الثلاثاء 08 / ذو القعدة / 1446 - 06 / مايو 2025
بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْا۟ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا۟ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۖ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَٰفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة البقرة:90].
قال مجاهد: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد ﷺ بأن يبينوه.
وقال السدي: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به، وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد ﷺ عن تصديقه، ومؤازرته، ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي، والحسد، والكراهية أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ولا حسد أعظم من هذا.
سبق الكلام عن معنى الاشتراء في قوله - تبارك وتعالى -: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16]، فالاشتراء أصله يكون بالبيع والشراء تقول: شرى واشترى، وبعضهم يفرق بين شرى واشترى فيقولون: اشترى من الاشتراء وهو أخذ السلعة بعوض عنها من المال ونحوه، وشرى بمعنى باع، لكن هنا بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ فسره بعضهم بأنهم باعوا أنفسهم.
وعلى كل حال نحن إذا بقينا مع أصل المعنى اللغوي لـاشترى سنقول: باع، لكن ذلك يورث في تفسير الآية إشكالاً.
فالمهم أن اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وبِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ معناه أنهم باعوا أنفسهم بثمن بخس، وهو أنهم استبدلوا الكفر، ورضوه، واعتاضوه عن الإيمان، واتباع الحق، وبالرشى، والكذب على الله ، وتحريف كتبه.
وإذا أردنا أن نفسر الآية بمعنى أقرب إلى الأذهان نقول: إن الشراء والبيع يستخدم في المعاوضات بالمال، ولكنه صار يقال ذلك في كل معاوضة، فهؤلاء بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أي أنهم استبدلوا الإيمان بالكفر، والتصديق واتباع محمد ﷺ اعتاضوا عنه بالتكذيب، والكفر، وردِّ ما جاء به النبي - عليه الصلاة والسلام -، فهذه هي حالهم، وصفتهم.
و[بِئْس] تستعمل للذم، وأصلها [بَئِس] وصار يستعمل مخففاً [بِئْس] ودخلت عليها [ما]، وبعضهم يقول: هي كلمة واحدة، وعلى كل حال هي كلمة تستعمل للذم، والمعنى بئس الشيء ما اعتاضوا به من الكفر، والتكذيب؛ بدلاً من الإيمان واتباع محمد ﷺ وهذا كما قال القائل:
بدلت بالجمة رأساً أزعرا وبالطويل العمر عمراً جيدرا
وبالثنايا الواضحات الدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا
فقوله: كما اشترى المسلم إذ تنصرا يعني كما استعاض الإسلام بالنصرانية، فالمقصود المعاوضة، ومثل هذا قول الشاعر:
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن
يعني بماذا اعتضت بترك الحج من الثمن، والله أعلم.
قال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد ﷺ وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.يقول الله عن هؤلاء اليهود: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [سورة البقرة:90].
سبق الحديث عن قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ، وعرفنا معنى بئس وشرى، و[ما] تحتمل أن تكون موصوله، وبعضهم يقول: [ما] موصوفة، والمعنى بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، حيث إن قوله: أَن يَكْفُرُواْ تؤول بمصدر هو كفرهم بما أنزل الله.
وكفرهم بما أنزل الله دافعه الحسد، والبغي، والبغي هو التعدي على الآخرين، فالتجاوز، والإساءة، والظلم، والعدوان كل ذلك يقال له: بغي.
وقوله: بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ أي ينزل الله أي حسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فبئس شيئاً أو بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، أو يمكن أن يكون أَن يَكْفُرُواْ مؤول بمصدر ويكون هو المخصوص بالذم، أي بئس الشيء كفرهم، والله أعلم.
قوله: فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [سورة البقرة:90] يعني الغضب الأول، والغضب الآخِر، فالغضب الأول هو ما استحقوا به اللعن وهو غضب الله بارتكاب الأسباب الموجبة لذلك وهي كثيرة جداً، من كفرهم بالمسيح - عليه الصلاة والسلام -، وكذلك ما ذكر الله عنهم من تركهم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحادة الله ، ورسله - عليهم الصلاة والسلام -، وقتلهم الأنبياء وما أشبه ذلك مما استوجبوا به غضب الله  سابقاً، ثم بعد ذلك الغضب الآخر وذلك بكفرهم بمحمد ﷺ، فجمعوا كفراً إلى كفر فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ، وبهذا تعرف أن الكفار متفاوتون غاية التفاوت على النار وليسوا على مرتبة واحدة بل إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [سورة آل عمران:178]، فالكفار يزدادون من الإثم ، فتتفاوت أحوالهم في النار، وعذابهم بحسب ما عندهم من الجرائم.
وقوله تعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي، والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالمهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] أي: صاغرين حقيرين، ذليلين راغمين.
وقد روى الإمام أحمد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: يحشر المتكبرون أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار[1]
قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يدل على أنه قد يوجد العذاب ولا توجد الإهانة، فإن العذاب الذي يقع على أهل الإيمان لا يكون موصوفاً بالإهانة، فقد يحصل للإنسان الألم دون أن يحصل له إهانة معه، ولكن ذلك العذاب الذي يقع بالكفار عذاب يهينهم كما أخبر الله أن يسحبون في النار على وجوههم، فالمقصود أن الإهانة هي إيلام للنفس، والعذاب أشمل من ذلك يقع على البدن، ويقع على النفس، ولربما كان العذاب الواقع على النفس أعظم من العذاب الواقع على البدن، فجمع الله لهم بين هذا وهذا، وذلك في القرآن كثير، حيث يذكر الله عذاب أهل النار الذين هم أهلها، ويذكر معه الإهانة، والأحاديث الواردة في الكبر كثيرة جداً، وهذا الحديث الذي ذكره أيضاً منها وهو بإسناد حسن.
ومن الأشياء التي يمكن أن تذكر أن الله قال: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ولم يقل: ولهم مع أن الكناية بالضمير تصلح في هذا الموضع، ولهم عذاب مهين لكن الله قال: وَلِلْكَافِرِينَ فهذا الذي يسمونه الإظهار في موضع الإضمار، يعني أنه يصلح فيه الضمير ويغني، والضمائر إنما تأتي بها العرب لاختصار الكلام وتقليله، فإذا أظهر في موضع الإضمار وَلِلْكَافِرِينَ بدلاً من أن يقول: ولهم عذاب، فإن ذلك يكون لنكته؛ وذلك لأن يكون المراد بيان السبب الذي استوجبوا به هذه العقوبة أي: لماذا كان لهم عذاب مهين؟ لكفرهم، وأن هذا الذي فعلوه من كفرهم بما أنزل الله على محمد ﷺ أنه كفر استوجبوا به عذاب الله ، فالإظهار في موضع الإضمار تارة يكون لهذا المعنى، وتارة يكون لاستحضار المهابة كما إذا ذكر اسم الجلالة في موضع يصح فيه الإضمار أو غير ذلك من المعاني التي يذكرونها في كل مقام بحسبه، لكن هذا مثال على ذلك.
  1. أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ - باب 47 (2492) (ج 4 / ص 655) وأحمد (ج 2 / ص 179) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (8040).

مرات الإستماع: 0

"بِئْسَمَا فاعل بئس مضمر، وما مفسرة له، وأَنْ يَكْفُرُوا: هو المذموم، وقال الفرّاء: بئسما مركب كـ حبّذا، وقال الكسائي: ما مصدرية أي اشتراؤهم فهي فاعلة."

بِئْسَمَا فاعل بئس مضمر، وما مفسرة له. أي: مفسرة للفاعل (ما) هذه تحتمل أن تكون موصولة بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ويحتمل أن تكون موصوفة بما بعدها، بئس الشيء، أو بئس شيئًا أَنْ يَكْفُرُوا هذا المخصوص بالذم؛ لأن بئس تدل على الذم. وقال الفرّاء: بئسما مركب كـ حبذا.

يعني من بئس و (ما). وقال الكسائي: ما مصدرية أي اشتراؤهم فهي فاعلة. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا يعني تؤول، وما بعدها بمصدر بئس اشتراؤهم، فتكون بهذا الاعتبار هي الفاعل، ولا يكون الفاعل مضمراً، وعلى الأول بئس الشيء، أو بئس شيئًا إذا قلنا: بأنها موصوفة، أو موصولة.

"اشْتَرَوْا هنا بمعنى باعوا."

الاشتراء هذا من الأضداد كما مضى في بعض المناسبات، وفي الغريب فهو يقال: للبيع. ويقال: للشراء. والمعنى بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر، يعني أنهم اختاروا الكفر وأخذوه وبذلوا أنفسهم للنار بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ باعوا أنفسهم، هذا الذي ذهب إليه ابن جرير في محمله، والحافظ ابن كثير يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم، فرضوا به، وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد ﷺ عن تصديقه، ومؤازرته، ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي، والحسد، والكراهية، فهنا بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ باعوا أنفسهم، وعبارة الحافظ ابن كثير قريبة من هذا حينما يقول: اعتاضوا. فالبيع معاوضة، اشتروا به أنفسهم، وعلى كل حال عند قوله - تعالى -: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى [البقرة: 16، 175 ] تحدثنا عن شيء من هذا المعنى - والله أعلم -.

"أَنْ يَكْفُرُوا في موضع خبر ابتداء، أو مبتدأ كاسم المذموم في بئس، أو مفعول من أجله، أو بدل من الضمير في به."

يعني: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَنْ يَكْفُرُوا يقول: في موضع خبر ابتداء، أو مبتدأ كاسم المذموم في بئس، أو مفعول من أجله، أو بدل من الضمير في به. بدل من الضمير في به يعني بأن يكفروا.

"بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن، أو التوراة؛ لأنهم كفروا بما فيها من ذكر محمد ﷺ. أَنْ يُنَزِّلَ في موضع مفعول من أجله. مِنْ فَضْلِهِ القرآن والرسالة. مَنْ يَشاءُ يعني محمد ﷺ، والمعنى أنهم إنما كفروا حسدًا لمحمد ﷺ لما تفضل الله عليه بالرسالة. بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي: بغضب لكفرهم بمحمد ﷺ عَلى غَضَبٍ لكفرهم بعيسى  أو لعبادتهم العجل، أو لقولهم: عزير ابن الله. أو لغير ذلك من قبائحهم."

على كل حال هذا غضب بعد غضب، فيحتمل أن يكون ذلك غضب الأول بتضييع العمل في التوراة، والغضب الثاني: الكفر بما أُنزل على محمد ﷺ أو يكون الغضب الأول بقبائحهم عمومًا: كقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30 ] وكذلك قتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وكفرهم بعيسى ﷺ وعبادة العجل، فهذا الغضب المتقدم، الغضب السابق فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ استحقوا الغضب، وهم المغضوب عليهم، وجاء ذلك مصرحًا به في القرآن في مواضع ثم جاء هذا الغضب اللاحق بكفرهم بالنبي - عليه الصلة والسلام -. 

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في سياق الحديث عن بني إسرائيل الذين كذبوا بالكتاب الذي جاءهم من عند الله -تبارك وتعالى- وهو مصدقٌ لما معهم، موافق للصفة التي في كتبهم، وهو مصدق أيضًا لما معهم من نبوة أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- ويشهد لما تضمنته تلك الكتب من الأصول الكبار، ومع ذلك ومع هذه المعرفة إلا أنهم كذبوا وكفروا حسدًا وبغيًا واستكبارًا على الحق، وعلى الرسول الذي جاء من الله -تبارك وتعالى- بكتاب أوحى به إليه.

يقول الله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [سورة البقرة:90] يقول: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا أي: قبُح ما اختاروه واعتاضوا به من الكفر بما أنزل الله -تبارك وتعالى- حيث استعاضوا بالكفر من الإيمان، واستحبوا الكفر بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ: ظلمًا وعدوانًا وحسدًا، كل ذلك على نبي الله -تبارك وتعالى- الذي أرسله من ولد إسماعيل -عليه الصلاة والسلام- أن جاءهم رسول من غير بني إسرائيل، مع أنهم كانوا يقتلون أنبياء الله -تبارك وتعالى- كما مضى في الآيات قبلها.

بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فرجعوا بهذا الصنيع بغضب من الله -تبارك وتعالى- أن سخط الله عليهم بسبب هذا الكفر، بعد غضبه عليهم بسبب عتوهم عليه، وتحريفهم لكتابهم، وما إلى ذلك من كفرهم، فباؤوا بغضب على غضب، فهذا غضب جديد، والله -تبارك وتعالى- قد غضب عليهم قبل ذلك، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، فهذا سبب جديد يتجدد معه غضب آخر، فرجعوا بهذا الغضب على غضب لاحق، ثم جاء بالحكم العام كما ذكرنا سابقًا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ يذلهم ويهينهم ويخزيهم.

فهذا كما مضى أن الله قد يذكر قضية خاصة، ثم يأتي بالحكم العام بعدها؛ ليشمل هؤلاء وغيرهم وَلِلْكَافِرِينَ لكل الكافرين سواء هؤلاء الذين كفروا بمحمد ﷺ بغيًا وحسدًا، أو غير هؤلاء من الكفار، فجميع الكفار قد توعدهم الله بالعذاب المهين، هذا بالإضافة إلى أن قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [سورة البقرة:90] هذا الإظهار في موضع الإضمار، كما ذكرنا في الآية التي قبله، فيه إشعار علة هذا العذاب وهي الكفر، فلم يقل: ولهم عذاب مهين، فإن هذا لا يشعر بالعلة، لكن حينما يقول: وَلِلْكَافِرِينَ فهذا فيه فائدتان:

الفائدة الأولى: أن ذلك يشمل كل من كفر.

والأمر الثاني: أنه يشعر بالعلية، العلة التي استوجبوا بها ذلك، وهو الكفر، الكفر بالله وكتبه ورسله، والكفر بما يجب الإيمان به، ولم يأتِ مثل هذا السياق، يعني: إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار في جميع المواضع الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [سورة النساء:37] وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [سورة النساء:102] إلى غير ذلك من النصوص، وهذا يُعلم بالاستقراء.

ثم أيضًا تأمَّل قوله -تبارك وتعالى: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فهذا يُؤخذ منه أن من أعظم النعم وأجل النعم هو العلم أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فهذا الذي نزل على هذه الأمة الأمية، وعلى هؤلاء الذين كانوا في غاية الجهالة من الوحي وفي مضامينه من العلم ما لا يقادر قدره، فوقع الحسد من هؤلاء اليهود لهذه الأمة، وسمى الله -تبارك وتعالى- فضلاً فهو يشمل الوحي وما تضمنه من العلم، ولذلك فإنه لا يغاظ العدو بمثل العلم، إذا أردت أن يتغيظ عدوك، وأن ترتقي في معارج الكمال وسلمه، فعليك بالعلم، وتحصيل العلم، فإن ذلك لا شك أنه يحصل بسببه من الغيظ للعدو؛ لأنه يرى الكمالات، وميراث الأنبياء يحصل لك منه ما شاء الله -تبارك وتعالى- أن يحصل.

ثم أيضًا يُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ أن العقوبات وسخط الله -تبارك وتعالى- يتراكب ويتراكم بحسب ما وجد من موجباته وأسبابه، فهؤلاء فعلوا أفعالاً موجبة للغضب، من كفرهم بالله -تبارك وتعالى- وكفرهم بأنبيائه، وقتل الأنبياء، والتمرد على هؤلاء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87] فهؤلاء استوجبوا غضبًا سابقًا، ثم بعد ذلك جاءهم موجب غضب لاحق، فالغضب يتراكب ويتراكم، حتى -نسأل الله العافية- يصير ذلك وصفًا للإنسان لا يفارقه، أنه من أهل الغضب؛ ولذلك إذا ذُكر الغضب ذُكر اليهود غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الفاتحة:7].

كل من عرف الحق فتركه فهو من أهل الغضب، ولكن هؤلاء اليهود امتازوا بذلك عن غيرهم، وإلا فالنصارى قد عرفوا صدق ما جاء به النبي ﷺ ومع ذلك كفروا به، فجمعوا بين الضلال والغضب، فاليهود أهل علم، لكنهم عرفوا الحق فتركوه، فكانوا أحق بوصف الغضب؛ ولما كان الجهل هو الغالب على النصارى كانوا هم الأحق بوصف الضلال، ابتداءً من أصل اعتقادهم في الصليب والتثليث، كما قال بعض أهل العلم: بأن عقيدة النصارى هي وصمة عار في جبين البشرية، كيف ينزل الإله الرب، ثم يقتله البشر، ثم يصلب؟ وكيف يكون الواحد ثلاثة؟ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [سورة المائدة:73] وكيف يتنزهون عن أمر يضيفونه إلى الله -تبارك وتعالى- ؟

وكان من كبار العلماء الذين عرفوا بالرد على النصارى الباقلاني -رحمه الله- وله كتاب اسمه (الانتصار لنقل القرآن) مطبوع في ثلاث مجلدات، طُبع أخيرًا، وكانت له مناظرات ومواقف، ومن ذلك: أن ملك الروم طلب من الخليفة أن يبعث إليه عالمًا ليناظر أصحابه، فبعث إليه الباقلاني، فلما جاء وجد أنهم قد وضعوا بابًا قصيرًا يريدون منه أن يدخل وقد انحنى، فتفطن لمرادهم فأدار ظهره، ودخل القهقرى، يعني إلى الخلف، من أجل ألا ينحني، ثم بعد ذلك جلس، فنظر إليهم ملك الروم والرهبان قد جلسوا حوله للمناظرة، فقال: كيف أنتم؟ كيف الأهل والعيال؟ فقال له ملك الروم: عجبًا لك إن قومك قد انتخبوك وأرسلوك لأنك المقدم فيهم من أجل المناظرة، ولا تعلم أن هؤلاء لا يتزوجون، وليس لهم أولاد؟! فقال: عجبًا لكم تتنزهون عن الزوجة والولد وتضيفون لله الصاحبة والولد؟!

فانتهت المناظرة بأول سؤال جاء به على سبيل المؤانسة، وهو: كيف الأهل والأولاد؟ فقال له: أما تعلم أن هؤلاء لا يتزوجون وأنت عالم كبير بعثوا بك، وهذه قضية من المعلومات المقررة المبدئية، فكيف تجهل هذا؟ فقال: تتنزهون عن هذا وتضيفونه إلى الله، فحجّهم بأول المجلس.

فالشاهد: أن هؤلاء في اعتقادهم بأن الله قد قُتل، وأنه قد صُلب، وتجسد في المسيح، وحل اللاهوت في الناسوت إلى آخره، فهذه عقيدة لا شك أنها عار في جبين البشرية.

والله -تبارك وتعالى- يقول عن هؤلاء اليهود: بأنه قد لعنهم، وغضب عليهم غضبًا بعد غضب؛ لكثرة كفرهم، وتوالي إشراكهم وعنادهم وعتوهم على ربهم -تبارك وتعالى.

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [سورة البقرة:90] إضافة إلى ما سبق: أن هذا المجرم أو الكافر أو المستكبر، يعامل بنقيض قصده، يعني هذا حينما تكبر على الحق وترفع كان الجزاء من جنس العمل، ما هو الجزاء؟ الجزاء الإهانة عَذَابٌ مُهِينٌ فهم استنكفوا وترفعوا واستكبروا، فكانت النتيجة أن العذاب المهين هو نصيبهم.

والعذاب وصفه الله في مواضع بأنه أليم؛ لأنه مؤلم شديد الإيلام، ووصفه بأنه مقيم؛ لأنه لا انقطاع له، ووصفه أيضًا بأنه مهين، وهذا فيه الأذى النفسي، يعني: هو ليس فقط من قبيل الألم الجسدي، بل إهانة؛ ولذلك قال الله الذين يسحبون في النار على وجوههم يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر:48] أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الزمر:24] الإنسان يدفع عادة عن وجهه بيديه، فجعلت يداه في الأغلال، فهو لا يستطيع أن يدفع عن وجهه بيديه، فيدفع العذاب بوجهه، نسأل الله العافية، فهذا في غاية الإهانة؛ ولذلك ذكر النبي ﷺ عقوبة المتكبرين في أرض المحشر قبل دخول النار بقوله: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان[1] فهذا عقوبة بنقيض القصد، ترفَّع عن الحق فعاقبه الله بضد قصده، بالإهانة والعذاب المهين، فوضع الظاهر في موضع المضمر وَلِلْكَافِرينَ فلم يقل: ولهم عذاب مهين.

فهؤلاء لما كان كفرهم بسبب البغي والحسد، ومنشأ ذلك هو الكبر، كان الجزاء بالصغار والإهانة، وما شابه ذلك، نسأل الله العافية، كما قال النبي ﷺ : وجعل الذل والصغار على من خالف أمري[2] إضافة إلى ما يكون لهم في الآخرة من العذاب.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [سورة البقرة:90] أن البغي الذي منشأه الحسد، أو الكبر، أو نحو ذلك، قد يحمل صاحبه على ركوب المراكب الصعبة، يعني هؤلاء عرفوا أنهم يخسرون الآخرة، ومع ذلك ركبوا هذه المراكب الصعبة واختاروا البقاء على الكفر، كل ذلك بدافع الحسد والكبر؛ ولهذا كان كثير من المشركين في زمن النبي ﷺ يعلمون صدق ما جاء به، لكن منعهم من هذا الكبر أو الحسد، ومن جملة ما قال أبو طالب في قصيدته المشهورة التي ذكرها الحافظ ابن كثير في تاريخ في البداية والنهاية:

ولقد علمتُ بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية دينا[3]

فعلّل عدم الإيمان بأنه يخشى المسبّة، أن يقال: غيَّر دين الآباء والأجداد، وقد يكون له دوافع أخرى، كما قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله- في صدر كتابه (التنكيل) الذي أُفرد فيما بعد في كتاب سمي بالقائد إلى تصحيح العقائد، وهو كتاب نفيس، ومما ذكر من أسباب رد الحق، قال: "ومنهم من يكون له في الباطل شهرة ومعيشة"[4] أن يكون هذا الإنسان مشهورًا، فإذا ترك الباطل ستذهب هذه الأضواء، فيبقى على الباطل، فيحسب ألف حساب للتوبة والرجوع عن باطله، وقد يكون له معيشة في هذا الباطل، بمعنى أنه يأتيه من الأموال من هؤلاء الأتباع، أو من غيرهم، فيحسب ألف حساب لانقطاع هذه الأموال، وذهاب هذه المعايش.

وقد يكون كسبه من الحرام، فإذا أراد أن يتوب بدأ يحسب هذه المكاسب، وانقطاع هذه الأموال التي تصل إليه، وقد يكون الدافع لذلك هو الحسد، وقد يكون الدافع لذلك هو الكبر، وقد يحسب حسابات غير صحيحة، كأن ينظر إلى هذا الذي جاء بهذا الحق، فيرى أن الإقرار به يتضمن أو يستلزم الإقرار بفضله، وهو لا يريد هذا، فيرد الحق، إما أن يرد بعضه، أو أن يرد الحق كله، حتى إن ابن حزم -رحمه الله- ذكر عن أحد المنتسبين للعلم بأنه قد ذكر آيةً فأخطأ فيها، فلما رُوجع في ذلك أصر، فجاؤوا له بالمصحف فلم يقبل، فدخل داره وأخرج المصحف، والحبر لم يجف، يعني: غير اللفظة من ألا يقال: أخطأ، فمثل هذا -نسأل الله العافية- الكبر والتعالي والصلف جعله يركب هذه المراكب الصعبة.

وقل مثل ذلك أيضًا فيما يحصل من رد الحق بسبب حسابات ينظر إلى أنه قد قضى دهرًا طويلاً - كما يقول الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله- في دعوته إلى الباطل[5] قد يكون شيخ طريقة صوفية، قد يكون على ديانة يدعو عشرات السنين، ثم بعد ذلك يرجع، فمعنى ذلك أن كل تلك الجهود كانت على الباطل، وأن كل هذا العمل والسعي على باطل، والذهاب والمجيء وهنا وهناك والمزاولات والأعمال كله باطل.

وقد تكون حساباته بطريقة أخرى: أنه يرى أن إقراره بذلك يعني أن قومه وعشيرته وكل هؤلاء على باطل، فيصر على رد الحق؛ ليقول: أنا على الحق، والواقع أنه ينغمس ويهوي في دركات الباطل وما يشعر، وما نفع هؤلاء الذين قد شمخوا بآنافهم في زمن النبي ﷺ من اليهود وغيرهم، ولم يؤمنوا به مع معرفتهم بصدق ما جاء به، ما نفعهم، ذهبت رئاساتهم وأموالهم، وبقي لهم العذاب، والله قد صور هذا بتصوير في غاية الوضوح، حينما أنكر موالاة اليهود، ونهى المؤمنين عنها، قال: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَة [سورة الممتحنة:13] نهاهم عن موالاة قوم بهذه الصفة قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13] على المعنيين اللذين ذكرهما المفسرون قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13] قيل: يئسوا من ثواب الآخرة، فليس لهم عند الله نصيب، كيأس الكفار المقبورين حينما عاينوا الحقائق، وعرفوا أنهم في النار، فهم يقولون دائمًا: رب لا تقم الساعة[6] يئسوا من نصيبهم وثواب الله -تبارك وتعالى- لأنهم صاروا أمام مشاهدة الحقائق الغيبية التي عرفوا من خلالها أنهم خاسرون قطعًا.

والمعنى الثاني: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ يعني: كما يئس الكفار الأحياء من المقبورين أن يرجعوا إليهم؛ لأنهم يعتقدون أنه لا بعث، وأن هذا الفراق النهائي، وأن هذا هو مثواه الأخير، والله المستعان. 

  1.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب صفة القيامة والرقائق والورع برقم: (2492) وحسنه الألباني. 
  2.  أخرجه البخاري معلقاً (4/ 40) وأحمد ط الرسالة برقم: (5114) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف". 
  3.  البداية والنهاية ط إحياء التراث (3/ 56). 
  4.  القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 13). 
  5. القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 12). 
  6.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (18534) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".