قال مجاهد: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ يهودُ شَرَوُا الحقَّ بالباطل، وكتمانَ مَا جاءَ به مُحَمَّد ﷺ بأن يبينوه.
وقال السدي: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به، وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد ﷺ عن تصديقه، ومؤازرته، ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي، والحسد، والكراهية أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ولا حسد أعظم من هذا.سبق الكلام عن معنى الاشتراء في قوله - تبارك وتعالى -: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ [سورة البقرة:16]، فالاشتراء أصله يكون بالبيع والشراء تقول: شرى واشترى، وبعضهم يفرق بين شرى واشترى فيقولون: اشترى من الاشتراء وهو أخذ السلعة بعوض عنها من المال ونحوه، وشرى بمعنى باع، لكن هنا بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ فسره بعضهم بأنهم باعوا أنفسهم.
وعلى كل حال نحن إذا بقينا مع أصل المعنى اللغوي لـاشترى سنقول: باع، لكن ذلك يورث في تفسير الآية إشكالاً.
فالمهم أن اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وبِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ معناه أنهم باعوا أنفسهم بثمن بخس، وهو أنهم استبدلوا الكفر، ورضوه، واعتاضوه عن الإيمان، واتباع الحق، وبالرشى، والكذب على الله ، وتحريف كتبه.
وإذا أردنا أن نفسر الآية بمعنى أقرب إلى الأذهان نقول: إن الشراء والبيع يستخدم في المعاوضات بالمال، ولكنه صار يقال ذلك في كل معاوضة، فهؤلاء بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أي أنهم استبدلوا الإيمان بالكفر، والتصديق واتباع محمد ﷺ اعتاضوا عنه بالتكذيب، والكفر، وردِّ ما جاء به النبي - عليه الصلاة والسلام -، فهذه هي حالهم، وصفتهم.
و[بِئْس] تستعمل للذم، وأصلها [بَئِس] وصار يستعمل مخففاً [بِئْس] ودخلت عليها [ما]، وبعضهم يقول: هي كلمة واحدة، وعلى كل حال هي كلمة تستعمل للذم، والمعنى بئس الشيء ما اعتاضوا به من الكفر، والتكذيب؛ بدلاً من الإيمان واتباع محمد ﷺ وهذا كما قال القائل:
بدلت بالجمة رأساً أزعرا | وبالطويل العمر عمراً جيدرا |
وبالثنايا الواضحات الدردرا | كما اشترى المسلم إذ تنصرا |
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها | فما أصبت بترك الحج من ثمن |
قال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد ﷺ وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله.يقول الله عن هؤلاء اليهود: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [سورة البقرة:90].
سبق الحديث عن قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ، وعرفنا معنى بئس وشرى، و[ما] تحتمل أن تكون موصوله، وبعضهم يقول: [ما] موصوفة، والمعنى بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، حيث إن قوله: أَن يَكْفُرُواْ تؤول بمصدر هو كفرهم بما أنزل الله.
وكفرهم بما أنزل الله دافعه الحسد، والبغي، والبغي هو التعدي على الآخرين، فالتجاوز، والإساءة، والظلم، والعدوان كل ذلك يقال له: بغي.
وقوله: بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ أي ينزل الله أي حسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فبئس شيئاً أو بئس الشيء الذي اشتروا به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله، أو يمكن أن يكون أَن يَكْفُرُواْ مؤول بمصدر ويكون هو المخصوص بالذم، أي بئس الشيء كفرهم، والله أعلم.
قوله: فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [سورة البقرة:90] يعني الغضب الأول، والغضب الآخِر، فالغضب الأول هو ما استحقوا به اللعن وهو غضب الله بارتكاب الأسباب الموجبة لذلك وهي كثيرة جداً، من كفرهم بالمسيح - عليه الصلاة والسلام -، وكذلك ما ذكر الله عنهم من تركهم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحادة الله ، ورسله - عليهم الصلاة والسلام -، وقتلهم الأنبياء وما أشبه ذلك مما استوجبوا به غضب الله سابقاً، ثم بعد ذلك الغضب الآخر وذلك بكفرهم بمحمد ﷺ، فجمعوا كفراً إلى كفر فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ، وبهذا تعرف أن الكفار متفاوتون غاية التفاوت على النار وليسوا على مرتبة واحدة بل إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا [سورة آل عمران:178]، فالكفار يزدادون من الإثم ، فتتفاوت أحوالهم في النار، وعذابهم بحسب ما عندهم من الجرائم.
وقوله تعالى: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ [سورة البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي، والحسد، ومنشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالمهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [سورة غافر:60] أي: صاغرين حقيرين، ذليلين راغمين.
وقد روى الإمام أحمد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: يحشر المتكبرون أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار[1]قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يدل على أنه قد يوجد العذاب ولا توجد الإهانة، فإن العذاب الذي يقع على أهل الإيمان لا يكون موصوفاً بالإهانة، فقد يحصل للإنسان الألم دون أن يحصل له إهانة معه، ولكن ذلك العذاب الذي يقع بالكفار عذاب يهينهم كما أخبر الله أن يسحبون في النار على وجوههم، فالمقصود أن الإهانة هي إيلام للنفس، والعذاب أشمل من ذلك يقع على البدن، ويقع على النفس، ولربما كان العذاب الواقع على النفس أعظم من العذاب الواقع على البدن، فجمع الله لهم بين هذا وهذا، وذلك في القرآن كثير، حيث يذكر الله عذاب أهل النار الذين هم أهلها، ويذكر معه الإهانة، والأحاديث الواردة في الكبر كثيرة جداً، وهذا الحديث الذي ذكره أيضاً منها وهو بإسناد حسن.
ومن الأشياء التي يمكن أن تذكر أن الله قال: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ولم يقل: ولهم مع أن الكناية بالضمير تصلح في هذا الموضع، ولهم عذاب مهين لكن الله قال: وَلِلْكَافِرِينَ فهذا الذي يسمونه الإظهار في موضع الإضمار، يعني أنه يصلح فيه الضمير ويغني، والضمائر إنما تأتي بها العرب لاختصار الكلام وتقليله، فإذا أظهر في موضع الإضمار وَلِلْكَافِرِينَ بدلاً من أن يقول: ولهم عذاب، فإن ذلك يكون لنكته؛ وذلك لأن يكون المراد بيان السبب الذي استوجبوا به هذه العقوبة أي: لماذا كان لهم عذاب مهين؟ لكفرهم، وأن هذا الذي فعلوه من كفرهم بما أنزل الله على محمد ﷺ أنه كفر استوجبوا به عذاب الله ، فالإظهار في موضع الإضمار تارة يكون لهذا المعنى، وتارة يكون لاستحضار المهابة كما إذا ذكر اسم الجلالة في موضع يصح فيه الإضمار أو غير ذلك من المعاني التي يذكرونها في كل مقام بحسبه، لكن هذا مثال على ذلك.
- أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ - باب 47 (2492) (ج 4 / ص 655) وأحمد (ج 2 / ص 179) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (8040).