السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَٰبٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا۟ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا۟ كَفَرُوا۟ بِهِۦ ۚ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89].
يقول تعالى: وَلَمَّا جَاءهُمْ يعني اليهود كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ وهو القرآن الذي أنزل على محمد ﷺ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ يعني: من التوراة.
وقوله: وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد، وإرم.
وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا - أن يَهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور أخو بني سلمة - ا -: "يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ﷺ ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه بصفته"، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير: "ما جاءنا بشيء نعرفه"، ما هو الذي كنا نذكر لكم؟ فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ الآية.
وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد ﷺ على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمدًا ﷺ، ورأوا أنه من غيرهم؛ كفروا به حسدًا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله ﷺ فقال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89].
سبق معنا قول الله - تبارك وتعالى - قبل: أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:76] وقلنا هناك: أحسن ما تفسر به - والله أعلم - بما فتح الله عليكم يعني بما حكم عليكم، وذكرنا أن الفتح يأتي بمعنى القضاء، والحكم، ويأتي بمعنى النصر، وقلنا: الفتاح والفاتح هو القاضي، والحاكم، والفتاحة هي الحكم، فالمقصود أن قوله هناك: بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ يفسر بما حكم عليكم من اللعن والإبعاد، وجعل منهم قردة وخنازير، إلى غير ذلك مما حصل من حكم الله فيهم أياً كان، ولا يخص ذلك بشيء دون شيء كما سبق.
وقوله هنا: وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ هنا نفسر الفتح بالنصر أي يستنصرون عليهم برسول الله ﷺ حيث كانوا يهددونهم دائماً بأنه سيبعث - عليه الصلاة والسلام -، وأنهم سيقاتلونهم معه فيقتلونهم قتلاً ذريعاً، والله تعالى أعلم.

مرات الإستماع: 0

"كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن. مُصَدِّقٌ تقدم أن له ثلاثة معان."

يعني المعاني التي مضت ما هي؟ مصدق لما معهم باعتبار أنه جاء على الوصف الذي في كتبهم، جاء صفته في كتبهم، صفة هذه الأمة، وصفة النبي ﷺ فجاء تصديق ذلك في الواقع، فهذا مصدق لما معهم.، وكذلك أيضًا أنه يشهد لهذه الكتب أنها من عند الله وأن أنبياءهم - قبل التحريف طبعًا - أيضًا هم رسل الله، وأنبياؤه فهو مصدق لما معهم. كذلك أيضًا ما يوجد من التوافق بين ما جاء في القرآن: أصول الشرائع، والتوحيد، ونحو ذلك، وما في كتبهم، فهذا تصديق، يصدق بعضها بعضًا، هذه ثلاثة أوجه مضت. 

"يَسْتَفْتِحُونَ أي: يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد، وإرم."

يستنصرون يعني يطلبون النصر إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19] تطلبون الحكم بالغلبة، ونحو ذلك، أو بإهلاك المكذب يَسْتَفْتِحُونَ هؤلاء كانوا يستنصرون على المشركين، يعني يقولون لهم: سيُبعث نبي قد أظل زمانه، وسنقتلكم معه قتل عاد، وإرم.

"وقيل: يستفتحون أي يعرفون الناس النبي ﷺ فالسين على هذا للمبالغة كما في استعجب، واستسخر، وعلى الأول للطلب. وفي النسخة الخطية فالسين."

يعني باعتبار أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، يستفتحون يعني يفتحون عليهم، ولاحظ المعنى الذي مضى أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ من صفة النبي ﷺ وأعلمكم به فيحتجون عليكم بعد ذلك، يعرفون الناس بالنبي ﷺ فالسين على هذا للمبالغة كما في استعجب، واستسخر، وعلى الأول للطلب. السين للطلب (استفتح) يعني طلب الفتح إِنْ تَسْتَفْتِحُوا [الأنفال: 19] يعني: تطلبوا الفتح، الحكم بينكم، تقول: استنصر. طلب النصر، وعلى المعنى الآخر أنها للمبالغة، وليست للطلب.

"فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا القرآن، والإسلام، ومحمد ﷺ قال المبرّد: كفروا جواب (لما) الأولى، والثانية، وأعيدت الثانية لطول الكلام، ولقصد التأكيد، وقال الزّجّاج: كفروا جواب (لما) الثانية، وحذف جواب الأولى للاستغناء عنه بذلك، وقال الفرّاء: جواب (لما) الأولى فلما، وجواب الثانية كفروا"

لاحظ الآن وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فلما هذه (لما) الثانية، الأولى في أول الآية وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا إلى الآن ما جاء الجواب، فهنا يقول: قال المبرد: كفروا جواب (لما) الأولى، والثانية.

يعني: أن الجواب واحد لهما، تقول: لما جاء زيد أكرمته. أكرمته هذا هو الجواب، فهنا وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ يعني تكون كفروا هذه جواب (لما) الأولى، والثانية وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا كفروا بهذا النبي الذي جاءهم فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فتكون كفروا جواب لـ (لما) الأولى، والثانية. وأعيدت الثانية لطول الكلام، ولقصد التأكيد؛ لأنه إذا طال الكلام فإنه يُعاد الرابط من أجل ألا يذهب الذهن، وينسى الكلام أول الكلام فلا يربط في المعنى. وقال الزجاج: كفروا جواب لـ (لما) الثانية، وحُذف جواب الأولى للاستغناء عنه بذلك.

يعني أن جواب الثاني دل على جواب الأولى يعني يكون وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا كفروا فحُذف الجواب استغناء بجواب الثانية فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ففهمنا أن جواب الأولى أيضًا كفروا لكنه حُذف. وقال الفرّاء: جواب (لما) الأولى فلما، وجواب الثانية كفروا. لاحظ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أين الجواب؟ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ويكون جواب (لما) الثانية كفروا، وجواب الأولى فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ هذه ثلاثة أوجه في الجواب، وعلى كل حال هي تحتمل - والله أعلم -.

"عَلَى الْكافِرِينَ أي: عليهم يعني اليهود."

يعني: في قوله هنا: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ هنا عام لكن مثل هذا يكون له اتصال بما قبله، فهو يذكر من كفر هؤلاء بهذا النبي الذي عرفوا صفته، وكانوا يستفتحون على هؤلاء المشركين فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فهؤلاء اليهود يدخلون فيه دخولًا أوليًا، لكن هل هذا ينفي عن غيرهم؟ لا ينفي عن غيرهم؛، ولهذا كما قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في كتابه القواعد الحسان: بأن "السياق الخاص يراد به العام إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة، وأراد الله أن يحكم عليها، وذلك الحكم لا يختص بها، بل يشملها، ويشمل غيرها، جاء الله بالحكم العام"[1].

فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ليشمل هؤلاء، وغيرهم. لكن الذي عليه صنيع أكثر المفسرين من السلف فمن بعدهم: أنهم يربطون مثل هذا عادة بالذي قبله، وهكذا يفعل ابن جرير إذا تتبعت تفسيره، يربطونه بالذي قبله فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ يعني: من هؤلاء؛ لأن السياق فيهم.

"ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل أن اللعنة بسبب كفرهم، واللام للعهد، أو للجنس، فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار."

لاحظ الآن أي عليهم يعني اليهود، ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة بسبب كفرهم. ما معنى هذا الكلام؟ لاحظ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ما قال: فلعنة الله عليهم. على التفسير بأن فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ أن المقصود اليهود، فلماذا لم يقل: فلعنة الله عليهم؟ فأظهر جاء بالظاهر الذي هو الكافرين مقام المضمر الذي هو الضمير: فعلنة الله عليهم، لو قال: فلعنة الله عليهم. فُهم المراد، والعرب تأتي بالضمائر اختصارًا، فلماذا أظهر في موضع يصح فيه الإضمار على هذا التفسير أن فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ أي: اليهود؟

فلماذا لم يقل: فلعنة الله عليهم؟ فأظهر في موضع الإضمار؟ قال: ليدل على أن اللعنة بسبب كفرهم.

يعني: حينما يقول: فلعنة الله عليهم. لماذا لعنهم؟ لأنهم جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ كونهم مثلًا كفروا مع علم، أم ماذا؟ لكن لما قال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فُهم منها أن سبب اللعنة هو الكفر، أظهر في موضع يصح فيه الإضمار ما قال فلعنة الله عليهم؟ لماذا؟ هنا فيه فائدة، وهي: أنه دلنا على أن سبب اللعن هو الكفر.

قال: واللام للعهد. إذا قلنا: إنها للعهد فإن المقصود اليهود. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ يعني المعهودين الذين ذكروا قبل قليل من اليهود، أو للجنس، فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار يعني يكون هذا عام كما ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي في القاعدة: أنه إذا أراد أن يأتي بالحكم العام بعد قضية خاصة، أو حال خاصة جاء بالحكم العام ليعُم هؤلاء، وغيرهم. فتكون للجنس فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ كل الكافرين ليس فقط اليهود، يعني ليس بالضرورة فقط هؤلاء الذين جاءهم ما عرفوا فكفروا به، وكانوا يستفتحون، لا، لو أنه كافر لأول وهلة، وحصل منه من هذه التفاصيل فهو داخل في ذلك فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ

  1. القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص: 122).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89] فهؤلاء اليهود حينما جاءهم كتاب من عند الله، جاءهم القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى- وهو مصدق لما معهم من التوراة، من جهة أنه يقر بنزولها من عند الله  في أصلها، وكذلك أيضًا يُصدق ما جاء في التوراة من الخبر عن بعث نبي بصفة محددة لا تلتبس، فمجيئه ﷺ هو تصديق لخبر التوراة، واللائق بهم أن يؤمنوا به إن كانوا يؤمنون بكتابهم.

كذلك هو مصدق لما معهم مما دعت إليه التوراة من وحدانية الله -تبارك وتعالى- والأصول المشتركة بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فذلك متوافق يُصدق بعضه بعضًا، هؤلاء في الوقت الذي جاءهم هذا الكتاب وكانوا من قبل يتوعدون المشركين من العرب، من الأوس والخزرج الذي كانوا يجاورونهم في المدنية، ويقولون: قرب مبعث نبي آخر الزمان، وسنتبعه ونقاتلكم معه، فلما جاء الرسول ﷺ الذي عرفوا صفته وصدقه كفروا به، وكذبوا فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بالله، والكافرين برسوله ﷺ والكافرين بالكتاب الذي أنزله.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هكذا نُكِّر الكتاب هنا جَاءَهُمْ كِتَابٌ ليفيد التعظيم والتفخيم لشأن هذا الكتاب.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فهذا يدل على أن القرآن هو كلام الله بألفاظه ومعانيه، من جهة أنه أضافه إلى الله -تبارك وتعالى- جاء مقيدًا بأنه أنزله منه وتقدست أسماؤه تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [سورة الفرقان:1] كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ [سورة ص:29] وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وما شابه ذلك.

ويُؤخذ من هذا أيضًا الإشارة إلى ما سيكون إليه هذا الكتاب من الكتابة، وكثير من أهل العلم يمثلون على ما يسمى بالمصالح المرسلة بكتابة القرآن في مصاحف، حيث كتب في صحف في زمن أبي بكر الصديق  وكتب في المصاحف في زمن عثمان  ويقولون: هذا من قبيل المصالح المرسلة، مع أن بعض أهل العلم يقول: ليس كذلك، بل ذلك جاءت الإشارة إليه في كتاب الله ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:2] وهنا: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فسماه كتابًا، باعتبار ما سيؤول إليه، ويصير إليه من الكتابة، وأنه يكون في كتاب، أي في مصاحف.

مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وهذا يدلُّ على أن كتبهم قد جاء فيها التصريح بصفة النبي ﷺ وتجدون نصوصًا من كتبهم منقولة تذكر صفته ومبعثه ومهاجَره، وكانوا يعرفون الوقت الذي سيبعث به، بل إن بعض هؤلاء كان يعظ هؤلاء المشركين في المدينة، ويذكر اليوم الآخر والبعث، فكانوا يتعجبون ويسألون عن هذا، وهل هو واقع؟ ثم يقسم لهم أنه واقع يعني القيامة والبعث والعذاب والحساب، ثم بعد ذلك يخبرهم عن مبعث نبي، وأن ذلك قد قرب، فحينما يسألونه عن هذا ينظر إلى صغير منهم، ويقول: إن يعش هذا فإنه يدركه، ثم يدرك هذا الصغير، ويكفر ذلك اليهودي، كل ذلك كان حسدًا، فكانوا يعرفون ذلك معرفة تامة، والشواهد على هذا كثيرة، ومن أراد الوقوف على شيء من النصوص التي في كتبهم مما يصف النبي ﷺ ومبعثه، وما إلى ذلك فلينظر في مثل كتاب (إظهار الحق) وهو من الكتب النافعة جدًا، وهو في مجلدين، في مناظرة النصارى والرد عليهم، لأحد علماء الهند في أوائل القرن الماضي[1].

وأيضًا في مثل تفسير صديق حسن خان (فتح البيان) عند قوله -تبارك وتعالى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف:6] فتجدون جملة من النقولات من كتبهم مصرحة بهذا، وتجدون مثل ذلك أيضًا في تفسير (التفسير الكبير) ذكر جملة من هذه النقولات.

وقوله هنا: وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة البقرة:89] يستفتحون يعني يستنصرون، يقولون: سيأتي هذا النبي، فنكون معه ونؤمن به، ثم نقتلكم معه ونبيدكم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: بأن العزم على الشيء يختلف عن فعل الشيء، فكثيرًا ما يعزم الإنسان على شيء وربما قال: لو أني كنت أملك المال الفلاني الذي يملكه فلان لفعلت وفعلت، ولو أن الله رزقني، وأعطاني، لعمَّرت المساجد، وأعطيت المحتاجين، وفعلت وفعلت، وربما رأى مبتلاً، وقال: لو أصابني ما أصاب فلان لم يحصل لي هذا الجزع، بل أصبر وأحتسب عند الله -تبارك وتعالى- ولكن الواقع أن العزم على الشيء أو الدعوى أنها تختلف تمامًا، عما يكون عليه حال الإنسان، فقد ينقطع صبره ويتلاشى ويظهر عليه من أمارات الجزع والتسخط، ما لا يقادر قدره، وقد يُؤتى المال فلا يتصدق ويبخل، وكذلك أيضًا النذر، فإن الكثيرين ربما ابتلي ببلاء، ثم بعد ذلك يجعل عليه نذرًا إن شفاه الله -تبارك وتعالى- أو دفع عنه هذا المكروه أنه سيفعل ويفعل، فإذا حصل مقصوده سأل عن المخرج، ولم يف بهذا النذر، وهذا كثير؛ ولذلك كره النذر.

وكذلك أيضًا -أيها الأحبة- انظروا في كتاب الله -تبارك وتعالى- فيما سيأتي في ثنايا هذه السورة، أولئك اليهود الذين: قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة:246]. 

فهذا هو الاختبار الأول؛ لما قال لهم نبيهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [سورة البقرة:247].

ثم بعد ذلك جاء الاختبار الثاني: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [سورة البقرة:249] فتساقط جمع منهم في البداية حينما اختير لهم هذا الملك، ثم تساقط آخرون عند الاختبار الثاني؛ وذلك في الشرب من ذلك النهر، ثم بعد ذلك جاء الاختبار الثالث، وهو أنهم حينما تواجه الجمعان، خارت قوى الكثيرين، وضعفوا وجبنوا، فقالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [سورة البقرة:249] فلم يبقَ إلا فئة قليلة في منتهى الأمر.

فالناس قد يطلبون أشياء، فإذا تحققت نكلوا، يقولون مثلاً: لو كان عندنا كذا، ولو أنه وجد كذا، وربما يطلبون من الدروس العلمية، والبرامج العلمية، ومجيء أهل العلم، ونحو ذلك، ويكثرون الشكاية في هذا الباب، فإذا وجد رأيت التراجع الكثير، فهكذا كثير من النفوس، تطلب أشياء، فإذا وجدت نكلوا عنها.

وكثير من الناس -أيها الأحبة- وكثير من النفوس ربما يغلب عليها الشكوى، فيحسنون الشكاية والطلب، ولكن العمل قليل، وهذه أمارة ليست جيدة، فإذا رأيت الرجل كثير الكلام والشكوى والتذمر والطلبات، فهذا يدل على قلة العمل، ولو أنه وضع في هذا المكان، أو في هذا الموقف الذي ينتقده ربما رأيت عنده من الإخفاقات أعظم مما كان ينتقده، وهذا شيء مشاهد، لكن كثير من الناس يكثر الشكاية، ولا يعجبه شيء، ولا يقف عند شيء، ولكن أين أعمالك؟ وأين مشاريعك؟ وأين المشروعات التي عندك؟ وأين عطاؤك بحدود ما تستطيع؟ لا يكاد يوجد شيء.

فهذه ظاهرة -كما يقال- كلام كثير وشكوى ونقد، لكن إذا نظرت إلى واقعه العملي هو، وفي نفعه وبذله ودفعه، تجد في الغالب في مثل هؤلاء لا تجد شيئًا يُذكر، فما نفع نفسه، وما نفع غيره، وهذا مهم، فإن الإنسان أحيانًا قد يسمع كلامًا كثيرًا ونقدًا لكل شيء، نقدًا للمشروعات القائمة، والبرامج القائمة، والأعمال الخيرية، والجمعيات الخيرية، ونقدًا للقائمين عليها ولأدائهم، ولا يدخل في عمل إلا ويخرج منه، فإنه لا يعجبه شيء، ولكن أين العمل؟ وأين الأداء الجيد؟ وأين النموذج الصحيح الذي تقدمه للناس؟ لا شيء.

إن كان له اشتغال بالعلم فلا تكاد تجد شيئًا، فيبدأ بكتاب ثم ينقطع ويتوقف، فأين الإنجازات؟ وأين الكتب التي شرحت؟ وأين هي عبر السنين؟ لا شيء، أريد نتائج أين هي؟ بل فقط الانتقاد لهؤلاء الدعاة إلى الله، أو العاملين في الأعمال الخيرية والبرامج إلى آخره، أعطني برامجك وأعمالك وأدائك، ماذا عملت؟ وماذا قدمت؟ وماذا بذلت؟

ستجد أن النتائج هي مجرد نقد، وأحيانًا ربما يبدو النقد له وجاهة، وأن هذا الإنسان يحمل عقلية متفتحة وناقدة، وعقلية تبصر، لكنها أحيانًا يكون هذا هو نهاية المطاف، وهو مجرد النقد، والكلام الجميل في بيان الأخطاء والعيوب والنقائص، وما أشبه ذلك، لكن أين العمل الإيجابي الواقعي؟ فعمل فيه نقص خير من لا شيء، وعمل فيه نقص خير من ظاهرة نقدية، نحن نكمل الأعمال، وندعو لأصحابها، ونسأل الله لهم العون، وننصحهم ونسددهم.

ونقول: نحن لم نعمل عملكم، ولم نقدم ما تقدمون، ولم نبذل، أنتم الذين تتعبون وتسهرون وتقدمون وتبذلون، والكمال لوجه الله  ولكن الله يبارك هذه الأعمال ويسددكم، أما أن نريد الأشياء على وجه من الكمال كما نريد نحن، فإن هذا قد لا يتأتى.

وتجدون هذا في القرآن في قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2، 3] وسبب النزول معروف، أنهم تمنوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى- فلما أُخبروا أنه الجهاد نكلوا وتثاقلوا، فعاتبهم الله لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ فكثير من الناس يطلب أشياء، ويتمنى أشياء، ولو تتاح له الفرص في مشروعات وأعمال لعمل وعمل، ولكن الواقع أن ذلك قد لا يحصل منه شيء، وكثير من الأعمال والبرامج والفرص القائمة لو ما كانت موجودة لوجدت التذمر الكثير على ألسن هذا النوع من الناس، ولكن حينما تكون الأبواب لهم مشرعة، تجد التباطؤ والتأخر والتراجع، ونحن نريد النقد الذي يبني، ويُكمِّل ويتبعه عمل واقعي في الخارج، أما مجرد النقد وليس عند الإنسان إلا النقد، وينتقد كل شيء فهذا غير صحيح، والله المستعان.

وقوله -تبارك وتعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:89] ولم يقل: فلعنة الله عليهم، فهنا لنا وقفتان:

الأول: أنه وضع الظاهر موضع المضمر، فلم يقل: فلعنة الله عليهم، وإنما قال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فجاء بالاسم الظاهر، ففيه إشارة إلى بيان علة اللعن، وهي الكفر، وأن الذي وقع منهم كفر، حيث كفروا بالنبي ﷺ وبالكتاب الذي جاءهم.

الثاني: أن ذلك على قاعدة معروفة، وقد ذكرها الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في كتابه (القواعد الحسان) وهو أن الله -تبارك وتعالى- قد يذكر قضية خاصة -مثلما وقع لهؤلاء اليهود- ثم يأتي بالحكم العام ليشمل هؤلاء ومن شاكلهم[2] فكل كافر يدخل في هذا وإن لم يقع منه ما وقع من هؤلاء وهو أنه كان يستفتح على المشركين ببعث النبي، وأنه سيقتلهم معه، وأنه سيؤمن به، وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك جاءت الصفات التي عرفها لهذا النبي، وجاء هذا النبي بهذه الصفات، فكفر به فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فيشمل هذا، ويشمل كل كافر أيًّا كان نوع هذا الكفر الذي صدر عنه.

فقد يكون كفر به بعد ما لقيه لأول وهلة، وعرف أنه نبي، أو رأى معجزته، أو نحو ذلك، وإن لم يعرف من خلال ما ذُكر من صفاته في كتاب سابق، مثلاً قد يكون عرف أنه نبي بأمارات أخرى، فإذا كفر بنبي من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أو آمن بالرسول ﷺ ولكنه صدر منه ما يُخرجه من الملة، ففي مثل هذا يكون داخلاً بقوله: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.

فما وقع من هؤلاء واستوجبوا به هذه اللعنة، وحصل منهم هذا الكفر، كل هذا نتيجة للحسد، وهذا أبلغ في استحقاق الذم، والله المستعان.

  1.  كتاب (إظهار الحق) لمؤلفه: محمد رحمت الله بن خليل الرحمن الكيرانوي العثماني الهندي الحنفي (المتوفى:1308هـ) مطبوع بدراسة وتحقيق وتعليق: الدكتور محمد أحمد محمد عبد القادر خليل ملكاوي، الأستاذ المساعد بكلية التربية جامعة الملك سعود – الرياض، الناشر: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – السعودية الطبعة: الأولى، 1410 هـ - 1989م.
  2.  القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص:122).