الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُوا۟ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُوا۟ ۖ قَالُوا۟ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا۟ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:93].
يعدد - - عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم، وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم، حتى قبلوه، ثم خالفوه، ولهذا قالوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وقد تقدم تفسير ذلك.
هذا سبق الكلام عليه في صدر الآية، ولذلك لم يعده ثانياً.
قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ أي اذكروا إذ أخذنا عهدكم الموثق وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي ورفعنا فوقكم الجبل، وسبق الكلام على هذا وبيان المراد به.
خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم أي ما أعطيناكم من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بحزم، وجد، واجتهاد من غير توان وتفريط، وَاسْمَعُواْ أي اسمعوا سماع استجابة لا سماع بالأذن مجرد عن القبول، قَالُواْ سَمِعْنَا يعني بآذاننا، وَعَصَيْنَا أي بقلوبنا، وحالنا، وفعلنا.
وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال عبد الرزاق عن معمل عن قتادة: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال: أشربوا حبَّه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذلك قال أبو العالية والربيع ابن أنس.هذا أحسن ما يفسر به قوله تعالى: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ وإلا فبعضهم يفسر ذلك بقول هو في غاية البعد وهو أن يفسر الشرب بظاهره المجرد، حيث قالوا: إن موسى ﷺ رجع فوجدهم يعبدون العجل، قال للسامري: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [سورة طه:97]، فالعلماء هناك يتكلمون على قوله لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا قالوا: كيف ينسف وهو كتله من الذهب - مع أن في ظني لا إشكال في أن ينسف في اليم نسفاً، وذلك بأن حرقه فذهبت معالمه، فألقاه في اليم - لكن بعضهم هناك يقولون: إنه سحله بالمبارد حتى صار مما يمكن أن يذر، ثم نسفه في اليم نسفاً، فيقولون: ثم إنهم شربوا ماءه ذلك الذي سحل فيه في النيل وهذا معنى وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ فأثر ذلك في قلوبهم، ونفوسهم، وهذا بعيد.
إنما الصحيح في معنى قوله: وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ هو كما قال النبي ﷺ: فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء[1].
فكون القلب يشرب هذه الضلالة، أو البدعة، أو الانحراف، فمعنى ذلك أنه يتخلله فيؤثر فيه تأثيراً بليغاً لا يكاد يخرج منه، أو ينفك صاحبه عنه.
وهذا مثل كلام السلف كما في الآثار في كتب المتقدمين كاللالكائي والآجري وابن بطه والدارمي في مقدمته على السنن وفي رده على بشر المريسي وأمثال هذه الكتب يذكرون فيها بعض الآثار يقول مثلاً: "إذا رأيت الشاب يصاحب صاحب سنة فارجه، وإذا رأيته يخالط صاحب هوى فارفع يدك منه"، يعني لا ترجه؛ لأن هذا الإنسان ما دام في مقتبل العمر يصاحب، ويخالط أصحاب الهوى؛ فإنه يشرب ذلك في قلبه، فلا تستطيع إصلاح حاله غالباً بعد ذلك؛ لأنه شب على ذلك، ونشأ عليه، فرفع ذلك من قلبه غاية الصعوبة، ولذلك يقولون: فاغسل يدك منه، وهذا أمر أغلبي، وليس مطلقاً، فالهداية بيد الله تعالى.
وعلى كل حال فإن معنى وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي حب العجل، وذلك أن الله ابتلاهم بهذا الإشراك والذنب العظيم الذي وقعوا فيه حتى تغلل في شغاف قلوبهم، فصار ذلك لا ينفك عنهم، فصارت ضلالاتهم تلك لعنة تلاحقهم، ومن آثارها أنهم يعبدون المال، والذهب، ويقدمون ذلك على كل ما أمرهم الله به، وعلى كل ما يمكن أن تستحسنه العقول السليمة، والفطر المستقيمة، فهم يفعلون كل رذيلة من أجل عبادة هذا المال، فمن بقايا عبادتهم العجل أنهم يعبدون الذهب كما هو مشاهد، والله المستعان.
قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [سورة البقرة:93] أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله، ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد ﷺ، وهذا أكبر ذنوبكم، وأشد الأمر عليكم؛ إذ كفرتم بخاتم الرسل، وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات الله، وعبادتكم العجل من دون الله.
  1. أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان - باب: بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريبا وإنه يأرز بين المسجدين (144) (ج 1 / ص 128).

مرات الإستماع: 0

"سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي: سمعنا قولك، وعصينا أمرك، ويحتمل أن يكونوا قالوه بلسان المقال، أو بلسان الحال."

والأصل أن ذلك على ظاهره أنهم قالوه بلسان المقال.

"وَأُشْرِبُوا عبارة عن تمكن حب العجل في قلوبهم، فهو مجاز، تشبيهًا بشرب الماء، أو بشرب الصبغ في الثوب، وفي الكلام محذوف، أي: أشربوا حب العجل، وقيل: إن موسى برد العجل بالمبرد، ورمى برادته في الماء، فشربوه. فالشرب على هذا حقيقة، ويردّ هذا قوله: فِي قُلُوبِهِمُ."

يعني أُشربت قلوبهم العجل، حب المقصود هنا حب العجل يعني أنهم عبدوه عبادة أشربتها قلوبهم - نسأل الله العافية - كما يقول أهل العلم: إذا كان عبادة عجل تُشربها القلوب إلى هذا الحد فعبادة الله، ومحبته أولى بذلك: كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -. إذا كان عجل صنعوه بأيديهم أُشربته قلوبهم، أشربت محبة هذا العجل فالله - تبارك وتعالى - أعظم وأولى، وأجل، فينبغي أن تكون محبته أعظم من ذلك حيث تُشربها القلوب، يعني محبة تمازج القلوب، وتداخلها.

"بِكُفْرِهِمْ الباء سببية للتعليل، أو بمعنى المصاحبة."

 

يعني: ما الذي أوقعهم في هذا؟ هو كفرهم فتكون الباء سببية، أو بمعنى المصاحبة: أشربوا في قلوبهم العجل مستصحبين كفرهم.

"يَأْمُرُكُمْ إسناد الأمر إلى إيمانهم، فهو مجاز على وجه التهكم، فهو كقوله: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: 87] وكذلك إضافة الإيمان إليهم."

فالإيمان لا يأمر بهذا بحال من الأحوال، لكن هذا كما قال: بأن ذلك على سبيل التهكم. بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كقوله: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ يعني هذا قاله قومه على سبيل الاستهزاء، كذلك إضافة الإيمان إليهم: يعني هم ليسوا بمؤمنين حقيقة لكن ذلك من باب التهكم.

"إِنْ كُنْتُمْ شرط، أو نفي."

كما سبق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فكيف تفعلون ذلك؟! أو كيف يقع منكم ذلك؟! أو كيف تعبدون العجل، وتُشربه قلوبكم؟! فهذا ينافي الإيمان، أو نفي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني ما كنتم مؤمنين ينفي عنهم الإيمان كالذي قبله، لكن الظاهر أنها شرطية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وهذه كلمة تقال للتحضيض، وترد كثيرًا في القرآن قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1] وفي مثل هذه المقامات يُقصد تبكيتهم هنا، والذم - والله أعلم -. 

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما خاطب به بني إسرائيل في هذه السورة الكريمة: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:93].

يخاطبهم يقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ واذكروا حين أخذنا عهدكم المؤكد؛ فإن الميثاق هو العهد المؤكد، أخذ عليهم العهد بقبول ما جاءهم به نبيهم أعني موسى فنقضوا هذا العهد.

والله -تبارك وتعالى- حينما أخذ عليهم ذلك رفع فوقهم جبل الطول، وقال لهم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ يعني: بجد، وعزم من غير توانٍ، ولا تراخٍ ولا تخير، واسمعوا سماع قبول وانقياد، وأطيعوا وإلا وقع عليكم هذا الجبل، فقالوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا سمعنا قولك، وعصينا أمرك؛ وذلك أن عبادة العجل قد امتزجت في نفوسهم وخالطتها إلى حد الإشراب، بسبب تماديهم بالكفر بالله -تبارك وتعالى.

فقل لهم: بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ قبح ما يأمركم به إيمانكم من الكفر والعتو على الله، والتمرد عليه إن كنتم مصدقين مؤمنين منقادين بما أنزل الله عليكم.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة قوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ لاحظ هنا وقبله وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ [سورة البقرة:63] وهنا: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا فكرر ذكر الطور في أخذ الميثاق عليهم؛ وذلك أنه تعلق بهم في هذا الموضع الثاني من هذه السورة الكريمة زيادة، وهي هذا الجواب القبيح منهم: قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا يعني: مع رفع الطور، جبل ضخم كبير فوق رؤوسهم، ومع ذلك كان هذا الجواب، هذا بالإضافة إلى التوكيد، فأعاده ثانية؛ فإن هذه الإعادة تفيد، وفيه إقامة الحجة على هؤلاء، وتذكيرهم بنعم الله ونقمه؛ لينزجر الأخلاف بما جرى ووقع للأسلاف.

ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ الطور هو الجبل، وقيل: الجبل الذي فيه شجر، و(ال) هذه يمكن أن تكون عهدية، وهو جبل الطور المعروف المسمى بهذا الاسم.

خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا سماع قبول، ولكن للأسف من الناس من يكفيه أدنى تذكير، وأدنى تنبيه، ومن الناس من يحتاج إلى شيء من الزجر أو الوعظ، أو التخويف، ومن الناس من لا يفلح معه رفع الجبل فوق رأسه خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ليس بعد هذا شيء، جبل هائل فوق رؤوسهم ومع ذلك يعلنون تمردهم على الله -تبارك وتعالى.

أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ لزوم الأخذ، أخذ الشرع، والكتاب المنزل والوحي بقوة، يعني بجد، وهذا بخلاف حال من يتخير وينتقي ما يوافق هواه، أو يتباطأ في الاستجابة، ويؤخر الامتثال خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ بعزم وجد وإقبال، أخذًا للدين بشموله وكماله كما أنزله الله -تبارك وتعالى- هؤلاء اليهود وقع منهم التخير، فالله -تبارك وتعالى- قال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [سورة البقرة:85] ووقع منهم التباطؤ، والتأخر، والتراجع، انظروا حينما أمروا بذبح البقرة ماذا فعلوا، وكذلك حينما قال: ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ [سورة البقرة:58] ماذا حصل من هؤلاء؟ وحينما كان ينزل عليهم المن والسلوى، ماذا كان شكرهم ومردودهم؟

وفي مدينة الجبارين لما أمروا بدخولها كان منهم الامتناع والعصيان إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ۝ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:22- 24].

تصور لو أن قائدًا ليس بنبي يأمر من تحت يده من الجنود بالتقدم، فيقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ عصيان ماذا عسى أن يفعل؟ وهذا موسى نبي، وقوي، وفي غاية الحزم، وكليم الرحمن، ومع ذلك فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ فكان الجزاء: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة:26] على الوقف في هذا الموضع قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ على الوصل.

فأخذ الكتاب بقوة يعني المبادرة، يعني أخذ الكتاب بشموله، يعني: الجد في التنفيذ والتطبيق، وهذا لا يختص ببني إسرائيل، والله -تبارك وتعالى- قال: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي  وَالأَبْصَارِ [سورة ص:45] فسر هنا قوله: أُوْلِي الأَيْدِي بأن الأيدي هنا بمعنى القوة، القوة في العمل بطاعة الله والامتثال والاستجابة لشرعه، والنهوض بأعباء الدعوة والجهاد لأعداء الملة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك، هذا كله داخل فيه أُوْلِي الأَيْدِي القوة في العبادة، والطاعة والتقرب إلى الله وَالأَبْصَارِ قوة لكن على بصيرة، وليست على عمى، فالجلد في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في الدعوة إلى الله، أو في العبادة المحضة إذا كان على غير بصيرة؛ فإنه يورث عللاً مستديمة، ويوقع صاحبه في عواقب غير محمودة، فهؤلاء جمعوا بين القوة العملية، والقوة العلمية، وهذا هو الكمال الحقيقي، وقد مضى الكلام على هذا في مجلس مستقل.

فالشاهد أن الأخذ بالقوة هذا هو المطلوب من بني إسرائيل، ومن غير بني إسرائيل، وذلك في شرع الله -تبارك وتعالى- مطلقًا، فالمفتي لا يجوز له أن يتجارى مع أهواء الناس، ويرخص لهم بحسب ما يهوون ويرغبون؛ بحجة التيسير، إنما ينضبط في الفتيا، ولا يصح أن يكون موافقًا ومتابعًا لما يرغبه الناس، ويهوونه أعني الجمهور، فيكون تبعًا لهم.

وكذلك أيضًا المستفتي لا يجوز له أن يسأل، ويتخير في السؤال، فيوجه سؤاله إلى من يعلم أنه يجيب بحسب هواه؛ فإن ذمته لا تبرأ بهذا، والحق عند الله واحد، وإنما يجب عليه أن يسأل من يثق بعلمه ودينه، فيسأل غير متتبع لرخص الفقهاء، ولا متجارٍ مع الأهواء، وإذا وجد فتوى عالم وفتوى آخر اختلفت فليس له أن يتخير، أو وجد الخلاف، ليس له أن يحتج بالخلاف فيأخذ ما شاء، فإن الخلاف لا يسوِّغ التخيُّر بحال من الأحوال، عليه أن يتحرى، وينظر من هو الأرجح في نظره من هؤلاء العلماء من جهة العلم، ومن جهة الورع والدين فيأخذ بقوله، فإذا استويا، فكما قال الشاطبي: يؤخذ المخالف لهواه[1] عكس ما يقوله الناس اليوم، أو كثير منهم، يحتجون بالخلاف فيأخذون ما تهوى الأنفس، فيكون الإنسان بذلك غير متبعٍ لشرع الله، وإنما يكون متبعًا لهواه، فلا تبرأ ذمته بذلك.

خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:93] التباطؤ والتأخير، وقد أظلنا موسم الحج من لم يحج وهو قادر على الحج فلا يجوز له التأخير، يقول: بعد سنة، وبعد سنة، وبعد سنة، وبعد سنة، ويمضي العمر ولا يدري الإنسان ما يعرض له، والصحيح أن الحج واجب على الفور، إذا كان الإنسان قادرًا مستطيعًا، فيجب عليه أن يحج فورًا، يحج بأولاده وبناته، ولا ينتظر ويتأخر، هذا داخل في قوله: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:93] المبادرة إلى الامتثال.

إذا أذن المؤذن دع ما في يدك، إذا كنت تسير في مركبتك وسمعت الأذان لا تقل: المسجد أمام، المسجد الذي بعده، المسجد الذي بعده حتى تسمع: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فيُسقط بيدك وتخسر، لا خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:93] الحزم تتوقف وتصلي بمجرد ما تسمع الأذان.

وهكذا في كل شأن من شؤوننا، فإذا جاء أمر الله -تبارك وتعالى- لا يقدم عليه شيء، التراخي وتمييع حقائق الدين، وما إلى ذلك مما يفعله البعض هذا كله خلاف هذه الآية، وهذا الأمر الوارد فيها، عرض الدين بطريقة تتفق مع المضيعين والمفرطين وأصحاب الشهوات، أو أصحاب البدع من أجل إرضائهم، فإن هذا خلاف خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [سورة البقرة:93] يعني: لا تأخذه بضعف.

وفي الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- أن يعمل الإنسان بجد واجتهاد.

وأيضًا يؤخذ من هذه الآية خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا في كتبهم، في توراتهم تجد مثل هذه العبارات، الأمر بالسماع متكررًا في خطاب موسى لهم، اسمعوا يا بني إسرائيل.

وعلى كل حال المقصود بالسماع هنا سماع القبول والانقياد، وإلا فالصوت يطرق الأسماع، إنما اسمعوا سماع استجابة وسماع قبول، ولهذا نقول: اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

وفي قوله -تبارك وتعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [سورة البقرة:93] هنا جاء التعبير بالفعل الذي لم يسمَّ فاعله، يعني المبني للمجهول وَأُشْرِبُوا ما قال: أشربهم الله مثلاً، أو نحو ذلك، فيه إشارة إلى أن حبهم للعجل بلغ مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه، كأن غيرهم أشربهم إياه وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ يعني: وصلت محبة العجل في قلوبهم تغلغلت كأن غيرهم قد غرسها وغرزها في نفوسهم، وعبأ هذه النفوس بها وَأُشْرِبُوا تقول: فلان أشرب حب كذا.

ثم أيضًا فيه إيجاز بالحذف كما يقول البلاغيون، يعني التقدير: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، وهنا حذف الحب أو حب عبادة العجل، فأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة في حبهم له أو لعبادتهم، كأن العجل بكامله كأن قلوبهم قد التهمته من شدة تعلقها به، أشربوا حب عبادة العجل.

ثم هذا فيه تشبيه، يعني: صورت هذه القلوب لتمكن حب العجل منها كأنها تشرب، وكأن الأفعال السيئة القبيحة التي صدرت عنهم بعد ذلك هي نتيجة لهذا الإشراب، كما أن الماء يكون مادة للحياة، فإذا شربه الحيوان أو النبات؛ فإنه ينمو ويحيا، فهو مادة حياة ما تنبته الأرض، وهكذا حب العجل صار مادة لما أنبتته قلوبهم وأفرز ذلك في أعمالهم وسلوكهم وتصرفاتهم، فجاءت معوجَّة، جاء منهم التمرد والعصيان، ونكث العهود، وقتل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - شربت هذه القلوب العجل فأنبت كل نبت وخيم، والشيء من أصله ومادته لا يستغرب، فهذه القلوب صارت منابت للشر يزكو فيها وينمو.

ولاحظ التعبير هنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: إذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه القلب حبًا يجعل ذلك شرابًا للقلب، فحب الرب -تبارك وتعالى- أن يكون شرابًا تُشربه قلوب أهل الإيمان أولى وأحرى[2].

حب عجل يصل إلى هذا المستوى تُشرب القلوب، فحب الله أولى بذلك، أن تُشرب قلوب أهل الإيمان محبة الله والتعلق به، فيكون ذلك على الألسن ذكرًا، وفي الجوارح تعبدًا وعملاً.

ثم أيضًا هذا الإشراب من الذي أشربهم بذلك؟ الخير والشر كله من الله، ولكن من باب الأدب في الألفاظ، فإن الشر لا يسند إلى الله -تبارك وتعالى- فجاء مبنيًا للمجهول وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ.

وفي قوله -تبارك وتعالى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:93] هذا يدل على أن الإيمان الصحيح يأمر صاحبه بالخير، والمعروف، والطاعة، والانكفاف عن المعصية إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف:201] بينما الفريق الآخر الذين فقدوا الإيمان وَإِخْوَانُهُمْ [سورة الأعراف:202] يعني: إخوان الشياطين، هنا الضمير يرجع إلى غير مذكور، لكنه مفهوم من السياق وَإِخْوَانُهُمْ ليس إخوان المؤمنين، وإنما يعني: إخوان الشياطين.

يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [سورة الأعراف:202] يعني: الشياطين تمدهم في الغي ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [سورة الأعراف:202] ما يحصل منه رجوع وتوبة، ما يرعوي، فتجده ينقضي العمر إلى آخر لحظة، وهو ينازع الموت وتتعجب ما يتوب، إلى آخر لحظة، وهو محتفظ بضلاله وانحرافه، لا يرعوي، ولا يرجع عنه، ولا يتوب إلى الله مهما بلغ به الحال والشدة، يعلم أنه مفارق، وأنه مُرتحِل، ومع ذلك هؤلاء تمدهم الشياطين في الغي، أما أهل الإيمان إذا وقع منه شيء خاف وتذكر، تذكر الله وعظمته، ونظره إليه، وجزاءه، فرجع مباشرة، واستغفر وتاب.

ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ هنا جاءت إضافة الأمر يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ أضافه إلى الإيمان، يقول: هذا من باب التهكم؛ إذ الإيمان الحقيقي لا يأمر إلا بخير، لكن هؤلاء ليس عندهم الإيمان الحقيقي، ما هذا الإيمان الذي يأمرهم بسمعنا وعصينا، والتعلق بعجل، فهذا لا يكون من أهل الإيمان، وليسوا بمؤمنين حقيقة، وإنما هذا الإيمان هو الإيمان الفاسد، والله المستعان.

  1.  الموافقات (2/ 289). 
  2.  جامع المسائل لابن تيمية ط عالم الفوائد - المجموعة الأولى (ص: 132).