فَلِمَ تَقْتُلُونَ فعبر بالمضارع باعتبار أن القتل مستمر، وآخر ذلك هذه المحاولة لقتل النبي ﷺ فهذان وجهان في تعليل التعبير بالمضارع. 

  1. تفسير الطبري (2/303- 304). 
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، رقم: (6152)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة باب فضائل حسان بن ثابت رقم: (2485).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته، رقم: (4428).

مرات الإستماع: 0

قال الله تعالى مبينًا حالهم بعد أخذ هذا الميثاق والعهد المؤكد: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:85] يخاطبهم كالخطاب السابق ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ يعني: يقتل بعضكم بعضًا، والقول فيه كما أسلفنا.

وقال: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ يعني: ويخرج بعضكم بعضًا من ديارهم، ويتقوى كل فريق منكم على إخوانه بالأعداء بغيًا وعدوانًا، اليهود الذين كانوا في المدينة: يهود قريظة، ويهود النضير، يهود النضير كانوا أحلافًا للخزرج، ويهود قريظة كانوا أحلافًا للأوس، وهم الذين حكم فيهم سيد الأوس سعد بن معاذ لأنهم رضوا أن ينزلوا على حكمه، باعتبار أنه كان حليفًا لهم في الجاهلية.

فكانت الحروب تقع بين الأوس والخزرج، وتستمر عقودًا متطاولة، فكان الحلفاء من اليهود حلفاء هؤلاء وحلفاء هؤلاء يخوضون هذه الحروب معهم، وهذه الحروب يحصل فيها قتل، ويحصل فيها أسرى، فهؤلاء اليهود الذي مع كل طائفة من طوائف العرب من الأوس والخزرج كان يحصل على أيديهم القتل لإخوانهم اليهود من الفريق الآخر، ويحصل أيضًا الأسر، فيأسرونه في جملة ما يأسرون، فكانوا يتناقضون، فيعمدون إلى قتلهم.

وكذلك أيضًا يأسرونهم ويخرجونهم من ديارهم، ويتظاهرون عليهم بالإثم والعدوان في هذه الحروب الجاهلية، وإذا جاءوا في حال الأسر دفعوا الفداء في فكاكهم، فكانوا بذلك يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، فإذا جاءوهم أسارى فادوهم، ودفعوا الفداء في سبيل فكاكهم، فكان هذا من دينهم، ولكنهم في الجانب الآخر يقتلونهم، ويخرجونهم من ديارهم، وهذا محرم عليهم، فالله -تبارك وتعالى- نعى عليهم ذلك الفعل القبيح، وهذا التناقض المشين، حيث آمنوا ببعض أحكام التوراة، وكفروا ببعضها، فليس لمن فعل ذلك منهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، وهو الذل والفضيحة والعار والشنار، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، في النار، وما الله بغافل عما يعملونه من هذه الأفعال المتناقضة السيئة.

ويُؤخذ من هذه الآية أن الإيمان يحرم على أهله أن يدخلوا في أحلاف تناقض مقتضى هذا الإيمان، وتناقض ما أُخذ عليهم في شرعهم وكتابهم، والمواثيق التي أخذها الله -تبارك وتعالى- على أهل الإيمان، تحت أي ذريعة كان ذلك، أو مصلحة متوهمة، فإن عهد الله -تبارك وتعالى- أحق أن يُوفى به، وشرعه -تبارك وتعالى- أحق أن يُتبع تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بسبب هذه الأحلاف التي كانت مع هؤلاء الفرقاء من الأوس والخزرج.

كذلك أيضًا فك الأسارى لا شك أنه من دين الله -تبارك وتعالى- كما أمر النبي ﷺ وبذلك جرى عمل المسلمين، وانعقد عليه الإجماع، وهو من أجل الأعمال وأشرفها: أن يفك الأسارى من المسلمين، ولو دفع آخر دينار أو درهم في بيت مال المسلمين، فهذا من الواجبات المفروضة على هذه الأمة، وهي من فروض الكفايات، إذا قام بها البعض سقط ذلك عن الباقين.

ثم أيضًا هذا الخطاب الذي خاطب الله به بني إسرائيل حينما ذكر الميثاق الذي أخذ عليهم، ثم بعد ذلك ما حصل منهم من النقض ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ قال بعد ذلك: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فإن الإيمان يقتضي الأخذ بشرائع الدين كاملة دون تذوق وانتقاء، فيأخذ ما يحلو له وما يوافق هواه، ويترك ما عدا ذلك، هذا خلاف مقتضى الإيمان، ولا يجوز بحال من الأحوال، والله قال في مثل هؤلاء: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فالهمزة هنا للإنكار، أي: استفهام إنكاري، وانظر الوعيد الذي ذكره بعده فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ هذا الخزي معجل لهم في الحياة الدنيا، ثم بعد ذلك العقوبة في الآخرة بالرد إلى أشد العذاب، فدل ذلك على أن هذا من أعظم الجرائم والمنكرات أن يأخذ الإنسان من الدين ما يحلو له ويوافق هواه، ويترك الباقي، فهذا من أعظم الجنايات، والله توعد أصحاب هذا بخزي في الدنيا، وعذاب في الآخرة.

فلا يمكن أن يتحقق للإنسان مطلوبه من اللذات، أو العز الذي يرجوه، أو التمكين، أو نحو ذلك، وهو يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، فمن أراد الفلاح والنجح والعزة في الدنيا والآخرة، فعليه أن يأخذ بشرع الله كما جاء من غير تفريق؛ ولذلك تجدون في آخر هذه السورة الكريمة لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [سورة البقرة:285] وقبله: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [سورة البقرة:285] إلى آخر ما قال، من غير تفريق بين الرسل، وكذلك أيضًا بما جاء به الرسول ﷺ.

ثم تأمّل التعبير في هذا الآية فيما يتعلق بالقتل والإخراج، فقال الله -تبارك وتعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا فعبّر بالفعل المضارع، وبالصيغة الخبرية التي نُزّل فيها الغائب منزلة الحاضر؛ وذلك أشد في التشنيع، وكما ذكرنا في مناسبة سابقة أن الفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، يعني كأنك ترى ذلك منهم عيانًا، يقتلون إخوانهم، ويخرجونهم من ديارهم، ويتظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وهذا أمر قد مضى، وكان في الزمن الغابر، فما قال: ثم أنتم هؤلاء قد قتلتم إخوانكم وأخرجتم فريقًا منهم من ديارهم، وإنما قال: تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فكأن ذلك يحدث ويتجدد أمام ناظرك.

ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فجاء بالخزي هنا منكرًا، وذلك يدل على التهويل والتعظيم، ثم قال: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فقدّم المسند إليه بغافل؛ وذلك لإفادة التخصيص، وتأكيد الوعيد.

ويُؤخذ من هذا الموضع أيضًا في الآية وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ فصفات الرب -تبارك وتعالى- منها ثبوتية، وهذا هو الغالب، فهذه الثبوتية مثل: العزة والحكمة والرحمة، والعلو والاستواء، كل هذا من الصفات الثبوتية، النوع الثاني: وهي الصفات السلبية، ومن هذه الصفات السلبية ما كان بصيغة النفي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [سورة البقرة:255] وَلا يَئُودُهُ يعني: ولا يعجزه حِفْظُهُمَا [سورة البقرة:255] وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وما أشبه ذلك، فهذا كله يقتضي ثبوت كمال ضده، بمعنى أن مثل هذا النفي الوارد في ما يتصل بصفات الله نفي النقائص في أوصافه تعالى، وفي أوصاف النبي ﷺ وفي أوصاف الملائكة، وفي أوصاف القرآن، كل هذا يقتضي ثبوت كمال ضده، إذا قال عن القرآن: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] فالنفي بمجرده لا يكون كمالاً ولا مدحًا، تقول مثلاً: هذه السارية لا تجهل، ليس فيه إثبات العلم لها، والشاعر يقول عن قبيلته على سبيل الهجاء:

قُبيِّلةٌ لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل[1].

فليس هذا مدح لهم، بل هو يهجوهم بهذا لضعفهم: أنهم لا يغدرون بذمة، والعرب في الجاهلية كانوا يتمدحون بالبطش والعدوان، ونكث العهد، وما أشبه ذلك، ويعتقدون أن:

من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم[2].

هكذا كانت شريعة الغاب في أذهانهم، فهنا حينما ينفي الله -تبارك وتعالى- عن نفسه هذه النقائص لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [سورة البقرة:255] يدل على كمال حياته وقيوميته؛ لأن السنة وهي مقدمة النوم وخثورته هذه ضعف ونقص في الحياة، وكذلك النوم فهو نقص في الحياة، فهذا يدل على كمال حياته، وحينما ينفي عن نفسه الظلم، فإن ذلك لكمال عدله، وحينما يقول -تبارك وتعالى: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [سورة البقرة:255] أي: لا يعجزه، أو لا يثقله، وهذا يدل على كمال قدرته وقوته، ونحو ذلك، فهذا أيضًا في هذا الموضع وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا لكمال إحاطته وعلمه، فبصره نافذ في خلقه، ولا يفوته شيء من أحوالهم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:86] هؤلاء الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، إنما كان ذلك منهم لكونهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، آثروا الحياة الدنيا على الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وهذا يدل على أنهم مخلدون في النار، وليس لهم ناصر ينصرهم من عذاب الله، ويخلصهم منه، فالذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب، والإيمان ببعض، هو هذه الحياة الدنيا، التي آثروها، وآثروا زينتها ومطامعها على ما عند الله -تبارك وتعالى- فصاروا يأخذون ما يوافق أهواءهم، ويتركون ما عدا ذلك، والله المستعان.

فإذا كان هذا الوعيد قد توجه على بني إسرائيل في هذا الفعل المشين، فإن ذلك أيضًا يتوجه على هذه الأمة، فإنه لا يجوز للأمة، أو لأحد من أفرادها أن يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض؛ لأن الحكم جاء عامًا فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة البقرة:85] فهذا قد رُبط بعلته، فالذي يفعل ذلك متوعد بهذه العقوبة الخزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب.

ولذلك فإن مقتضى أخذ الكتاب بقوة أن يأخذه بكماله وشُموله، بجد واجتهاد، أما أن يبحث عما يوافق هواه، سواء كان ذلك ابتداءً، أو كان ذلك استفتاءً، يعني حينما يسأل أو يذهب أو يتخير في المفتين، أو في الفتاوى، يبحث عما يوافق الهوى، فإن ذلك لا يُخلصه من التبعة، فلا يكون سالمًا بهذه الحال، فالواجب على الإنسان أن يسأل عما يحتاج إلى معرفته من الأحكام الشرعية، يسأل من يثق بدينه وعلمه، فإذا أفتاه فلا يجوز له أن يبحث بعد ذلك عن فتيا أخرى ترخص له بهذا الفعل الذي يهواه.

وكما قال الشاطبي -رحمه الله: بأنه إذا استوى عنده قولان أو بلغه قولان عن عالمين، فينظر إلى الأرجح عنده من جهة العلم والدين والورع، فيأخذ بقوله، فإن استويا فإنه ينظر إلى الهوى أين الهوى؟ فيخالف هواه؛ لأن هذه الشريعة قد رُكبت تركيبًا على خلاف داعية الهوى، وإنما وضعت هذه الشريعة لإخراج المكلف من داعية الهوى ليكون عبدًا لله [3] ولذلك من الخطأ الكبير أن يتحول المفتي إلى مرخص للناس، يبحث عما يوافق أهواءهم، وعما يحبون، وتكون الفتاوى على هذا النهج، فهذا خطأ لا تسلم به ذمته، ولا تبرأ، وهؤلاء أيضًا لا تسلم ذمتهم ولا يبرؤون، حينما يبحثون عما يعتقدون أنه يُسهل وييسر، وأنه مرن في اعتقادهم، فإنهم حينما يأخذون بأقواله أو يسألونه فإن ذمتهم لا تبرأ بهذا السؤال، وإنما الواجب عليهم أن يتحروا.

أما الاحتجاج بالخلاف فهذا ليس بشيء، وقد نقل الإجماع على ذلك جمع من أهل العلم، كحافظ المغرب ابن عبد البر -رحمه الله[4] فلا يجوز للإنسان أن يفعل ما يحلو له في المسائل المختلف فيها بحجة أن ذلك قد اختلف فيه الفقهاء، فالمرأة قد تكشف وجهها بحجة أن هذه مسألة خلافية، وربما تلبس لباسًا قصيرًا، وتخرج أمام النساء بألبسة تُبدي بعض مفاتن الجسد، وتحتج بأن ذلك فيه خلاف، وأن من الفقهاء من قال: بأن عورة المرأة من السرة إلى الركبة، وما أشبه ذلك، وبعض من تحسن الدخول إلى الشبكة تبحث عن أقوال تجيب بها عمن أنكر عليها، وتبعث لهم هذه الأقوال، وهذه الفتاوى، فالواقع أن الذمة مع هذا لا تبرأ، وهذا الفعل الذي يفعلونه ليس بشيء، وهؤلاء عوام، وإنما مذهبهم مذهب من أفتاهم، وإذا كان هؤلاء لا يميزون ينظرون في الأرجح من جهة الورع والدين والعلم، فيأخذون بقوله.

أما أن يبحث الإنسان هنا وهناك، فإنه سيجد في فتاوى العلماء أشياء وأشياء، فيجتمع فيه الشر كله، سيجد من يفتي بنكاح المتعة من السلف، ومن يفتي بجواز أنواع من الربا، ومن يفتي بأنواع من المعازف، ومن يفتي بأن المرأة المخطوبة يجوز للخاطب أن ينظر منها إلى كل شيء سوى القُبل والدُبر، وكذلك سيجدون في كل مسألة يَهْوُونَهَا فتاوى، وأهل الكوفة كما هو معروف منذ القدم، منذ زمن التابعين كانوا يقولون بجواز شرب النبيذ، وما أشبه ذلك، فهذا إذا جمع هذه القضايا فإنه سينخلع من ربقة الدين، يأخذ بقول هذا، وبقول هذا، وبقول هذا، وهذه الأقوال المجتمعة ما قال بها عالم واحد، وإنما أخذ رقعة من هذا، وأخرى من ذاك، وأخرى من ذاك، فخرج بثوب لا يصلح أن يخرج به أمام الناس.

ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قال: بأنه يجوز للمرأة أن تلبس لباسًا ما بين السرة إلى الركبة، وتحضر محافل النساء وتخرج أمام النساء بهذا، لا يُعلم أحد، إنما يتكلمون عن أشياء أخرى، فيما لو كانت المرأة بحاجة أخرجت ساقها أو نحو ذلك، تتوضأ، أو في مهنتها في بيتها، أو نحو ذلك، فخرج ساقها إلى نحو الركبة، أما أن تفصل ثوبًا إلى الركبة، أو إلى ما فوق الركبة!

ثم هؤلاء يتبعون أهواءهم، بدليل: أنهم يلبسون إلى ما فوق الركبة، وهم يقولون: من الفقهاء من قال: إن عورة المرأة من السرة إلى الركبة أمام النساء، وهذا ليس بصحيح، ولا يجوز الاعتماد على مثل هذا، وعلى الإنسان أن يتقي الله -تبارك وتعالى- والنبي ﷺ قال قولاً عامًا: المرأة عورة[5] ولم يفصل بأن ذلك أمام النساء، أو أمام الرجال، فدلّ على أن المرأة أمام النساء عورة، وأمام الرجال عورة، وإنما تُبدي ما دل الدليل على إبدائه، أو على جواز إبدائه، وما الذي كانت تبديه أمهات المؤمنين ونساء الصحابة -رضي الله عنهن- أمام النساء؟! هل كُن يخرجن بهذه الثياب، وبهذه الألبسة التي تُبدي أجزاء كبيرة من الجسد؟ كلا وحاشا، والله المستعان. 

  1.  البيت في الدر الفريد وبيت القصيد (2/ 315) منسوب للشاعر النجاشي. 
  2.  البيت لزهير بن أبي سلمى في شرح ديوانه (ص: 35). 
  3.  التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 165). 
  4.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الرضاع برقم: (1173) وصححه الألباني. 
  5.  أخرجه البغوي في شرح السنة برقم: (4112) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (2085).