يقول الله -تبارك وتعالى- فيما ذكر من خبر بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة (سورة البقرة): وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87] أي: ولقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة، وأتبعناه برسل من بني إسرائيل، وأعطينا عيسى ابن مريم المعجزات الواضحات، وقويناه بجبريل أفكلما جاءكم رسول بوحي من عند الله -تبارك وتعالى- لا يتفق مع أهوائكم استعليتم عليه، فكذبتم فريقًا، وتقتلون فريقًا، فهذا هو المعنى العام لهذه الآية الكريمة.
وتأمّل قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فهذه اللام للقسم، فهي موطئة له، فالله -تبارك وتعالى- أكد ذلك بالقسم، كأن التقدير: والله لقد آتينا موسى الكتاب، وقفينا من بعده بالرسل، فتصدير هذه الآية بهذا القسم يدل على كمال الاعتناء بموسى وبما ذكر في خبره في هذه الآية من إيتائه الكتاب، وإرساله، وإتباعه بالرسل -عليهم الصلاة والسلام.
ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أن مَن بعد موسى من الرسل الذين أرسلوا في بني إسرائيل جميعًا إلى عيسى كل هؤلاء كانوا تبعًا لموسى وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ.
ثم قال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وهو من أنبياء بني إسرائيل، وجاء مكملاً لشريعة موسى ولم يأتِ ناسخًا، وإنما جاء بنسخ بعض الأحكام الثقال، والآصار، والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، ولكنهم كانوا متعبدين بالتوراة، والعمل بها، فكبير أنبياء بني إسرائيل هو موسى ولكن لشدة العداوة بين اليهود والنصارى ترك النصارى العمل بالتوراة التي فيها الشريعة، فصاروا بلا شريعة ولا قانون، فاخترعوا كتابًا من عند أنفسهم سموه بالأمانة الكبرى، ووضعوا فيه قوانين وضعية، يتحاكمون إليها.
وهكذا كل من ترك الحق الذي جاءه والذي هو بصدده ابتلي بالاشتغال بضده، تركوا الوحي المنزل، وأحكام الله -تبارك وتعالى- التي في التوراة، ثم بعد ذلك صاروا إلى زبالات الأذهان، يتحاكمون إليها، كما قال الله عن اليهود حينما تركوا كتابهم: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:101، 102] فهكذا كل من ترك الحق، فإنه يعاقب ويبتلى بالاشتغال بضده، ومن لم ينفق ماله في مرضاة الله وطاعته، أنفقه في مساخطه، ومن لم يشتغل بسماع القرآن وتلاوته، اشتغل بما يورث الغفلة من الغناء والطرب والمعازف، وما أشبه ذلك أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [سورة البقرة:61]
ثم يُؤخذ أيضًا من قوله -تبارك وتعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس فعيسى هو الوحيد من الأنبياء في القرآن الذي يذكر منسوبًا، وسائر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- والأنبياء يذكرون بأسمائهم: موسى، وهكذا في ذكر نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، إلى محمد ﷺ فلا يقال في القرآن: محمد بن عبد الله، وإنما يذكرون بأسمائهم مفردة، إلا عيسى لا يكاد يذكر إلا منسوبًا لأمه: عيسى ابن مريم، فهذا يُؤخذ منه:
أولاً: التذكير بالمعجزة؛ لأن وجد من غير أب، فهذه آية خارقة للعادة، خارجة عن المعهود: أن يوجد مولود من غير أب، بنفخ الملك، فهذا تذكير بالمعجزة، وتذكير متجدد.
وفيه أيضًا: تشريف لأمه، حيث ذكرت في أشرف كتاب، في القرآن، وقد رماها اليهود بما هي منزهة عنه، فجاء ذكرها في القرآن تشريفًا لها، وهي المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن، والباقي لا تذكر باسمها اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [سورة التحريم:11] امْرَأَةُ عِمْرَانَ [سورة آل عمران:35] وهكذا، فهذا تشريف لها، والجزاء من جنس العمل، واليهود رموها بأقبح الأوصاف، واتهموها بأبشع الفرى، فكان عاقبة ذلك أن نزهها الله، وبرأها وشرفها، فذكرها في أشرف كتاب، فلا يُذكر عيسى إلا منسوبًا إليها، فيقال: عيسى ابن مريم.
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ الآيات الواضحة وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس وهو جبريل فهو روح يحصل بمجيئه، وبما أرسله الله به حياة الأرواح، فهو موكل بالوحي، والقُدُس يدل على معنى الطهر، أيد الله به عيسى فيُؤخذ من ذلك: أن من وظائف الملائكة التأييد للرسل، ولأهل الإيمان، كما قال الله في خبر بدر في سورة الأنفال: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] فالوحي إلى الملائكة -عليهم الصلاة والسلام- على نوعين:
الأول: تبليغي، حينما يرسلهم الله بالرسالات إلى الأنبياء يبلغونهم الوحي، كما كان جبريل يأتي بالقرآن إلى النبي ﷺ ويأتي أيضًا بالوحي من غير القرآن، فالسنة وحي، وقد قال ﷺ: إن روح القدس نفث في روعي يعني: في قلبي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب فهذا النوع الأول من الوحي، وهو تبليغي.
الثاني: وهو الوحي التكليفي فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [سورة الأنفال:12] فهذه تكاليف كلفهم الله بها.
وهنا أيد الله -تبارك وتعالى- عيسى بروح القدس (جبريل) ونزول الملَك بحد ذاته إلى النبي، وهذا ذُكر في جملة الحِكَم من نزول القرآن منجمًا على النبي ﷺ أنه في كل نزول يتجدد له تثبيت، يعني إذا كان الإنسان يلقى من يحصل الانشراح والثبات بلقياه من الناس من أهل الصلاح أو العلم، كما قال ابن القيم -رحمه الله- عن شيخه شيخ الإسلام، يقول: "تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها".
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية فكيف بمجيء الملك؟ فإن هذا يحصل به من قوة الفؤاد والثبات الذي يتجدد مع ما يتجدد من كيد الأعداء ومكرهم، فيتحقق بذلك الثبات؛ ولذلك فإن لقاء أهل الإيمان، وحضور مجالسهم التي تذكر بالله من شأنه أن يكون سببًا للتثبيت والتماسك في وقت كثرت فيه الفتن والشرور، وأحاطت بالناس إحاطة السوار بالمعصم، فيحتاج العبد إلى تثبيت، ولو بقي مع نفسه ربما تسلط عليه الشيطان، وألقى في قلبه من الأوهام والخواطر السيئة، فإذا قُدر له مثل تلك المجالس، فإن ذلك من شأنه أن يكون سببًا للثبات؛ ولهذا ينبغي للمؤمن دائمًا أن يبحث عمن يجد قلبه عندهم، فيجدد إيمانه، ويثبت فؤاده بذلك في جملة أمور أخرى تكون سببًا للثبات، لكن هذا واحد منها، ذُكر بهذه المناسبة، وهو من وظائف هؤلاء الملائكة الكرام -عليهم السلام.
وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله: بأن التأييد بروح القدس لمن ينصر الرسل عام، في كل من نصرهم على من خالفهم من المشركين، وأهل الكتاب.
والله -تبارك وتعالى- ينزل على عباده من الألطاف ما لا يقادر قدره، لا يتركهم ولا يسلمهم لعدوهم بحال من الأحوال، فيوسف قبل نبوته أخذه أخوته وهو صغير لا يدري أين يُذهب به؟ يظن أنه ذهب ليرتع ويلعب، وقد ذهبوا به إلى البئر، ثم يباع، وهو الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، بثمن بخس دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:20] على القولين، سواء كان هذا يُراد به إخوة يوسف: أنهم باعوه بثمن بخس، أو أن أولئك الذين تقدموا القافلة والقوم ممن جاءوا إلى البئر باعوه بثمن بخس وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ فقدر الإنسان ليس بمعايير مادية، أو باحتقار من يحتقره، أو من يحسده، وإنما قدره عند ربه وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:20] وما ضره هذا.
فالقدر الحقيقي -أيها الأحبة- ليس بالألقاب والمراتب والوظائف أو الأموال والحسابات والأرصدة أو الصور والأشكال، فقد قال الله عن المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4] قلوب خاوية، يملؤها الرعب والهلع والخوف، فلاحظ مع تلك الأشكال النضرة، والأقوال التي تقع في الأسماع موقعًا، ولكن من قلوب فارغة خاوية من الخير، مملوءة بالشر والنفاق والكفر بالله .
فالمقصود: أنهم لما ذهبوا بيوسف إلى البئر قال الله: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [سورة يوسف:15] هذا وهو صغير وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ فيحتمل أن هذا من قبيل الإلهام، أو الإلقاء في الروع، عند من فرق بين الإلهام والإلقاء في الروع، حيث قال بعضهم: إن الإلهام ما يلقيه الله في القلب مباشرة، وهو نوع من الوحي، والإلقاء في الروع: ما يلقى في القلب بواسطة الملك إن روح القدُس نفث في روعي، لاحظ: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وهو لم يرسل بعد صغير، فما تركه الله وإنما ثبته، يقول: اطمئن سيأتي اليوم الذي تُذكِّر إخوانكم هؤلاء بفعلتهم، وهم لا يشعرون بك وأنك يوسف، وهذا حصل بعد دورة طويلة، بعضهم أوصلها إلى أربعين سنة من الإلقاء في البئر إلى أن تعرفوا عليه، بصرف النظر عن المدة، لكن لا شك أنها طويلة.
ثم بعد ذلك هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ [سورة يوسف:89] إلى أن قالوا له بعد ذلك مستوضحين مستغربين متعجبين متسائلين مستفهمين عن كونه يوسف قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي [سورة يوسف:90] فحصل ما قاله الله وما أوحى إليه.
فهذه الأمور يحصل من تثبيت الله لعباده ما لا يقادر قدره إذا صدقوا معه، ولزموا الصراط المستقيم، فهذا ما يتعلق بهذه الجملة من الآية.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87].
فقد تحدثنا عن شطر هذه الآية في الليلة الماضية، وبقي الحديث عن شطرها الآخر؛ وذلك في إنكار الله -تبارك وتعالى- عليهم في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ فهؤلاء اليهود ينكر الله عليهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ فهذه اللفظة (كلما) تدل على التكرار، وقد سبقت بهمزة الإنكار، يعني أن ذلك كان يتكرر منهم، ويتكرر مع من؟ مع أنبيائهم ورسلهم؛ لأن الله قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وهو التوراة.
وقلنا: إن شريعة بني إسرائيل كانت في التوراة وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فكل الرسل الذين جاؤوا بعد موسى والأنبياء كانوا من أنبياء بني إسرائيل إلا محمد -عليه الصلاة والسلام- فقال الله -تبارك وتعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ يعني يدخل في ذلك دخولاً أوليًّا: الأنبياء الذين هم من بني إسرائيل، كما يدخل في ذلك أيضًا النبي ﷺ كما سيتضح بعد قليل، ولكن الآية في أصلها وسياقها إنما هي في أنبياء بني إسرائيل.
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فمعيار القبول والرد للرسل ولما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- عند هؤلاء هو الهوى؛ لأنه قال: اسْتَكْبَرْتُمْ فالاستكبار يكون عن الحق الذي جاءوا به، والاستكبار عن اتباعهم، ثم أيضًا قال في ذكر النتيجة وما يقابلون به هؤلاء الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87] إذا خالف الأهواء، فالاستكبار والموقف من هذا الرسول المواجهة بالتكذيب، بل قد يتعدى ذلك إلى العدوان بالقتل، وأعظم الناس جناية وجرمًا من قتل نبيًّا أو قتله نبي.
وقد جاء أن هؤلاء قتلوا في يوم واحد من أنبيائهم سبعين نبينًا، لو أن أمة من الأمم قتلوا سبعين رجلاً منهم لكان كثيرًا، ولو قتلوا سبعين من الصالحين لعد جرمًا عظيمًا، ولو أن أمة قتلت سبعين من علمائها لعد ذلك من أعظم الإجرام، وأشنع العدوان، فكيف بقتل هذا العدد من الأنبياء في يوم واحد؟ أي قلوب يحملونها؟ وأي جوارح تمتد بالعدوان بالقتل لأطهر الخلق، وأشرف الخلق، وهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام؟!
وإذا كانوا يفعلون ذلك مع أنبيائهم فما الظن بغير أنبيائهم ممن يردّون دعوته حسدًا وهو النبي ﷺ؟
فالمعيار عند هؤلاء هو الهوى، وقد قيل: إن الهوى قيل له هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار؛ ولذلك لا يكاد يستعمل إلا على سبيل الذم بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ فاليهود من شأنهم التكذيب بالحق والاستكبار عن الانقياد له، كما أن من شأن النصارى التصديق بالباطل، واتباع الظنون والجهالات، فاليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين جاءوهم بالحق، والنصارى اتبعوا وصدقوا محالات العقول والشرائع، كما صدقوا بالتثليث الذي لا يقبله عقل ولا عد ولا حساب ولا رياضيات ولا علم من العلوم، قبلوا به وصار عقيدة مقررة تتوارثها الأجيال، وهكذا سائر الممتنعات، كما قال شيخ الإسلام في كتابه (الجواب الصحيح) الذي يرد فيه على هؤلاء النصارى، وهو من أجل الكتب وأنفع الكتب، بل لا يوجد كتاب في الرد على النصارى مثل هذا الكتاب.
فقوله: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ففي القتل عبّر بالفعل المضارع تَقْتُلُونَ وقد ذكر جمع من أهل العلم كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- ونقل ذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله عن بعض المفسرين كصاحب الكشَّاف: بأن التعبير هنا بالفعل المضارع تَقْتُلُونَ الذي يدل على التجدد؛ لأن التكذيب مضى، لكن القتل يتجدد، وقد ظهر تأثير ذلك بمحاولة قتله ﷺ بوضع السم في يوم خيبر، حيث وضعت له تلك اليهودية في الذراع السم، فنهس منه ﷺ نهسةً، ثم بعد ذلك أخبرته تلك الشاة أنها مسمومة، فتركه ﷺ إلى أن بقي ذلك الأثر يعاوده إلى يوم وفاته ﷺ يقول: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم والمقصود به العرق الواصل الكبير إلى القلب، يقول: هذا المنتهى الآن من آثر تلك الأكلة؛ ولذلك قال الحافظ ابن القيم وجماعة: بأن النبي ﷺ قد نال الشهادة، يعني كانت له شهادة بموته ﷺ حيث مات شهيدًا؛ وذلك بسبب تلك الأكلة التي أكلها.
وهذا لا يتعارض مع عصمة الله له، فقد عصمه من الناس؛ فذلك السم بقي معه ﷺ حتى أدى الرسالة كاملة، ثم بعد ذلك أراد الله أن يكون أجله -عليه الصلاة والسلام- ووفاته بشهادة يختم بها، فعصمه الله وحفظه من الناس، حتى بلّغ الرسالة كاملة، فلما جاء الأجل ختمه بشهادة، وإلا فالأعرابي الذي اخترط سيف النبي ﷺ لما علقه بشجرة بغزوة ذات الرقاع، وقال: من يمنعك مني؟ فقال: الله فسقط السيف من يده.
وكذلك في يوم حنين لما أراد شيبة أن يقتل النبي ﷺ من خلفه، فمنعه الله منه، والتفت إليه النبي ﷺ حتى صار الرجل ما يستطيع يفعل شيئًا، فمسح على صدره وتحول الرجل إلى مؤمن، وصار النبي ﷺ أحب الناس إليه.
وكذلك لما جاء أبو جهل وتوعد النبي ﷺ فماذا رأى؟ هولاً وأجنحة، وما استطاع الاقتراب من النبي ﷺ في مكة في المرحلة المكية، وكذلك حينما كان في الغار ووقفوا على فم الغار، فحفظه الله منهم، وقد كان النبي ﷺ يُحرس في الليل، فلما نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة:67] صرفهم.
ثم أيضًا نجد أن التعبير بالفعل المضارع تَقْتُلُونَ يصور هذا الجرم البشع كأنك تشاهده، كأن عملية القتل ماثلة أمامك، تتجدد وتتكرر، فلم يقل: وفريقًا قتلتم، وإنما قال: تَقْتُلُونَ ليصور عظيم هذا الجرم، كأن السامع يشاهده فذلك أشد في بشاعته وقبحه، هذا بالإضافة إلى ما سبق من أن ذلك ليشمل النبي ﷺ فاستمر عدوانهم ذلك إلى أن جاء رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فحاولوا قتله، وقد حاولوا أيضًا قبل خيبر حينما أرادوا إلقاء رحى على رأسه ﷺ من فوق حُجرة، كان يجلس تحتها في القصة المعروفة فهؤلاء هم قتلة الأنبياء، تكذيب واستكبار وقتل لأشرف الخلق ولأنبيائهم، فما الظن بهم؟
فقوم بهذه المثابة لا يرجى منهم إيمان ولا خير ولا إنصاف ولا رحمة، فمن كان يرجِّي شيئًا من ذلك أو ينتظره أو يؤمله من هؤلاء اليهود فهو ضائع، ما عرفهم، ومن مد يده إلى هؤلاء اليهود يرجو أن ينصفوه، أو أن ينصفوا قومه، أو أن يردوا بعض حقه، أو نحو ذلك، فهو مُضيِّع، وما عرف هؤلاء، وما قرأ القرآن قراءة صحيحة، حيث صورهم تصويرًا بليغًا في خلجات نفوسهم، وفي أقوالهم وأفعالهم، وما يبطنون إلى حد تصوير الأحقاد التي يعبرون عنها بِعض الأنامل وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ [سورة آل عمران:119] فهو لا يجد شيئًا يتشفى به الآن في ساعته إلا أن يعض أنامله يتألم، لكن يُفرغ شحنة في داخله بمثل هذا التصرف المعبّر، فكيف لو تمكن؟ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [سورة الممتحنة:2] هم أعداء في السابق، والعداوة كامنة في نفوسهم، لكن المقصود بالعداوة الجديدة الآن يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً يعني: بالفعل، فتتحول العداوة الكامنة إلى عداوة بالممارسة بالقتل، وأيضًا بسط الألسن بالسوء، يسمعونكم ما تكرهون.
ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ الأصل في ترتيب الكلام: كذبتم فريقًا، مفعول به، فقدّمه من أجل التفصيل والاهتمام وتشويق السامع؛ ليتشوف ماذا فعلوا بهذا الفريق؟ وماذا فعلوا بهذا الفريق؟ ما الموقف من هؤلاء الرسل، جعلوهم وفرزوهم فكذبوا فريقًا، وقتلوا فريقًا، وهذا أيضًا يكون فيه التوافق بين رؤوس الآي.
ولاحظ أنه بدأ بالتكذيب فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ قبل القتل، ثم ذكر القتل؛ لأن أول ما يفعلون من الشر هو التكذيب، فالتكذيب يكون بعده القتل، فلو أنهم صدقوهم وآمنوا بهم لما اجترأوا على قتلهم، ولكن التكذيب وقع في نفوسهم ابتداءً، ويكذبون أنبياء! فهم يعرفونهم معرفة تامة، يعني ليس من قبيل آخر ومن قوم آخرين، وإنما ممن هم من أنفسهم، من أنبياء بني إسرائيل، ومن ولد يعقوب وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [سورة المائدة:20].
فالأنبياء كانوا فيهم، أكثر أمة فيها أنبياء هم بنو إسرائيل، ومع ذلك لا يُعرف في الأمم تمرد وعتو كالتمرد والعتو الذي كان في بني إسرائيل، ولذلك قال بعض أهل العلم بتعليل تكرار قصص بني إسرائيل في القرآن، قالوا: بأن هؤلاء في كل باب لهم تاريخ وسجل أسود، فإذا بسط هذا لهذه الأمة، فإن ذلك يكون دروسًا في سائر الجوانب والأبواب يعزيهم ويسليهم ويصبرهم؛ لأنه لا نبي بعد النبي ﷺ فبسط لهم خبر هؤلاء الذين هم أقرب الأمم، فهذه الأمة جاءت بعد بني إسرائيل، والله المستعان.
ثم إن التكذيب هو الشيء المشترك بين جميع هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين نالهم ما نالهم من هؤلاء القتلة من اليهود.
وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ فهذا على سبيل الخطاب أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87].