الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا۟ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ [ سورة البقرة:91-92].
يقول تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب آمنوا بما أنزل الله على محمد ﷺ، وصدقوه، واتبعوه، قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة، والإنجيل، ولا نقر إلا بذلك.
وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ يعني بما بعده وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ أي: وهم يعلمون أنما أنزل على محمد ﷺ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ منصوباً على الحال.
في قوله - تبارك وتعالى -: وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ: كلمة وراء من الأضداد في لغة العرب، ومعنى أنها من الأضداد أي أنها تأتي لمعنى ولضده، أي تستعمل لمعنيين بينهما تضاد، فكلمة وراء تستعمل بمعنى خلف، وتستعمل بمعنى أمام فقوله - تبارك وتعالى - في سورة الكهف: وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف:79] وراءهم ملك يعني أمامهم، وقد جاء ذلك في القراءة الأخرى لكنها غير متواترة: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً).
فقوله: هنا: وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ يمكن أن تفسر بما بعده، فهم يؤمنون بالتوراة، وبموسى ﷺ، ويكفرون بمن جاء بعده وهو عيسى ﷺ، ومحمد - عليه والصلاة والسلام - هذا هو المعروف في الأنبياء الذين كفر بهم اليهود، ويُذكر أنبياء آخرون، لكن لا يثبت ذلك بشيء يجب الرجوع إليه، والوقوف عنده كما يقولون: خالد بن سنان في أصحاب الرس، ولكن هذا لا يثبت.
على كل حال وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ يمكن أن يفسر بما هو أعم ذلك يعني بما بعده، فيقال: وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ أي بما سواه وهو اختيار كبير المفسرين بن جرير الطبري - رحمه الله - وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ أي بما سواه، وهذا شيء مشاهد.
قوله: مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ منصوباً على الحال.يعني هذه جمل حالية وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ [سورة البقرة:91] هذه جملة حالية، فعل وفاعل يكفرون ثم بِمَا وَرَاءهُ جار ومجرور، فهذه جملة حالية، ثم الجملة التي بعدها أيضاً هي جملة حالية، أي والحال أنه مصدق لما معهم.
ووجه الرد عليهم في ذلك، والإلزام؛ أن هؤلاء اليهود يكفرون بغير الكتاب الذي أنزل عليهم، وبغير الرسول الذي أرسل إليهم، مع أن ذلك حق ثابت، وهو الحق، وهو مصدق لما معهم، فكفرهم بهذا الحق المصدق لما معهم يرجع أثره إلى إبطال إيمانهم الأول؛ لأنهم كفروا بالحق الذي صدق الحق الذي كان معهم، فكفرهم به وهو حق ثابت يصدق ما معهم من الكتاب هو كفر بكتابهم الأول، هذا وجه الاحتجاج والإلزام لهؤلاء اليهود، وهو لون من ألوان الإلزام المعروفة عند أهل الجدل.
أي في حال تصديقهم بما معهم من التوراة، والإنجيل؛ فالحجة قائمة عليهم بذلك كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [سورة البقرة:146].
ثم قال تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:91] أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم فلِمَ قتلتم الأنبياء الذين جاؤوا بتصديق التوراة التي بأيديكم، والحكم بها، وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم.
وهذا وجه آخر من الإلزام، فالأول عرفناه، والثاني وهو أنكم إذا كنتم تدعون أنكم على الحق، وأنكم تؤمنون بما أنزل عليكم؛ فلِمَ تقتلون الأنبياء الذين هم من بني إسرائيل؟ ولكنكم أصحاب أهواء إنما قيامكم بالتشهي، بالتشهي فحسب، فهم يقتلون من لا يوافق أهواءهم من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ويكذبونهم، ويردون ما جاؤوا به، فليست القضية تقتصر على بني إسرائيل أن يكذبونهم، ولكن حتى أنبياء بني إسرائيل لو صدقتم لما قتلتم أنبياءكم، فاحتج عليهم بوجهين، وألزمهم بأمرين: الأول يعود على بطلان الإيمان الأول، أنتم تقولون: بأنكم على حق، وهذا حق مصدق لما معكم كفرتم به، فإن ذلك الكفر به وهو حق يرجع إلى إيمانكم الأول بالبطلان، والثاني أنكم تدعون أنكم على الإيمان، والحال أنكم تكفرون بما سوى ما جاءكم من الرسل، أو ما جاءكم من الأنبياء والكتب مع أنكم تقتلون أنبياء الله الذين كانوا فيكم يا بني إسرائيل، فهل هذا الإيمان صحيح كما تدعون؟ وأنكم أتباع حق؟ فلمَ قتلتموهم وهم منكم إن كنتم صادقين؟
النتيجة من هذا كله أنكم تتبعون الهوى، وما تشتهيه الأنفس وتمليه، وأنكم على باطل.
قتلتموهم بغياً، وعناداً، واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء، والآراء، والتشهي كما قال تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87].قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ كلما تدل على التكرار.
أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كعيسى - عليه الصلاة والسلام -، ومحمد ﷺ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ كما فعلوا مع يحيى - عليه الصلاة والسلام -، وزكريا وغير هؤلاء الأنبياء كثير، حتى أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً، فهم قتلة الأنبياء.
وقال السدي في هذه الآية: يعيرهم الله - تبارك وتعالى -: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:91].

مرات الإستماع: 0

"بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن. بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا التوراة. بِما وَراءَهُ أي بما بعده وهو القرآن."

يكفرون بما وراءه، وهو القرآن، كلمة وراء أيضًا هي من الأضداد، تأتي بمعنى أمام، وتأتي بمعنى خلف وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ (الكهف: 79) يحتمل كما هو معروف أن يكون المقصود أمامهم، أو خلفهم، فهما قولان للسلف، وإن كان الراجح كما ذكرنا هناك أن المعنى وكان أمامهم ملك، وكما تدل عليه القراءة غير المتواترة، أقصد في آية الكهف، هنا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وهو القرآن: يعني بما بعده، أو يمكن أن يقال: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ أي بما سواه، كما يقول ابن جرير، لكن من قال: بعده. يكون ذلك تفسيرًا له أيضًا يعني لا ينافيه؛ لأنهم كفروا بالإنجيل، والقرآن، فالذي كفروا به هو ما بعد التوراة.

"فَلِمَ تَقْتُلُونَ ردًّا عليهم فيما ادّعوا من الإيمان بالتوراة، وتكذيب لهم، وذكر الماضي بلفظ المستقبل إشارة إلى ثبوته، فكأنه دائم لما رضي هؤلاء به."

يعني لماذا عبر بالمضارع، ولم يعبر بالماضي؟ لما لم يقل: فلم قتلتم أنبياء الله. قال: فَلِمَ تَقْتُلُونَ فخاطبهم بهم مع أن القتل أمر قد مضى من أسلافهم؟ فيمكن أن يكون ذلك لتصوير الماضي بصورة حية كأنك تشاهدها، فيكون ذلك أبلغ في الذم، والشناعة عليهم، ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن هذا أمر مستمر، فهذا الفعل منهم جار، وقد حاولوا قتل النبي ﷺ تارة بإلقاء حجر، أو رحى عليه، وتارة بوضع السُّم له في يوم خيبر، فهذا العمل مستمر فعُبر بالمضارع فَلِمَ تَقْتُلُونَ فالمخاطبون في زمن النبي ﷺ هذا الفعل حاصل منهم، وواقع فعبر بالمضارع.

"إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرطية بمعنى القدح في إيمانهم، وجوابها يدل عليه ما قبل، أو نافية فيوقف قبلها، والأول أظهر."

يعني إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرطية بمعنى القدح في إيمانهم وجوابها يدل عليه ما قبل: إن كنتم مؤمنين فلم قتلتموهم. أو نافية فيوقف قبلها: قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل. ونقف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فتكون نافية نفي الإيمان عنهم، يعني ليس بشرطية. 

مرات الإستماع: 0

قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:91].

إذا وجه إلى هؤلاء اليهود هذا الخطاب بالإيمان، قال لهم رسول الله ﷺ أو قال لهم أصحابه : آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ أقروا وأذعنوا وانقادوا قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا يعني: على أنبياء بني إسرائيل وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَه يعني: بما أنزل على غيرهم، كالقرآن، مع كونه الحق المصدق لما معهم، وكما ذكرنا من قبل بأنه يشهد لهذه الكتب أنها منزلة من عند الله -تبارك وتعالى- كما أنه أيضًا مصدقٌ لما معهم، وذلك أنه قد جاء الخبر في كتبهم عن هذا الرسول ﷺ فهو مطابق لما في كتبهم، وكذلك أيضًا هو مصدق لما معهم مما تتفق عليه الشرائع، ومع ذلك يكفرون به.

ثم إن الله -تبارك وتعالى- ردّ على هؤلاء الكذبة الذين زعموا أنهم يقصرون الإيمان على رسلهم وأنبيائهم خاصة فقال: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كنتم تزعمون أنكم تؤمنون بما أنزل على أنبيائكم فلم تقتلونهم، وهم قتلة الأنبياء، وقد مضى أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًا، فلو كانوا حقًّا يؤمنون بما أنزل عليهم لما قتلوا أنبياءهم، فهم كذبة أيضًا في هذه الدعوى، فهم يكفرون بما جاءهم وبما نزل على محمد ﷺ.

فيُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا هذا ذكره الله في سياق الذم، والواجب أن يقبل المرء الحق ممن جاء به، وليس له أن يتخير، ويكون له انتقاء، وإنما الواجب عليه الانقياد والتسليم، هذا في اتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فهؤلاء كانوا ينتقون ويتخيرون، فكفروا بمحمد ﷺ بدعوى أنه ليس من أنبيائهم، فيقولون: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا.

وكذلك أيضًا عادوا رسول الله ﷺ وكفروا بما جاء به، بحجة أن صاحبه الذي يأتي بالوحي هو جبريل فلما سألوا النبي ﷺ عمن يأتيه بالوحي؟ وكأنهم لا يعلمون، فجبريل هو الموكل بالوحي والرسالات، فهو الذي كان يأتي إلى الأنبياء قبل النبي ﷺ بوحي الله  ولكن هؤلاء الكفرة لا يريدون الإيمان، فيتعللون بمثل هذه العلل، فتارة بمعاداة الرسول الملائكي، وتارة بمعاداة الرسول البشري.

وهكذا في تفاصيل الحق وجزئياته وأبعاضه، فليس لأحد أن يتخير فيرد بعض الحق؛ لأن الذي جاء به لا يحبه، أو يرى أنه دونه، أو نحو ذلك، فهذا من اتباع الهوى، فيقع كثيرًا في هذه الأمة، في علمائها وفي عامتها، ولربما وقع لعبادها ولدعاتها، فيُرد بعض الحق لأن هذا الذي جاء به غير محبوب لدى هذا السامع، فيرد ما جاء به، وربما رد الحق باعتبار أن الذين عُرفوا بهذا العمل من الحق، ممن يكرههم ويبغضهم، فيرد ذلك، ولربما نسب ذلك إلى الباطل، فإذا كان يكره طائفة فإنه قد يرد الحق الذي عُرفوا به، فقد يتمسكون ببعض الحق، ويشتهرون بهذا، فهذا الذي يشنأهم ويبغضهم قد يرد هذا الحق الذي عرفوا به؛ لأنه سمة لهؤلاء الناس، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، وهو من أسباب التفرق والشقاق بين طوائف هذه الأمة، فطائفة تأخذ ببعض الدين، وطائفة تأخذ ببعض الدين، وقد تنتسب إليه، وتتسمى بذلك، فيكون مما عرفوا به، واشتهروا به، وقد ينسبون إليه من قبل غيرهم، والواجب هو أخذ الدين بكماله وشموله، كما جاء به الرسول ﷺ من غير تخير ولا انتقاء أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [سورة البقرة:85] فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.

وهكذا قد يتصور أن هذا الإقرار ربما في ضمنه الإقرار بفضل هذا الذي جاء بالحق، فيرُد الحق، ويكذب به حسدًا لهذا الذي جاء الحق على يديه، أو دعا إليه، أو نبّه على هذا الخطأ والانحراف.

سليمان لما جاءه الهدهد بخبر سبأ لم يرد هذا الخبر لحقارة من جاء به، وإنما تثبت، ثم بعد ذلك لما استيقن ذلك وعلمه وتحققه بنى عليه ما قد علمتم، ودخلت أمة في دين الله -تبارك وتعالى- فهذا هو اللائق، وكما قالوا: بأن الجوهرة لا يُرخصها حقارة من استخرجها من قعر البحر، وهو الغواص، فقد يستخرها من لا شأن له، ولكن تبقى لها قيمتها، فهي نفيسة، وتعلق في النحور، ولا يُرخصها حقارة مستخرجها، فهكذا الحق الواجب أن يُقبَل وأن يذعن الإنسان له، ولا يُرَد لأن الذي جاء به ربما يكون من العامة، أو يكون ممن لا نحبهم، أو نحو ذلك.

وقد بلغ الأمر ببعضهم -كما ذكرت في بعض المناسبات- أنه حينما أُنكر عليه بعض أنواع الشكر، وعبادة القبور، وما أشبه ذلك، وسيقت له الآيات في هذا الباب، فكان جوابه أن قال لهذا الذي يخاطبه ويُذكره وينصحه، ويدعوه إلى التوحيد: يا ابني هذه آية وهابية، ما معنى هذا الكلام؟ هو اشتهر عند هؤلاء الذي يبغضهم ممن يلقبهم بهذه الألقاب، وأهل السنة لا ينتسبون للقب غير الإسلام والسنة، ولا يرضون بهذه الألقاب، وأن يلقب بالوهابي، أو بغير ذلك، وإنما ينتسب إلى الإسلام والسنة وكفى، فهذا الرجل رد عليه بهذا الرد: يا ابني هذه آية وهابية، هذه قالها أحد أهل العلم قبل نحو أربعين سنة في مناظرة حصلت مع بعض شيوخ الصوفية، فكان هذا هو الجواب؛ لماذا؟ لأنه اشتهر الاستدلال بها عند هؤلاء الذين يرميهم بهذه الألقاب.

فعلى كل حال من وقع بشيء من ذلك ففيه شبه من اليهود، يردون الحق لكراهيتهم من جاء به، واللائق أن نقبل الحق ممن جاء به، والنبي ﷺ قال في حق الشيطان، كما في حديث أبي هريرة  لما كان يأخذ من تمر الصدقة، ثم بعد ذلك علَّمه ما يقول إذا أوى إلى فراشه: صدقك وهو كذوب[1] فمجيء الشيطان بهذا وهو الشيطان لم يكن ذلك سببًا لرد هذا الحق الذي جاء به، فهذا على كل حال هو اللائق بأهل الإيمان.

وفي قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا [سورة البقرة:91] أُسند إلى هذا الاسم الكريم في قوله: بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ حيث ذكر اسم الجلالة ظاهرًا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فكان جوابهم أن أسقطوا لفظ الجلالة قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا فلم يقولوا: نؤمن بما أنزل الله علينا، فهبطوا بذلك، وأسقطوا اسم من يتشرف بذكره، وهو الله -تبارك وتعالى- ويتبرك بهذا الاسم الكريم، وخصوا بعض ما أنزله بالإيمان.

وكذلك حينما قال الله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ كما ذكرنا في موضع سابق عُبِّر بالفعل المضارع تَقْتُلُونَ لأن ذلك يدل على الاستمرار، فهم مستمرون على هذا الفعل القبيح، وقد وضعوا السم لرسول الله ﷺ فأخبر - عليه الصلاة والسلام - في مرضه الذي قُبض ﷺ بأنه ما زال يجد تلك الأكلة التي أكلها في خيبر، فقال: فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم[2] فكان ذلك شهادة له - عليه الصلاة والسلام - فهذا يدل على أنه مستمر، وأن ذلك من شأنهم.

كذلك أولئك الذين في زمن النبي ﷺ لما كانوا على ما كان عليه أسلافهم صح أن يوجه ذلك إليهم بالخطاب فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وكما ذكرنا أن الخطاب في القرآن كثيرًا ما يخاطب به أولئك الذين عاصروا النبي ﷺ في أمور وقعت لأسلافهم، فأما في باب النعم فإن ذلك كما قلنا: بأن النعمة الحاصلة للآباء والأسلاف لاحقة للأبناء والذرية، فيمتن عليهم بها، وكذلك أيضًا في المذام والمثالب والمعايب فإنها تلحق الأبناء إن كانوا على طريقتهم، وهذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فمثل هذا يدل على كذبهم في مثل هذه الدعوى، وفيه إفحام لهم بإقامة الحجة عليهم من فعلهم نفسه، وهذه طريقة من طرق الرد والجدال والمناظرة: أن يُرد على المخالف إما بقوله، وإما بنفس فعله، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يذكر أنه لا يأتي الخصم بحجة، إلا قلبها عليه، وهذا له نظائر كثير في القرآن، وفي السنة، وفي المناظرات التي جرت بين أهل العلم مع المخالفين، فيحتجون عليهم ويقلبون عليهم الدليل.

ويُؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ أن هذا الاستفهام يدل على التبكيت والتوبيخ، وفي إضافة الأنبياء فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ ولم يقل: فلم تقتلون أنبياءكم، أو فلم تقتلون الأنبياء، وإنما أضافهم إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا فيه تعظيم وتشنيع لهذا الفعل، فإن هؤلاء الأنبياء الذين جاءوا من عند الله كان حقهم الإكرام والتعظيم، وكان الواجب القبول لما جاءوا به من عند الله -تبارك وتعالى- والنصر والتعزير لهم، لا أن يقابل هؤلاء الرسل والأنبياء الكرام -عليهم الصلاة والسلام- بالقتل، والله المستعان.

كما يدلُّ قوله: قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا على أنهم يستشعرون المزية على الخلق، وأنهم يختصون بأمور لا تكون لغيرهم، فلا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم، فهذا يدل على شيء من التكبر والتعاظم والشعور بالخصوصية، وهذا قد يحصل لبعض هذه الأمة، فالناس قد لا يقبلون الحق إلا لمن كان من طائفته أو أهل مذهبه، فلا يقبل من غيرهم، ولا يسمع منه، وللأسف صارت بنا الحال، وآلت بنا الأمور، إلى أن المنتسبين إلى السنة يقع بينهم من التنازع والشر والاختلاف ما لا يقادر قدره، ويقعون في التحزب المذموم المحرم؛ وذلك أن يكون الإنسان لا يقبل إلا ممن كان من طائفته، أو لا يقبل إلا من شيخه، وما عدا ذلك فهو مردود.

فإذا كان الإنسان بهذه المثابة فيكون ذلك كما قال الله فيمن ذمهم، واتخذوا وجعلوا دينهم بينهم زبرًا، فكما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله: بأنه يدخل في ذلك من جعلوا لهم كتبًا، أو نحو ذلك يتلقون عنها، ولا يقبلون من غيرها، يعني لا يقبلون إلا من هذه الكتب المصنفة في مذهبهم، ولا يقبلون الحق إلا ممن جاء به من طائفتهم، وما عداه فهذا كلام الخصوم، قال الخصم، وللأسف تجد مثل هذه العبارات تقال بعفوية في الخلاف الفقهي، يقال: الخصم، وهو ليس بخصم، يقال: قال المخالف، أو نحو ذلك، أما الخصم فهي تبعث رسالة في النفوس تورث وحشة من العلماء الذين ربما كانوا على مذهب آخر وهم مجتهدون وعلماء، والخلاف الذي بينهم ليس من قبيل الاختلاف المذموم، فيتحول هذا الخلاف عند المتعصبة إلى لون من التفرق، ويصل الحال إلى التنافر، ويوجه السؤال المرير في حكم تزوج الحنفي مثلاً من الشافعية، وهل يجوز أن يتزوجها أو لا؟ إلى هذا الحد، فهذا لا يجوز.

وكذلك أيضًا الاجتهادات السائغة في الأمور الأخرى، كالاجتهادات في الأمور الدعوية، والاجتهادات في الأمور الواقعة من النوازل التي تقع في الأمة، ونحو ذلك مما تختلف فيه أنظارهم ومواقفهم، فالناس ما زالوا يختلفون، لكن لا يصح أن يكون ذلك الاختلاف سببًا للشقاق والتفرق والجفاء والتدابر، وأن يتحول هذا الاختلاف إلى اتهام في الدين، أو الاعتقاد، أو نحو ذلك، وهو اختلاف في أمور اجتهادية في قضايا لا تبلغ هذا، وإنما هي وجهات نظر كما يقال، هذا غاية ما هنالك، فهذا كله لا يجوز.

ولكن من نشأ في بيئة كهذه، فأنى له الإنصاف، والموفق من وفقه الله  ومن أراد أن يُنصف من نفسه، وأن يُنصف من غيره، فليخرج من أقماع السماسم، ومن هذا الضيق، وينظر من أعلى، كأنه في وقت أصحاب رسول الله ﷺ وسلف الأمة، ثم بعد ذلك يدرك أن مثل هذا التفرق والاختلاف الذي وجد بعدهم ليس من الدين، وأنه ينبغي ألا يكون جزءًا من هذا التفرق، فيتعامل مع أهل الإيمان بحسب ما عندهم من الاتباع، ولزوم السنة ظاهرًا وباطنًا، دون اعتبارات أخرى، بحسب اتباعهم للكتاب والسنة، ولزومهم لذلك الصراط المستقيم ظاهرًا وباطنًا، فهذا الذي يقرب الناس، وهذا الذي يبعدهم، لكن حينما يهبط الإنسان وينظر من دوائر ضيقة، فإنه ربما يبغض من هم أفضل منه، وأتقى لله، وأتبع للسنة، ويجفوهم، ولا يقبل منهم، والسبب أنه اختلف معهم في مسائل اجتهادية، والله المستعان.

وقال: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ فظهرت عليهم الحجة هنا -كما يقول ابن القيم رحمه الله- من وجهين:

الوجه الأول: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ [سورة البقرة:91] فهذا يقتضي كفرهم بما معهم، والأمر الثاني: هو فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ فهؤلاء منكم، وأنزل عليهم الوحي، ومع ذلك تقابلونهم بالقتل، وليس فقط الكفران[3] وكما ذكرنا في مناسبة سابقة أن هذا القتل ما وقع إلا بعد الكفر، كما قال الله: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [سورة البقرة:87] فالذين قتلوا إنما قتلوا بعد التكذيب، فوقع لهم التكذيب والقتل.

وقوله: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ فهذا التصديق فيه باعتبار أنه جاء وصف النبي ﷺ ووصف الأمة، ونحو ذلك، فجاء كما وصف، وكفروا به، فهذا كفر بما جاء في كتابهم.

ومن جهة أخرى: أنه مصدق بأن هذه الكتب من عند الله، يعني في أصلها، وأن هؤلاء الرسل الكرام الذي جاءوا لبني إسرائيل موسى وعيسى -عليهما السلام- وغير هؤلاء من أنبياء بني إسرائيل: أنهم رسل من عند الله، وكذلك أيضًا ما جاء في أصول الشرائع، مما تتفق به الشرائع، وأصول الإيمان، فهذا مصدق لما معهم.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الوكالة، باب إذا وكل رجلاً، فترك الوكيل شيئًا فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز برقم: (2311). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته برقم: (4428).
  3.  بدائع الفوائد - نزار الباز (4/ 957).