السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَقَالُوا۟ قُلُوبُنَا غُلْفٌۢ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88].
روى محمد بن إسحاق: عن ابن عباس - ا -: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي: في أكنة، وقال مجاهد: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ عليها غشاوة، وقال عكرمة: عليها طابع، وقال أبو العالية: أي: لا تفقه.
فقوله: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ القراءة المتواترة في هذه الآية هي بإسكان اللام، وهذه الأقوال التي نقلها عن جماعة من السلف  هي أقوال متقاربة، بمعنى أن هذا ليس من الخلاف الذي يحتاج معه إلى الترجيح، وإنما ذلك من قبيل اختلاف التنوع، فقول بعضهم أي: في أكنة، وقول الآخرين: عليه غشاوة بمعنىً واحد، فهذه الأكنة هي الغشاوة التي على هذا القلب، فكل شيء أكَنَّه بمعنى غطاه.
وكذا قول من قال: عليها طابع، فإذا كانت القلوب عليها طابع بمعنى أنه غشاها ما غشاها من الكفر والذنوب فطبع عليها فما عادت تقبل الحق، ولا تنتفع به، ولا تسمع سماع استجابة، وكذا قول من قال: لا تفقه.
وتفسيره بأنه لا تفقه من قبيل التفسير باللازم، وذلك أن القلوب إذا كان عليها أكنة أو كان عليها الطابع أو الغشاوة فيلزم من ذلك أنها لا تفقه، فهذا مثال على تفسير السلف باللازم، وبهذه الطريقة نستطيع أن نوجه هذه الأقوال.
وأما قول من قال بان المراد بها أنها أوعية للعلم فإن ذلك يتنزل على القراءة الأخرى - وهي من القراءات الشاذة، وليست متواترة - وهو قلوبنا غُلُف بضم اللام، ومعنى غلْف - بتسكين اللام - أي مغلفة، وغلُف - بضم اللام - أي أنها بمنزلة الوعاء الذي يوضع بداخله الشيء.
فإذا كان المراد بقوله: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي مغطاة عليها غشاوة تغشيها فلا يصل إليها الحق، فمراده بقوله: قلوبنا غلُف - بالضم - على هذه القراءة غير المتواترة أنها أوعية للعلم، والمراد بأنها أوعية للعلم يحتمل أمرين - وبكل واحد منهما قال بعض السلف - إذا كان المراد أوعية للعلم أي أنها مستغنية عن العلم الذي يقرره، ويدعو إليه هذا النبي، وما يذكره من ألوان الهدايات.
المعنى الثاني: أنهم يقولون: قلوبنا غلُف، أي أنها أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم، ولا تفقه عنك أيها النبي؟! أي مع أننا لسنا بمنزلة العامة، والجهال الذين لا يفهمون ولا يفقهون، ولم يعرفوا العلم بحيث تحدثهم بحديث لا يفهمونه، ولا يدركونه، ولا تصل عقولهم إليه، بل نحن قلوبنا أوعية للعلم فلماذا لا نفهم عنك، هذا هو المعنى الثاني.
لكن ما دام أن القراءة الثانية شاذة فبالتالي هذه الآية لا تفسر إلا بالأول، أي: أنها مغطاة عليها غشاوة، ويدل عليه قوله - تبارك وتعالى -: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [سورة فصلت:5]، فهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وهذا من أحسن ما تفسر به هذه الآية، والله تعالى أعلم.
وإنما ذكرت ذلك لأن بعض المفسرين يذكر القولين في تفسير قوله تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ فيقول: أوعية للعلم أو أنها مغلفة مغطاة، وهذا فيه نظر؛ إذ إن القول بأنها أوعية للعلم منزل على القراءة الشاذة، ولذلك تجد في تنزيل أقوال المفسرين، أو في ذكر أسباب الاختلاف في التفسير؛ أن من الخلاف ما ليس بخلاف حقيقي، ويسمونه خلاف التنوع، الاختلاف الصوري، وهو أنواع كثيرة، والشاطبي - رحمه الله - من أكثر من فصل فيه، وتجدونه في مقدمة ابن جزي في تفسيره التسهيل، لكن من أكثر من فصل فيه الشاطبي في الموافقات، حيث ذكر نحواً من ثلاثة عشر وجهاً أو صورةً له، ومنها:
أن يتنزل كل قول من هذه الأقوال على قراءة، وبالتالي لا نحتاج إلى أن نقول: القول الأول كذا، والقول الثاني كذا.
وعلى كل حال هذا القول بأنها لا تفقه هو من قبيل التفسير باللازم، وهذا المعنى لا ينبغي العدول عنه، يعني تفسيرها على أنها مغطاة مغلفة فهو اختيار الأئمة الأكابر، ككبير المفسرين ابن جرير الطبري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وأمثال هؤلاء.
قال مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس - ا - غلُف - بضم اللام - وهو جمع غلاف، أي: قلوبنا أوعية كل علم، فلا نحتاج إلى علمك، قاله ابن عباس - ا - وعطاء.
هذا توجيه، والتوجيه الآخر على هذه القراءة فما بالها لا تفقه عنك.
بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ أي: طردهم الله، وأبعدهم من كل خير.
فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ قال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا القليل.
قول قتادة هو أحد المعاني التي يحتملها قوله: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ، وهو كقوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155] يحتمل أن يكون المراد أن الداخل منهم في الإيمان بالله عددهم قليل، وهو شيء مشاهد، فاليهود أقل الناس دخولاً في الإسلام لما في قلوبهم من القسوة، وما تنطوي أنفسهم عليه من الشر، فيكون المعنى على هذا: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ أي: قلَّ من يؤمن منهم أي يدخل في الإيمان.
وتحتمل معنىً آخر: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ أي: أنهم آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، كفروا بعيسى ﷺ، وكفروا بمحمد - عليه الصلاة والسلام -، وكفروا بالإنجيل والقرآن، وقتلوا كثيراً من أنبيائهم، فإيمانهم الواقع هو قليل بالنسبة إلى التكذيب، والكفر الذي صاحبه.
وهذا المعنى لا إشكال فيه، فالله قال عن المشركين: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [سورة يوسف:106] فيجتمع الإيمان والكفر، وقد يكون الإيمان منخرماً بسبب ما خالطه من هذا الكفر، فهو عنده إيمان لا ينفع، ولا ينجي، وقد يوجد إيمان مع كفر لكنه لا يفضي به إلى الهلاك، أي أن معه إيمان وجاهلية، إيمان وفسق، إيمان وبدعة، أي يوجد هذا وهذا، وعلى هذا فقوله: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ يحتمل هذا وهذا، والله أعلم.
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة البقرة:88] هو كقوله: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا [سورة فصلت:5]، ولهذا قال تعالى: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88]، أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة، مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء:155].قول عكرمة: عليها طابع، مع قوله تعالى هنا: غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا، وقوله أيضاً: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ، مع قول ابن عباس: قُلُوبُنَا غُلْفٌ أي: في أكنة، فهذا الكلام كله صحيح.
وقد اختلفوا في معنى قوله: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ وقوله: فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً فقال بعضهم: فقليل من يؤمن منهم، وقيل: فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد، والثواب، والعقاب، ولكنه إيمان لا ينفعهم.على هذين الاحتمالين يكون أثبت لهم الإيمان، فإما أن يكون ذلك المثبت لبعضهم بمعنى أن الذي يدخل منهم في الإيمان قلة مثل عبد الله بن سلام ، وإما أن يكون المقصود أن الإيمان الواقع في قلوبهم قليل بالنسبة لما صاحبه من التكذيب الكثير، فيكون على الاحتمالين، أثبت لهم الإيمان أو أثبته لبعضهم، ولا مانع أن ينسب الشيء للطائفة مع أنه إنما وقع ذلك لبعض منها.
فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ: أي قلَّ من يؤمن منهم، والاحتمال الذي يقابل هذا أن المقصود به النفي المطلق للإيمان، بمعنى أنهم لا يؤمنون أصلاً، فالعرب تذكر القلة أحياناً وتقصد بها النفي، فيقولون مثلاً: مررت بأرض قلَّ ما تنبت إلا البصل، والكراث، أو يقولون: مررت بأرض قليلاً ما تنبت والمعنى أنها لا تنبت أصلاً، وهذا أحد الاحتمالات في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:16]، فالمعنى إذا جاءتهم آجالهم ماتوا فلا يمتعون شيئاً؛ لأنهم وإن فروا من الموت فإنهم سيلاقون آجالهم حتماً، فلا وجه لبقائهم يتمتعون قليلاً ولا كثيراً.
وكذلك في قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب:18] يمكن أن يكون المراد أنهم لا يأتون البأس أصلاً أي أن المنافقين لا يأتون للحرب، ويمكن أن يكون المعنى أنهم يأتونه قليلاً فقط دون مشاركة فاعلة، فالمقصود أن الاحتمال الثاني في الآية هو النفي المطلق فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ أي: أنهم لا يؤمنون.
ولكنه إيمان لا ينفعهم؛ لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد ﷺ، وقال بعضهم: إنما كانوا غير مؤمنين بشيء.
هذا يقابل القول الأول، فالقول الأول يتنزل على احتمالين، والقول الثاني: المقصود به النفي المطلق، والقول الثاني لسنا مضطرين إليه، وإنما يحتاج إليه في بعض المقامات التي يكون فيها الحال مقتضية للنفي، أما هنا فيمكن أن يقال: عندهم إيمان قليل مع تكذيب كثير، ويمكن أن يقال: لا يدخل في الإيمان منهم إلا قلة، وهذا أظهر في المعنى من أن يكون المقصود به النفي المطلق؛ لأنه يوجد عندهم إيمان.
ومن قال بأن المقصود النفي المطلق يمكن أن قوله هذا على أن تكذيبهم لنبي من الأنبياء كالنبي ﷺ وعيسى، والتكذيب بكتاب كالقرآن، يرجع وينعكس أثره على سائر الكتب، وسائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، فمن كذب نبياً فقد كذب بكل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ومن كذب بكتاب فقد كذب بجميع الكتب قال تعالى: لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285]، ولذلك فإن موسى ﷺ أخبرهم بمبعث النبي - عليه الصلاة والسلام -، وجاء خبره في التوراة، فهؤلاء الذين كذبوا بمحمد ﷺ، أو بعيسى؛ هم مكذبون بالتوراة، ومكذبون بموسى، فإيمانهم منتف بهؤلاء جميعاً.
وإنما قال: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط تريد ما رأيت مثل هذا قط.

مرات الإستماع: 0

"غُلْفٌ جمع أغلف: أي عليها غلاف، وهو الغشاء فلا تفقه."

هذا المعنى وهذا قال به أبو العالية[1] وهو اختيار شيخ الإسلام[2] والحافظ ابن القيم[3] يعني خلافًا لمن قال مثلًا: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ يعني: أوعية للعلم ما نحتاج إلى إضافة من عندك، لسنا بحاجة إلى اتباعك، لا، إنما غلف يعني لا تفقه، جمع أغلف عليها غلاف، لا يصل إليها ما تقول، قالوا ذلك على سبيل المكابرة، والعناد، وتيئسه من هدايتهم.

"بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ردًّا عليهم، وبيان أن عدم فقههم بسبب كفرهم."

يعني لم يكن الله قد جعل على قلوبهم هذا، لم يخلقهم هكذا، وإنما كما قال في الحديث القدسي: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[4] فالله جعل للعباد السمع، والأبصار، والأفئدة لكن هؤلاء لعتوهم على الله - تبارك وتعالى - يكابرون هذه المكابرة، ويدعون هذه الدعاوى.

"فَقَلِيلًا أي إيمانًا قليلًا (ما يؤمنون)."

يعني يحتمل هذا أن الإيمان الذي يقع منهم قليل، يعني يؤمنون بما يوافق ما عندهم مثلًا مما يهوونه، يؤمنون بأنبيائهم، ويكفرون بالنبي ﷺ وبعيسى - عليه الصلاة والسلام - فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فالذي يؤمن بنبي، أو يؤمن بالأنبياء، ويكفر بنبي واحد يكون كأنما كفر بهم جميعًا، ويحتمل أن يكون فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ باعتبار أنه لا يؤمن منهم إلا القليل فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ يعني: قليلًا من يؤمن من اليهود، ويدخل في الإسلام، أكثرهم لا يؤمنون، كما هو مشاهد، أقل الناس دخولًا في الإيمان هم اليهود؛ لأنهم معدن الشر، والحسد، وهذه الأشياء التي أخبر الله عنهم من العتو على أنبيائهم يفعلون بهم هذه الأفاعيل، فكيف يؤمنون بالنبي ﷺ! وهم يقولون لموسى ﷺ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55].

"ما يُؤْمِنُونَ ما زائدة."

يقصدون إعرابًا، وإلا فيكون ذلك للتوكيد، وتكلمنا قبل على مسألة الزيادة، وهل يليق أن يقال في القرآن شيء زائد، وقلنا: إنهم يقصدون زائدًا إعرابًا. وإلا فقد صرح بعض أهل العلم إن ذلك لا يقال، ولهذا يعبر بعضهم ويقول: صلة. تأدبًا في العبارة.

"ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أو على أصلها؛ لأن من دخل منهم في الإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل، وكفروا ببعض."

باعتبار أن هذا الإيمان لا ينفعهم، لكن يحتمل أن تكون القلة بمعنى العدد فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط. يعني ما رأيت، وهذا في نظائره في القرآن، أحيانًا قد يُراد به العدد. 

  1. تفسير ابن كثير (1/324).
  2.  مجموع الفتاوى (16/13).
  3.  بدائع الفوائد (3/116).
  4.  أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، رقم: (2865)

مرات الإستماع: 0

ثم التفت فقال: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [سورة البقرة:88] إلى ضمير الغائب، هذا الذي يسمونه الالتفات في البلاغة، كما هو معروف، التفت من الخطاب إلى الغَيبة، وهذا يكون لمعانٍ وأمور بلاغية: من تنشيط السامع، كما ذكرنا في بعض المناسبات، وأيضًا يكون لملحظ في الموضع نفسه، فهنا إذا تأمّلت لما ذكر هذه المعايب والمثالب اسْتَكْبَرْتُمْ كَذَّبْتُمْ تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ كأنه أبعدهم عن رتبة الخطاب، إذ لا يستحقون إلا التجاهل والتغافل؛ لسوء فعالهم، فذكر مخازيهم الموجبة للإعراض عنهم، فجاء هذا الالتفات.

يقول الله -تبارك وتعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88] والمعنى: أن هؤلاء اليهود قالوا للنبي ﷺ أو لأهل الإيمان: قُلُوبُنَا غُلْفٌ يعني: مغطاة، عليها أغلفة، لا ينفُذ إليها شيء، ولا يصل إليها قولك ودعوتك.

وبعضهم يقول وهو بعيد: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ يعني أنها أوعية للعلم، يعني لسنا بحاجة إلى ما جئتنا به، والأول أقرب، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين، وليس المقصود هنا هو الكلام على التفسير، وإنما ما يُستخرج من الهدايات، ولكن لما كان السبيل إلى ذلك هو الكشف عن المعنى كان ذلك مما نبتدئ به هذا المجلس.

فالله -تبارك وتعالى- يرد عليهم دعواهم، هذه ليس الأمر كما زعموا، بل حلت بهم لعنة الله -تبارك وتعالى- فقلوبهم قد طبع عليها فلا تستجيب، فهم مبعدون من رحمة الله -تبارك وتعالى- بسبب كفرهم وإعراضهم واستكبارهم على الحق، وتكذيبهم به فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة النساء:46] إلا إيمانًا قليلاً لا ينفعهم، وبعض أهل العلم يقولون: إنّ ذكر القليل في مثل هذه المواضع بمنزلة العدم، وهو جارٍ في التعبير القرآني بكثرة وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة الأحزاب:18] ونحو: لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً [سورة النساء:83].

فيُؤخذ من هذه الآية أن من جملة العقوبات التي يعاقب الله -تبارك وتعالى- بها بعض خلقه: سلب الهدى والعلم النافع، فيُطبع على القلوب، فيبقى العبد بمنأى، كما قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] فلا يتمكن من الاهتداء والاستجابة والتوبة.

والنبي ﷺ أخبر أن الذنوب تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة، ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه[1] كالكوز مجخيًا إذا نُكس لا يستقر في داخله المائع أسود مربادًا: سواد يشوبه حمرة، وهو أقبح الألوان، الألوان الجميلة: البياض المشرب بحمرة، أما السواد المشرب بحمرة فهذا من الألوان القبيحة السيئة.

فالشاهد هنا: أن العبد يتوقى ويحذر، فيدرك تمامًا أن هذه الفتنة التي عرضت عليه من مشهد محرم يراه، أو مال محرم يأخذه، أو غير ذلك من أنواع تعاطي الحرام، فهي نكتة سوداء، فإذا كرر فتلك نكتة سوداء، فإذا كرر فتلك نكتة سوداء، وأين؟ في القلب الذي هو محل الاهتداء، فإذا أظلم القلب، واسود، فإنه بعد ذلك لا يصل إليه الهدى كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين:14] من المعاصي والذنوب والآثام والآفات والجرائم، فتجتمع على القلب فيعلوه غلاف، فلا يصل إليه موعظة، ولا يتأثر بالقرآن، ولا من يوجه إليه من الخطاب، ولا يصل إلى قلبه، فيطرق سمعه ولكنه لا يحرك ساكنًا ولا يتأثر، فذلك لا ينفُذ إلى قلبه.

فالطبع والختم والران والأغلفة والأقفال على القلوب كل هذه بمعنىً واحد، وإنما منشأها ومبدأها هو ما جاء في هذا الحديث تعرض الفتن على القلوب[2] والمقصود بالفتنة كل ما خالف شرع الله -تبارك وتعالى- وأمره، فيدرك العبد تمامًا أن هذا الذي قد اعترض له ربما يستهويه أنها فتنة جديدة، وقد تعلق بقلبه، فيكون ذلك سوادًا، فإذا كثر عليه فبعد ذلك لا يلومن إلا نفسه، فيحذر الإنسان منذ البداية، ويدفع ويجدد التوبة؛ ليصقل القلب، ويكثر من الاستغفار دائمًا، ويتوب إليه في مجلسه عشرات المرات، ليبقى هذا القلب حيًّا، والنبي ﷺ كان يستغفر في اليوم والليلة، بل في المجلس الواحد سبعين مرة، ومائة مرة، وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فغيره من باب أولى.

وهذا المعنى الذي ذكرته آنفًا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو واضح في النصوص، من أن الذنوب، وما يكتسبه العباد من الجرائر والجرائم، يكون سببًا للحيلولة دون الاهتداء، فلا يوفق الإنسان.

وهنا قولهم: قُلُوبُنَا غُلْفٌ على المعنى المشهور: أن هذه القلوب عليها أغشية وأغطية خلقةً تمنع من نفوذ ما يخاطبهم به النبي ﷺ فهو تقنيط لرسول الله ﷺ من دعوتهم، كما قال من قبلهم: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ [سورة الشعراء:136] فيستوي الحال فلا تتعب نفسك، فهؤلاء قالوا: قُلُوبُنَا غُلْفٌ كل ما تقوله يتبخر ويتلاشى قبل أن يصل إلى قلوبنا، فهو كلام لا يجاوز الأسماع، وإذا كان الأمر والحال كذلك فلا جدوى من مخاطبتهم، فهم في عداد الأموات إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [سورة النمل:80] والله يقول: وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [سورة النمل:81] فهذا يدل على شدة إعراض هؤلاء اليهود واستكبارهم، فإن المنصف يستمع وينظر في هذا المسموع إذا كان يريد الحق.

وكذلك أيضًا هؤلاء اليهود أهل علم، ويعرفون صفة النبي ﷺ ومبعثه ومخرجه ومهاجره، ويعرفون أوان رسالته وبعثته -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك يقولون هذا القول، فالقلوب بفطرتها ليست كما قال هؤلاء اليهود، وليست غلفًا، والله يقول: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فهذا الإضراب للإبطال، أي: ليست القلوب كما يقولون مجبولة ومفطورة على رد الحق.

ولكن هناك أمر آخر يمنع من وصول الحق وقبوله، وهو لعنة الله على العبد، نسأل الله العافية، وإلا فالله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهو يشمل صورته الباطنة، وصورته الظاهرة، فخَلَقَه على الفطرة وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[3] كل مولود يولد على الفطرة[4] فيكون قابلاً للحق، منجذبًا له، يميل إليه بفطرته، فداعي الفطرة مركوز في نفس الإنسان؛ ولذلك فإن دين الإسلام هو الأدعى إلى الانتشار؛ لأنه الموافق للفطر، وليس بدين يخالف ويناقض الفطر.

فينبغي على أهل الإسلام أن يذيعوه وينشروه ويحملوه إلى العالمين، فسيجدون من الاستجابة ما لا يخطر لهم على بال، وإذا كان بهذه الجهود الضعيفة التي تقوم هنا وهناك مبعثرة ومفرقة، يأتي التصريح من أعلى جهة في الديانة النصرانية وهو (البابا) ويقول: إن الإسلام هو الأكثر انتشارًا في العالم، وأن عدد المسلمين قد فاق عدد النصارى الذين كانوا الأكثر في العالم على مدى قرون طويلة، مع كثرة ما ينفقون من الأموال والجهود والبشر الأعداد الهائلة، ممن يدعون إلى باطلهم، ومع ذلك الإسلام هو الأكثر انتشارًا؛ لأنه دين الفطرة، فإذا أحسن المسلمون عرضه وتقديمه للناس، فلا تسأل عن القبول والانتشار، والدخول في الإسلام، وهذا الذي حصل في مدة وجيزة وصل الإسلام إلى حدود الصين، وإلى النصف الجنوبي من فرنسا، في مدة وجيزة يدخلون في الإسلام، ويتحول أهلها إلى مسلمين، ولم يكن ذلك من قبيل الهيمنة العسكرية والاحتلال، وإنما يتحول هؤلاء إلى جند لله -تبارك وتعالى- يجاهدون في سبيل الله، ويدعون إلى دينه.

فالباء هنا بِكُفْرِهِمْ [سورة البقرة:88] تدل على السببية، وهذا يدل على أن الكفر سبب للعن، والله -تبارك وتعالى- صرح بذلك في مواضع بأن لعنته قد حلت على الكافرين.

ثم هنا جاء هذا الإضراب بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فـ(بل) هذه تفيد الإضراب، يعني ليس الأمر كما قالوا من وجود أغلفة حقيقية على هذه القلوب، وهم لا يقصدون أن عليها أغلفة بسبب الذنوب أو الكفر، وإنما طردهم الله -تبارك وتعالى- من رحمته، فحرموا أعظم الأشياء، وهو الهداية المفضية إلى السعادة الدنيوية والأخروية، والجزاء من جنس العمل، وهؤلاء أعرضوا عما به رشدهم وفلاحهم وصلاحهم وسعادتهم، فهانوا على الله -تبارك وتعالى- فطردهم من رحمته، فتركهم في طغيانهم يعمهون، وإذا هان العبد على ربه -تبارك وتعالى- خلّاه وتركه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر:19] فهذا هو الجزاء، والجزاء من جنس العمل، فمن أعرض عن ذكر الله -تبارك وتعالى- والإيمان به، فإن الله -تبارك وتعالى- يعاقبه بمثل فعله، فينسيه نفسه، وإذا أنساه نفسه صار شغله فيما يضره، وإقباله على ما فيه هلاكه وضياعه وشقاؤه في الدنيا والآخرة.

وقوله -تبارك وتعالى: فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88] حذفت صفة (قليلاً) لدلالة الفعل عليها، والتقدير: فإيمانًا قليلاً، و(ما) هذه صلة، أُتي بها للتأكيد والمبالغة في التقرير، وهذا الإيمان لا يُذكر، ولا أثر له. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين برقم: (144). 
  2.  سبق تخريجه.
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم: (2865). 
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين برقم: (1385) ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين برقم: (2658).