الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلْءَاخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُا۟ ٱلْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ۝ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة البقرة:94-96].
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا-  يقول الله تعالى عن نبيه محمد ﷺ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله ﷺ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ أي بعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات، وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: "فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ فسلوا الموت".
وروى عبد الرزاق عن عكرمة قوله: "فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قال: قال ابن عباس - ا -: "لو تمنى يهود الموت لماتوا".
وروى بن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - ا - قال: "لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه"، وهذه أسانيد صحيحه إلى ابن عباس - ا -.
وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي ﷺ قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون أهلاً، ولا مالاً[1].
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ۝ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجمعة:6-8] فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] دُعوا إلى المباهلة، والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بم هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم، وهذا كما دعا رسول الله ﷺ وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوهم، وعنادهم إلى المباهلة فقال: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [سورة آل عمران:61] فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم، وبعث معهم أبا عبيده ابن الجراح أميناً، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [سورة مريم:75] أي: من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه، ومد له، واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
وقد فسرت الآية بتمني الموت دون التعرض للمباهلة، والأول أولى، وسميت هذه المباهلة تمنياً لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولاسيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه، وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة، لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت.
فقوله - تبارك وتعالى -: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ [سورة البقرة:94] هذا التمني ظاهره أن المراد به - والله أعلم - التشهي، وهو التمني المعروف، وهو أن يتشهى الإنسان المتمني حصول شيء يريده، ويطلبه، أو يريد وقوعه كما يتمنى الإنسان أن يكون له الولد، أو المال، أو يتمنى أن يحصل له أمر محبوب في الدنيا، أو في الآخرة، أو أن يحصل لغيره أمر محبوب، أو مكروه.
تمنى رجال أن أموت فإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فهذا التمني بمعنى التشهي، فقوله: فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ [سورة البقرة:94] يفسر بالتمني المعروف، أي أنهم يرغبون في حصوله لهم بما يعلمون ما لهم من المنزلة عند الله لأنهم يدعون أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وأن الجنة لن يدخلها إلا من كان يهودياً كما قال - تبارك وتعالى -: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] يعني اليهود يقولون: إلا من كان يهودياً، والنصارى يقولون: إلا من كان نصرانياً، فـ"أو" هذه للتنويع والتقسيم، فهو سبحانه يقول لهم: إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا الموت لما تفضون إليه بعده من الراحة، والنعيم، والزلفى من الله - تبارك وتعالى -، فأنتم تعلمون مئآلكم، ومصيركم، فما البقاء في هذه الحياة وهي دار النكد، والتعب، والشقاء، والكبد، ويشهد لهذا المعنى ما جاء في نفس الآية: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ [سورة البقرة:94] وكذلك في سورة الجمعة: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [سورة الجمعة:6]، ولهذا قال بعده: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [سورة الجمعة:7] فهذا ما قبله وما بعده يدل على أن تمني الموت هو التمني المعروف.
القول الآخر الذي رجحه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وهو اختيار الحافظ ابن القيم أيضاً أن المقصود بتمني الموت هنا الدعاء به على سبيل المباهلة، والمباهلة معروفة وهي الدعاء على المبطل من الفريقين بالهلاك أو الموت، أو نزول العقوبة التي تعجل به في الدنيا، كما دعا النبي ﷺ نصارى نجران إلى المباهلة.
فبعض أهل العلم يقولون: هذا من المباهلة بمعنى أن يدعى على الفريق المبطل بالموت والهلاك، ومعلوم أنهم لا يقدمون على ذلك لما يعلمون من مصيرهم البائس بعد الموت.
والذي يشهد لهذا القول عندهم هو أن اليهود قد يكون الواحد منهم فقيراً معدماً إلى حد أنه يتمنى الموت على ما يعانيه من الفقر، وقد يكون مريضاً فيشتد به المرض، فيتمنى الموت ليستريح من هذا المرض لفرط جزعه، فقالوا: هذا يوجد في الدنيا، إذاً هذا على سبيل المباهلة لأنهم لن يقدموا على هذه المباهلة لعلمهم بأنهم على الباطل، هذا هو توجيه هذا القول.
وعلى كل حال وجود أفراد من اليهود على مر العصور، والأزمان؛ بحيث يتمنى الواحد الموت عن الحياة لضر نزل به؛ هذا لا يخرم القاعدة العامة من تمسكهم بالحياة، ومحبتهم لها، ولهذا قال الله : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] والتنكير هنا يؤخذ منه معنى وهو أنهم يحرصون على حياة ولو كانت بائسة لا قيمة، ولا معنى لها، فهم يتمسكون بأهداب الحياة مهما كانت حقيرة حيث يأباها الحر الكريم، عزيز النفس، فالحياة عندهم هي كل شيء، ولو كانوا يفقدون معها كل معاني الإنسانية، ولهذا قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة البقرة:96] كما سيأتي في معناه، فهم أحرص من المشركين الذين لا يؤمنون أصلاً بالبعث والآخرة، فأهل الإشراك ليس لهم أصلاً إيمان بالحياة الأخروية، فهم بالتالي يتمسكون بهذه الحياة إلى آخر نفس، لا يرجون داراً بعدها، وحياة يؤولون فيها إلى النعيم، فهؤلاء أشد الناس حرصاً على الحياة، وأحرص منهم هؤلاء اليهود الذين علموا بالبعث، وعلموا بمصيرهم بعد البعث، فالمقصود أن الآية تحتمل هذين المعنيين، ولربما كان الظاهر المتبادر، والذي يشهد له؛ قرينتان في نفس الآية قبله وبعده، قبله هو قوله: إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ [سورة البقرة:94] وبعده هو قوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] كل ذلك من القرائن التي لربما يفهم منها أن المقصود به التمني بمعنى التشهي أي أطلبوا الموت لتستريحوا من عناء هذه الحياة، فيكون هنا تمني الموت بمعنى الرغبة في حصوله، وليس ذلك بالدعاء به على سبيل المباهلة، والله تعالى أعلم.
ولهذا قال تعالى: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ.
  1. أخرجه أبو يعلى في مسنده برقم (2604) (ج 4 / ص 471) وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.

مرات الإستماع: 0

"فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ بالقلب، واللسان، أو باللسان خاصة، وهذا أمر على وجه التعجيز، والتبكيت؛ لأنه من علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، وورد أنهم لو تمنوا الموت لماتوا في الحين[1]."

هنا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ هل هذا المقصود به مجرد، وقوع التمني في نفوسهم، بنفس كل واحد منهم؟ فهم أحرص الناس على الحياة كما قال الله - تبارك، وتعالى -: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ؟ أو أن المقصود هنا المباهلة، أن ذلك على سبيل المباهلة، وليس مجرد وقوع التمني في النفس؟ أن يتمناه كل واحد في نفسه سواء كان ذلك ممن عاصروا النبي ﷺ أم كان ذلك ممن يشمل من يأتي بعده إلى يوم القيامة؟ فهذا يحتمل، فبعض أهل العلم حمل ذلك على المباهلة، أن المراد المباهلة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ هذه الآية غير صريحة بأن ذلك في المباهلة، لكن هذا الذي ذهب إليه جمع من أهل العلم منهم الحافظ ابن كثير[2] وهو ظاهر كلام الحافظ ابن القيم[3] ومن المعاصرين: الشيخ عبد الرحمن السعدي[4] وقبل هؤلاء قاله ابن عباس   - ا -[5]: أن المقصود المباهلة.

وذهب آخرون إلى أن ذلك يراد به مجرد التمني مطلق التمني، وليس على سبيل المباهلة؛ لأنه لم تذكر المباهلة هنا، ولم يُدْعَوا إليها، وهذا الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[6] وأيضًا من المعاصرين: جمال الدين القاسمي[7].

وعلى القول الأول سمي هذه المباهلة تمنياً باعتبار أن كل واحد من المتباهلين يود لو هلك المبطل، ويدعو بذلك، أن الله - تبارك، وتعالى - يُهلك المبطل منهما، فهذا بهذا الاعتبار يكون تمنيًا، كل محق يتمنى هلاك المبطل لا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان الحق، وظهوره، هكذا قال ابن كثير - رحمه الله - فهذا توجيه تسمية المباهلة بالتمني فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لم يصرح بالمباهلة، قالوا: سميت المباهلة تمنيًا باعتبار أن المحق يتمنى هلاك المبطل، ويدعو به، والحافظ ابن القيم   - رحمه الله -  يعلل كون ذلك من قبيل المباهلة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ يعني في مقام المباهلة، اطلبوا الموت، ادعوا به، أن يُدعى بالموت على المبطل، الهلاك على المبطل، ابن القيم يقول: بأن من اليهود من يتمنى الموت لفقره، أو لضر نزل به بخلاف المباهلة. نصارى نجران لما قدموا على النبي ﷺ دعاهم للمباهلة فلم يباهلوه، وقد جاء عن ابن عباس: أن اليهود لو تمنوا الموت لماتوا، وأن النصارى لو باهلوا النبي ﷺ لرجعوا لا يجدون أهلًا، ولا مالًا. فلاحظ التفريق هنا بين أن اليهود لو تمنوا الموت لماتوا، هذا من جهة الاقتران يدل على أن هذا مباهلة؛ لأنه قرنه مع ما وقع للنصارى، والذي وقع للنصارى مباهلة واضحة، وصريحة فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ [آل عمران: 61] فهذا صريح، لكن هنا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ هذا غير صريح، فالذي جاء في قوله: (لو تمنى اليهود الموت لماتوا) القرينة من وجهين:

الأول: دلالة الاقتران. قرنه بمباهلة النصارى، مما يُشعر أن هذا كان على سبيل المباهلة مع أن دلالة الاقتران كثير من أهل العلم يُضَعّفها كما هو معروف، والواقع أن دلالة الاقتران أنواع، وصور وليست بصورة واحدة، فيها تفصيل، لكنها قرينة.

الثاني: أنه قال: (لو تمنوا الموت لماتوا). فهنا جاء بالتعبير بصيغة الجمع مما يدل على أن هذا التمني لا يكون من الواحد منهم، وإنما يتمنونه بمجموعهم، فهذا يكون على سبيل المباهلة، (لو تمنوا الموت لماتوا) لو تمنى الآن الموت أحد منهم هل يموت؟ فهذه قرينة كما يقول ابن القيم ثالثة باعتبار أن التمني هنا في هذه الآية المقصود به المباهلة، وليس مجرد ما تطلبه النفس، وتتمناه. وهذا القول كما ترون له وجه، فهذه قرائن ثلاث تدل على أن المقصود به المباهلة - والله أعلم -.

"وقيل: إن ذلك معجزة للنبي ﷺ دامت طول حياته."

أن معنى للنبي ﷺ دامت طول حياته: يعني لو أن أي أحد يعني ليس على سبيل المباهلة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أنهم لا يتمنون الموت أبدًا؛ لأنه قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا فمعنى ذلك أن هذا التمني لا يقع من اليهود إطلاقًا، الآن بعض اليهود ينتحرون، توجد نسب، وإحصاءات عندهم في الانتحار، فهذا الذي انتحر ما الذي حمله على هذا؟ هو طلب الموت، هو لم يتمن الموت فقط بل أيضًا عمد إلى تعاطي الأسباب التي توصله إلى ذلك، قتل نفسه، فهذا يؤيد القول الأول، وأنهم دعوا إلى المباهلة بهذا الدعاء بالموت، هذا تمني الموت، يعني الموت المبطل، وهم يعرفون أنهم على باطل، فلن يطلبوا ذلك أبدًا.

"وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ إن قيل: لم قال في هذه السورة: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ وفي سورة الجمعة: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ فنفى هنا بلن، وفي الجمعة بلا، فقال أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، الجواب أنه لما كان الشرط في البقرة مستقبلًا، وهو قوله: إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً جاء جوابه بلن التي تخلص الاستقبال، ولما كان الشرط في الجمعة حالًا، وهو قوله: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ جاء جوابه بلا: التي تدخل على الحال، وقد تدخل على المستقبل."

هذا يسمونه بالمتشابه اللفظي يعني أنه يعبر في موضع بعبارة، وفي موضع آخر بعبارة أخرى، لكن يكون ذلك بآية، أو بحديث عن نفس القضية التي تناولتها الآيتان كما هنا وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ووَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ [الجمعة: 7] صيغ النفي تتفاوت في قوتها أقواها (لن)، أقوى من (لا) فلماذا عُبر هنا وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ؟ فهو ينقل هنا عن أبي جعفر بن الزبير الغرناطي هو شيخه، له كتاب اسمه (ملاك التأويل) مطبوع في مجلدين هذا الكتاب يُعنى بالمتشابه اللفظي، يعني يأتي بالآيات مثل هذه لماذا عُبر هنا بكذا، وهناك بكذا، فيجيب عنها، وهذا على كل حال تطرقت إليه في بعض المناسبات، وهناك كتب أخرى مثل (البرهان) للكرماني، و (درة التنزيل، وغره التأويل) للإسكافي، وكذلك لزكريا الأنصاري كتاب في متشابه القرآن، ويُعنى بهذا أصحاب التفسير البلاغي، لكن ما يُذكر من هذه الوجوه لا يقطع به، هو أمر مظنون، وليس ذلك من صلب العلم، بل هو من مُلح العلم، يعني: لا يتوقف عليه الفهم، أنت قد تفهم الآية، ولا تحتاج إلى المقارنة لماذا عُبر هنا بكذا، وهناك بكذا، بل بعض أهل العلم يُنكر هذا، ويرى أنه من التكلف، والقول على الله بلا علم، ويشددون في ذلك، على كل حال إذا ظهر وجهه فلا بأس، لكن لا يُقطع به، مثل قوله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام: 151] وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء: 31] نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام: 151] نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء: 31] لماذا عبر بكذا في هذا الموضع، وعبر في الموضع الآخر بغيره. فينقل عن شيخه أبي جعفر.

وعلى كل حال هذا الجواب باعتبار أن الآخرة أمر مستقبل فجاء بلن، وادعاء الولاية أمر حاصل، وواقع في الحال فجاء بلا، لكن ليس بلازم، والعلماء يذكرون غير هذا من الأوجه.

بعضهم يقول: باعتبار أن الدعوى الأولى التي في البقرة الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس أن هذه أعظم من الدعوة الثانية أنهم أولياء لله، يعني إذا ادعوا أنهم أولياء لله لا ينفي ذلك وقوع، أو دخول الجنة، مشاركة غير اليهود لهم في دخول الجنة، أنهم أولياء لله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ قال: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا [الجمعة: 7] لكن في البقرة ادعوا أن الآخرة خالصة لهم من دون الناس فأي الدعوة أعظم؟ الأولى أعظم أنها خالصة لهم، إذا كانت خالصة لهم فهذا فيه دعوى الولاية، وزيادة فجاء بالصيغة الأقوى في النفي، وهي لَنْ.

هذا وجه، وهو أحسن مما قاله أبو جعفر بن الزبير، وأوضح، ويبقى أن هذا كله ليس بمقطوع به، وإنما بعض هذه الأوجه التي يذكرونها، يذكرها الإسكافي، أو الكرماني، أو غير هؤلاء متكلفة، وقد لا يستبين وجهها إلا بشيء من العناء، والصعوبة مما يدل على التكلف الظاهر فيها، فما ظهر وجهه فلا بأس، وما كان متكلفًا فإن الإنسان لا يلج في شيء من هذا فيكون قائلًا على الله بلا علم. 

"بِما قَدَّمَتْ أي: بسبب ذنوبهم، وكفرهم. عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تهديد لهم."

يعني: تهديد مبطن إذا قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ معنى ذلك أنه سيحاسبهم، ويعاقبهم، ويجازيهم على ظلمهم.

"وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفًا على ما قبله فيوصل به، والمعنى أن اليهود أحرص على الحياة من الناس، ومن الذين أشركوا، فحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس، ومن الذين أشركوا. وخص الذين أشركوا بالذكر بعد دخولهم في عموم الناس؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة بإفراط حبهم للحياة الدنيا."

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: أحرص الناس بإطلاق، وخص الذين أشركوا، يعني: هم أحرص أيضًا من الذين أشركوا على الحياة، فخص الذين أشركوا باعتبار أنهم لا يؤمنون بالآخرة، فهذه الحياة بالنسبة إليهم هي الغاية، فهم في غاية الحرص على كل لحظة فيها، فإذا فارقها فهو يعتقد أنه لا حياة بعدها، كما قال الله تعالى - في أحد الوجهين في المعنى -: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة: 13] كما يئس الكفار أي الأحياء، من أصحاب القبور يعني من الموتى أن يُردوا، أو أن يعودوا، وأن يبعثوا، ونحو ذلك، انتهى من مات فات، انتقل إلى مثواه الأخير، فهؤلاء اليهود مع كونهم يؤمنون بالآخرة، فهم أحرص على الحياة من المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، فهذا المعنى اختاره ابن جرير   - رحمه الله -[8] وهو الظاهر المتبادر، هذا الأقرب في تفسيرها - والله أعلم -.

"والآخر أن يكون من الذين أشركوا ابتداء كلام فيوقف على ما قبله، والمعنى: من الذين أشركوا قوم. يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ."

يعني لاحظ هنا يكون الكلام تامًا وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ هذا اليهود وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قوم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ لكن هذا خلاف الظاهر، والحديث ليس عن المشركين، ولا بيان سوء حال المشركين في هذا المقام، وإنما الكلام على اليهود، فيكون الكلام هكذا: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: وأحرص من الذين أشركوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ يعني: الواحد من اليهود لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ فهذا في بيان وصف حالهم، وشدة تعلقهم بالحياة أن أحدهم يود لو عُمّر هذه المدة الطويلة.

"فحذف الموصوف."

يعني: فحذف الموصوف الذي هو قوم وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قوم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ هذا الموصوف، والأصل عدم التقدير، والأصل عدم الحذف.

"وقيل: أراد به المجوس؛ لأنهم يقولون لملوكهم عش ألف سنة."

هذا لا دليل عليه إطلاقًا، وليس في السياق ما يشعر به، هم يقولون: إن المجوس يقولون ذلك تشميتًا للعاطس. إذا عطس أحد قالوا: عش ألف سنة.

"والأول أظهر؛ لأن الكلام إنما هو في اليهود، وعلى الثاني يخرج الكلام عنهم. وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ الآية فيها، وجهان أحدهما: أن يكون هو عائد على أحدهم، وأن يعمر فاعل لمزحزحه."

يعني وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ التعمير أي يعمر، فتكون ما أولها، وما بعدها أن، وما بعدها مؤولة بمصدر وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ يعني التعمير ليس بمباعده، وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر، هذا التقدير أن يكون هو عائد على أحدهما، ويعمر فاعل يعني، وما أحدهم بمزحزحه من العذاب أن يعمر، التعمير لا يزحزحه فيكون أن يعمر فاعل بهذا الاعتبار.

"والآخر: أن يكون هو للتعمير، وأن يعمر بدل."

أن يعمر بدل، أن يكون وَمَا هُوَ يعني التعمير بمزحزحه أن يعمر، فيكون بدلًا منه يعني البدل يقوم مقام المبدل منه يعني وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ ... أَنْ يُعَمَّرَ يعني، وما التعمير بمزحزحه هذا التقدير.

  1.  هو جزء من حديث ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة أتيته حتى أطأ على عنقه، فقال رسول الله ﷺ: لو فعل أخذته الملائكة عيانا، وإن اليهود لو تمنوا الموت لماتوا، ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالا، ولا أهلا السنن الكبرى للنسائي، سورة آل عمران، قوله تعالى: ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [آل عمران: 61]  رقم: (10995)، وأحمد، رقم: (2225).
  2.  تفسير ابن كثير (1/333).
  3.  مدارج السالكين (2/264).
  4.  تفسير السعدي (ص: 59).
  5.  تفسير ابن كثير (1/332).
  6.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/487).
  7.  تفسير القاسمي (1/354).
  8.  تفسير الطبري (2/369).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما رد به عليهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة:94، 95] يخاطبهم يقول: إنكم حينما تدعون أن الجنة خالصة لكم من بين سائر الناس فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ كانوا يدعون دعاوى كهذه، وأنهم أولياء الله وأنهم أحباؤه، فرد الله عليهم في دعاواهم هذه جميعًا: إن كان الأمر كما تقولون وكما تدعون فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ طالما أن الجنة مضمونة، وأنها خالصة لكم من دون الناس فتمنوا الموت، فإن من اعتقد أنه من أهل الجنة، وجزم بذلك فلا شك أن الموت سيكون محببًا إليه؛ لأنه هو الطريق إلى الجنة التي قد ضمنها، فهو يصير إلى النعيم المقيم، ويزول عنه الكدر في هذه الحياة الدنيا، وما بنيت عليه، وما ركِّبت عليه من الكدر والضيق والكبد لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4].

فالذي يتمنى الموت، ويحب لقاء الله -تبارك وتعالى- هذا دليل على أنه قد صار واثقًا بعمله، وأنه جعل ما بينه وبين الله -تبارك وتعالى- عامرًا، فهو متهيئ للقاء الله -تبارك وتعالى- ولكن مثل هذا في واقع الأمر، وما دلت عليه دلائل الشرع يحتاج إلى شيء من التفصيل، فإن النبي ﷺ حينما قال: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، كره لقاء الله وكره الله لقاءه[1] فالمؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، كما قال النبي ﷺ والكافر في هذه الحال حينما يرى ملائكة العذاب يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه، هذا معنى الحديث.

لكن هنا في هذه الآية في بني إسرائيل فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ هذه خاصة في بني إسرائيل، يقول: طالما أنكم قد ضمنتم هذا، وبعض أهل العلم يقول: فادعوا على أنفسكم بالموت، والمعنى واحد، فهي خاصة بهم، وقد صح عن النبي ﷺ: وإن اليهود لو تمنوا الموت لماتوا[2] فهم لعلهم بسوء حالهم وما هم عليه من الكفر وسوء عاقبتهم لا يتمنون الموت بحال من الأحوال، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [سورة البقرة:96] وقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ.

وهذا كما قلنا في قوله -تبارك وتعالى- ناهيًا للمؤمنين من تولي اليهود: لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13] وذكرت في مناسبة سابقة وجهين من المعنى والتفسير في هذا الموضع من كتاب الله قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ يعني: من ثواب الآخرة كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ يعني: هؤلاء اليهود الأحياء من ثواب الله في الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا ورأوا منازلهم في النار من ثواب الله في الآخرة، يعني الذي ماتوا من الكفار ورأوا منازلهم ورأوا ملائكة العذاب يقولون: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة، فهؤلاء الأحياء من اليهود يائسون من ثواب الله في الآخرة كيأس الأموات من الكفار الذين عاينوا الحقائق، هذا المعنى الأول.

والمعنى الثاني: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ يعني: من الموتى، أن يبعثوا ويرجعوا ثانية؛ لأنهم يعتقدون أنه لا بعث، وأن هذا هو المثوى الأخير والفراق النهائي.

على كل حال، فهنا الله -تبارك وتعالى- خاطبهم بهذا: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وقد ذكر بعض المفسرين: بأنه على قدر نفرة النفوس من الموت يكون ضعف منال تلك النفس مع المعرفة التي بها تأنس بربها فتتمنى لقاءه وتحبه، أن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه إلى آخره، يعني كأنهم يقولون: بحسب حال العبد يكون كراهيته للموت، وهذا ليس بمطرد، كما قالت عائشة -رضي الله عنها: فكلنا يكره الموت ولكن الذي ذكره النبي ﷺ هو حال الاحتضار، من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله في تلك الحال، وأما كراهية الموت في حال العافية ونحو ذلك فكما جاء في الحديث القدسي: ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن وفاته، لأنه يكره الموت، وأكره مساءته[3] يكره الموت، فهذه قضية لا يلحق العبد فيها حرج، ولا تدل على انحطاط مرتبته، أو سوء عمله، أو عاقبته، ولكن اليهود هنا كانوا يجزمون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، قال لهم: فتمنوا الموت إذًا طالما أنكم تضمنون مثل هذه العاقبة.

ثم أيضًا لاحظ هنا في قوله: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ [سورة البقرة:94] إِنْ كَانَتْ لَكُمُ ما قال: إن كانت الدار الآخرة لكم، وإنما قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ فقدم الجار والمجرور إشعارًا بالاختصاص والحصر أو للاهتمام لَكُمُ وهم يدعون أنها محصورة، وأنها خاصة بهم.

وفي قوله -تبارك وتعالى: مِنْ دُونِ النَّاسِ هذا تأكيد أيضًا لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الجار والمجرور ومن قوله: خَالِصَةً يعني: لا يشرككم فيها غيركم، فهم منفردون بها، فجاء هذا الرد وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:95] وهذا من إعجاز القرآن، هذا نوع من الإعجاز غير الإعجاز البلاغي، يعني: أنواع الإعجاز في القرآن من أشهرها: الإعجاز البياني والبلاغي بفصاحته ونحو ذلك، لكن أيضًا من الأشياء أنه أخبر بأمور من الغيب فجاءت كما أخبر.

فهنا لاحظ هؤلاء اليهود مع شدة الحسد والكراهية وتكذيب النبي ﷺ والتكذيب بالقرآن يقول وهم يسمعون: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [سورة البقرة:95] ومع ذلك ما رفع أحد منهم رأسه وقال: أنا أتمنى الموت، أبدًا، وإنما خنسوا، فهذا يدل على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من عند النبي ﷺ بحال من الأحوال، فهو هنا يقرر وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لن يفعلوا ذلك إطلاقًا لما يعرفونه من صدق النبي ﷺ ومن كذبهم وافترائهم، وما هم عليه من الكفر وسوء الحال، الأمر الذي يؤدي إلى الحرمان من ثواب الله -تبارك وتعالى- وجزائه الحسن في الآخرة، ولهذا ذكر عنهم هذا الوصف قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ يأسًا يعني تامًا كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [سورة الممتحنة:13].

فالله -تبارك وتعالى- صرف دواعي هؤلاء اليهود من جهة، فلم ينتصب أحد منهم لتكذيب النبي ﷺ أو القرآن فيتمنى الموت، وهذا غير الإعجاز البياني بفصاحته وبلاغته، هناك ليس فيه صرف للدواعي، هناك القرآن بنفسه قد بلغ بالفصاحة والبلاغة والبيان غايته بحيث لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88] ففرق بين المقامين، هنا في تمني الموت، الإعجاز في أنه أخبر عن شيء مستقبل، وهم أصحاب إرادة وقدرة وما قام أحد منهم مكذبًا له، وقال: أنا أتمنى الموت، فصرف الله دواعيهم، هنا صرف الدواعي، لكن في إعجاز القرآن البياني والبلاغي ليس فيه صرف للدواعي بل هو في نفسه معجز، ما أحد يستطيع.

يعني حاول ابن المقفع فكان كلما كتب صفحة مزقها، حاول مسيلمة الكذب فعرف فشهر بالكذاب، فإذا ذُكر ذُكر معه لقب الكذب "الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل وذيل قصير"، "يا ضفدع نقي كما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين"، هذا قرآن مسيلمة، لما سمعه أبو بكر  لما جاء وفد مسيلمة في حروب الردة، قال: أسمعوني ما يقول صاحبكم، فذكروا له، قال: "ويحكم، أين كان يذهب بعقولكم؟ إن هذا الكلام لم يخرج من إل"[4].

بل إن عمرو بن العاص حينما كان مشركًا والتقى بمسيلمة، وكلاهما كان يعادي النبي ﷺ أشد العداوة قال له عمرو بن العاص: هل نزل عليك شيء؟ قال: نعم، وذكر له سورة الوبر، الوبر الدويبة المعروفة، فسمعها عمرو بن العاص قال: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب[5]. فهو يعلم هذا وعمرو بن العاص يعلم هذا.

فليست المسألة في البلاغة القرآنية والفصاحة والبيان الذي تحدى الله به الجن والإنس وهو أشهر أنواع الإعجاز القرآني، هذا ليس من قبيل صرف الدواعي، لم يصرف ربنا -تبارك وتعالى- همم العرب عن معارضته، لا، هم لا يستطيعون أصلاً، هو أرقى من أن يحاكيه كلام البشر مهما علا كعبهم في الفصاحة، انتبهوا لأن المعتزلة يقولون: إن الإعجاز بالصرفة، إعجاز القرآن بالصرفة، هذا هو الفرق، بالصرفة يعني أن القرآن من جنس كلام العرب، وعلى وزان فصاحتهم، لكن الله صرف هممهم ودواعيهم عن معارضته فلم يعارضوه فقط، وإلا لاستطاعوا أن يأتوا بمثله؛ لأنه بنفس الأسلوب، وبنفس المستوى، وقد كذبوا بذلك، هذا مسيلمة حاول وهو يعيش في زمن النبي ﷺ وقرآنه لا يكاد يذكر إلا ويضحك الصغير والكبير، ومن لا يضحك يداري تبسمه قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء:88].

وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات وبسورة من مثله وما استطاعوا، فهذا معجز في نفسه، أنه كلام الله لا يمكن للبشر أن يأتوا بكلام مثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته وبيانه، لكن هنا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [سورة البقرة:94] الإعجاز في أنهم لم يحصل منهم هذا التمني، فما قام منهم وقال: أنا أتمنى الموت، ولو تمناه فكما قال النبي ﷺ: اليهود لو تمنوا الموت لماتوا هذا بالإضافة إلى أنهم لأن هذه الحياة هي الغاية عندهم، كانوا أحرص الناس على حياة.

ولاحظ اللفظ هنا وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] الحياة نكرة هنا، وهي في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم في الأصل، وإنما غاية ما هنالك أن ذلك من جنس الإطلاق المطلق وليس العام، يعني المعنى عَلَى حَيَاةٍ يعني أدنى ما تصدق عليه كلمة حياة، المهم أنه يتشبث بأهداب هذه الحياة ولو كانت في غاية التعاسة والذل والمهانة والانحطاط والسفول المهم أنه يعيش أَحْرَصَ النَّاسِ وأحرص أفعل تفضيل يعني أحرص من كل أحد؛ لأنهم يعلمون أن هذه الحياة هي الغاية وليس بعدها لهم نصيب من النعيم؛ لأنهم يعرفون مآلهم ونصيبهم.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: علم الله -تبارك وتعالى- للمستقبل وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ هنا الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، هنا وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [سورة البقرة:96] هذا علم ما هو واقع وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا هذا في المستقبل، وكذلك علم ما لم يكن لو كان كيف يكون لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47] يعني المنافقين هذا ما كان لو كان كيف يكون لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ [سورة الحشر: 12] وكذلك أيضًا في القتال نفاه لا يقاتلون معهم.

فهنا أيضًا يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا لاحظ هنا (لن) جاء التعبير في هذا الموضع في سورة البقرة وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بينما في سورة الجمعة جاء التعبير بحرف (لا) النافية وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ [سورة الجمعة:7] هناك وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ وهنا وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ [سورة البقرة:95].

يمكن أن يقال والله تعالى أعلم: بأنهم في هذا الموضع هنا في سورة البقرة ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، فجاء بأقوى صيغة في النفي وهي (لن) لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا في سورة الجمعة ادعوا أنهم أولياء لله، يعني إذا ادعى أنه ولي لله فهذا لا ينفي الولاية عن غيره وأن الجنة يدخلها آخرون، لكن هنا في سورة البقرة أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، لا يدخل الجنة إلا اليهود وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] (أو) هذه تفيد التقسيم وليست للتخيير، بمعنى أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا.

هذا المعنى؛ لأن اليهود يكفرون النصارى، ويعتقدون أنهم في النار، والنصارى يكفرون اليهود ويعتقدون أنهم في النار، إذن ما المعنى؟ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ (قالوا) يعني اليهود يقولون: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًّا، والنصارى يقولون: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًّا وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:111، 112].

ولاحظ بعدها وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [سورة البقرة:113] الذين لا يعلمون يعني العرب جهال كل يدعي لنفسه.

على كل حال فهنا لاحظ لما ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس قال: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لما نفاه قال: لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [سورة البقرة:95] وهناك ادعوا أنهم أولياء لله فدعاهم إلى تمني الموت قال: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا [سورة الجمعة:7] فجاء بصيغة نفي أخف من التي في البقرة، أخف من (لن) (لا) في النفي ليست في قوة (لن) فأدوات النفي تتفاوت في قوتها.

وكذلك يؤخذ منه جواز تخصيص العموم لغرض بحسب السياق، قال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة:95] الله عليم بالظالمين وغير الظالمين، لكن هنا ناسب أن يخص الظالمين تهديدًا لهم، فهذا جاء في صيغة خبر يُقصد به التهديد؛ لأن القدير إذا علم بظلم الظالم فإن ذلك يكون تهديدًا له فيعاقبه ويأخذه متى شاء.

وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة البقرة:95] ما قال: والله عليم بهم، فجاء بالاسم مظهرًا بِالظَّالِمِينَ ولم يكتفِ بالضمير والأصل أن تذكر الضمائر اختصارًا في الكلام، فالإظهار في موضع الإضمار يكون لعلة لفائدة، وهنا يمكن أن يقال: للتسجيل عليهم بالظلم، أن هؤلاء متصفون بالظلم، وليعم ذلك الحكم كل ظالم من هؤلاء اليهود وغير هؤلاء اليهود، والله تعالى أعلم. 

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، رقم: (6507)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، (2684).  
  2.  أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، قوله تعالى: ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَـٰذِبِینَ [سورة آل عمران:61] رقم: (10995). 
  3.  أخرجه أحمد، رقم: (26193)، وابن حبان، رقم: (347)، والطبراني: (12719).  
  4.  البداية والنهاية (6/ 359). 
  5. تفسير ابن كثير (8/ 479). 
  6.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ رقم: (2330).   
  7.  أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة، رقم: (2807). 
  8.  تفسير ابن كثير (1/334). 

فحينما طالبهم الله - تبارك وتعالى - أن يتمنوا الموت حين زعموا الدار الآخرة خالصة لهم دون غيرهم، فقال: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 94] ثم أخبر عن أمر مستقبل قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة: 95] وهذا القدر قد مضى الكلام عليه في الليلة الماضية.

ثم قال الله - تبارك وتعالى -: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 96] وَلَتَجِدَنَّهُمْ خطاب للنبي ﷺ وهو متوجه إلى الأمة؛ لأن الأمة تخاطب في شخص قدوتها ومقدمها - عليه الصلاة والسلام - أو أنه خطاب لكل من يصلح أن يوجه إليه هذا الخطاب.

وَلَتَجِدَنَّهُمْ هؤلاء اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ يعني أشد الناس حرصًا على طول البقاء، بصرف النظر عن هذه الحياة وطبيعتها وما يكون له من لذاتها أو الكمالات التي قد يحصلها فيها، المهم أنه يبقى على حياة ولو كانت ذليلة ومهينة، بل إن هذه الرغبة تزيد على رغبة المشركين وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا على قول مشهور في تفسير الآية وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني هم أحرص الناس مطلقًا، فيدخل في هذا أهل الإشراك، ويدخل في ذلك أهل الإيمان، ويدخل في ذلك سائر الطوائف أَحْرَصَ النَّاسِ ولكنه هنا ذكر خصوص المشركين بعدها، قال: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: أحرص الناس على حياة وهم أحرص على البقاء من المشركين، ولماذا ذكر المشركين؟

لأن المشركين لا يؤمنون بالآخرة ولا يؤمنون بالبعث أصلاً، فكانوا يستبعدون وقوع الآخرة، وهذا مشهور عنهم، أما اليهود فكانوا يؤمنون بالآخرة، وقد تتابع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - على بني إسرائيل، وكثر ذلك فيهم أي بعث الأنبياء، ثم بعد ذلك يكون حرص هؤلاء اليهود على البقاء أعظم من حرص المشركين على البقاء، المشركون يرون أن هذه الحياة هي الغاية، لكن اليهود يعلمون أن دارًا أخرى يصير الناس إليها فما كانوا ينكرون البعث والنشور واليوم الآخرة.

ثم ذكر الله شدة حرصهم على البقاء وبينه ووضحه وجلاه فقال: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ نكرة في سياق الإثبات، يعني: كل واحد منهم عنده هذا التمني لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ يعني: هو لا يغني عنه شيئًا هذا التعمير، فإنه مهما بقي فإنه يصير إلى عذاب الله - تبارك وتعالى - وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 96] مطلع على أحوالهم، وغاية ما هنالك أنهم يجمِّعون الأوزار في طول البقاء، لكن هذا يدل على أن هؤلاء يعلمون أنه لا نصيب لهم عند الله - تبارك وتعالى - ولذلك تشبثوا بهذه الحياة.

هذا ما يتعلق بمعنى هذه الآية، يؤخذ منها من الهدايات وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا الحرص على الحياة بمجرده ليس كمالاً وليس بمطلب يحمد عليه صاحبه، بل إن البقاء بمجرده لا يكون من المحامد، يعني: لا يحمد الإنسان على أنه عُمِّر هكذا فقط، لكن ماذا كان حاله في هذا الحياة؟

فقد يعيش الإنسان سنوات قليلة، قد يموت قبل العشرين، ولكن عنده من اليقين والإيمان والعمل الصالح والخوف من الله ومراقبته فيحصِّل من الأعمال ويرجِّح الموازين بما لا يكون عند من عاش مائة سنة فضيعها أو قضاها فيما لا طائل تحته من ألوان التفريط والغفلة، فليست العبرة في طول المدة، وإنما فيما تقضى فيه هذه المدة.

ولذلك انظروا إلى يوم نقضيه تغيب شمسه لم يقض الإنسان فيه شيئًا يُذكر من الأعمال النافعة المقربة، يعني لربما لو أن الإنسان نظر بنظر فاحص إلى يومه الذي انصرم غابت شمسه، هذا اليوم الذي مضى، فحينما غابت الشمس انقضى هذا اليوم منذ الليلة الماضية، فماذا حصَّل فيه الإنسان؟ لربما كان حاصل ما نتج عن أعماله ومزاولاته وما إلى ذلك هو مدة ساعة واحدة، فأين ذهبت ثلاث وعشرون ساعة؟ هذا يستطيع الإنسان أن يقيسه حينما يترهل مع الزمن.

تستطيع أن تقرأ جزءًا من القرآن في عشر دقائق قراءة حدر، وتستطيع أن تقرأه قراءة بتأنٍ في عشرين دقيقة، ولكن قد يتطاول الزمان على الإنسان من غير تدبر في قراءة جزء فتمضي الساعات وما قضاه، لماذا؟ لأنه مشتت، يقرأ وينشغل، ويفتح الجهاز، ويقرأ في الرسائل ثم يعيدها، ثم يرجع يبحث أين وقف؟ فيتطاول عليه هذا الجزء في زمان طويل.

انظر الآن هذا في قراءة جزء من القرآن، وانظر إلى ما تقضية مثلاً في أيام الإجازة من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، كثير من الناس يقضيها في نوم، لكن إذا كان أيام العمل أيام الدراسة ونحو ذلك فيذهب إلى الجامعة، ينجز أشياء من الدراسة أو العمل.

أيام الاختبارات يستطيع أن يقرأ مئات الصفحات، ولكنه لربما لا يقرأ عشر صفحات في شهر واحد، وكذلك في الأعمال.

فلذلك أقول: البقاء بمجرده لا يُحمد ولا يُطلب، وقد ذكرت لكم من قبل أن الإمام أحمد - رحمه الله - كره أن يُدعى للإنسان بطول البقاء، أن يقال: أطال الله عمرك؛ فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير، قال: من طال عمره، وحسن عمله قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله[6].

إذن لا بد من تقييد فيقال: أطال الله بقاءك على طاعته على مرضاته، ونحو ذلك، فهنا تكون حياته لها قيمة، لها معنى.

وعلى كل حال، هذا رأس مال عند كل أحد يتجر فيه مع الله أعني الأنفاس والدقائق والثواني، العمر هو رأس مال، فالناس فيه بين مضيع مفرط وبين مجد مجتهد يستغل كل لحظة فيه.

ثم أيضًا هذا ذم لليهود بتهالكهم على هذه الحياة أيًا كانت، تشبث بالبقاء بأي طريقة كان، وقد مضى الكلام على هذا عرضًا في مناسبة سابقة، فإن ذلك قد يُقدَّر وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ أن التنكير هنا للتقليل، حياة يعني أقل ما يصدق عليه أنه حياة، المهم يعيش ولو كانت حياة تعيسة، لا قيمة لها، ولا معنى، ويحتمل أن يكون ذلك وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ يعني: حياة مخصوصة حياة متطاولة، الحياة الطويلة عَلَى حَيَاةٍ أي: طويلة، لكن الأصل عدم التقدير، أو على حذف، يعني: هنا على حذف مضاف، أو على حذف صفة يعني هنا عَلَى حَيَاةٍ ولتجدنهم أحرص الناس على الحياة المتطاولة، هذا الأول، وقريب منه يعني أن يقول: ولتجدنهم أحرص الناس على طول حياة، الطول، أو ولتجدنهم أحرص الناس على حياة طويلة، على حياة متطاولة، المعنى المتقارب لكنه يختلف فقط الإعراب، فهم على كل حال الأقرب - والله أعلم - أن ذلك يدل على حرصهم على مطلق الحياة مهما كانت هذه الحياة بائسة، وهذا لا يمكن أن يكون لأحد من الناس إلا إذا كان لا يُرجّي شيئًا عند الله في الآخرة؛ لأنه مهما كانت حياته بائسة فإنما عند الله أشد وأعظم لمن لا نصيب لهم عند الله ولذلك جاء في الحديث بأنه يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة فيقال: يا فلان هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت نعيمًا قط... ويحلف ويؤتى بأبأس إنسان في الدنيا لك أن تتصور أبأس إنسان، ماذا يعاني من الأمراض والفقر والمشكلات والمصائب، أبأس منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أبأس إنسان يغمس في الجنة غمسة واحدة، يا فلان هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي بؤس قط[7] ويحلف، أنساه غمسة واحدة في الجنة أنسته البؤس الذي عاشه، لربما عاش مائة سنة في بؤس، لكن هذا الذي يعيش في بؤس وهو من أهل النار، البؤس يعتبر بالنسبة إليه جنة بالنسبة لعذاب النار، بالنسبة لعذاب الله - وتقدست أسماؤه - لذلك قيل: بأن الدنيا جنة الكافر، وسجن المؤمن، هذه العبارة صحيحة، هذه العبارة لا إشكال فيها، والمعنى أن الكافر مهما كان بائسًا في هذه الحياة الدنيا فهي بالنسبة إلى ما سيلقاه من عذاب الله جنة، سجن المؤمن ليس معنى ذلك أن المؤمن يعيش في بؤس في الدنيا، لا، وإنما المقصود سجن المؤمن أنه مقيد بحدود الله هذا ممنوع، هذا لا يجوز، هذه حدود الله، هذه محارمه، لكن في الجنة لا يوجد شيء اسمه حرام، لا يوجد شيء اسمه ممنوع، فأهل الجنة لهم فيها ما تشتهيه نفوسهم، بل أكثر من هذا كما قال الله - عز وجل -: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57].

وقد ذكرنا في درس التفسير في التعليق على المصباح المنير وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] قيل: ما يدعون، كل شيء يدعي أنه له هو له، كل شيء يقول: هذا لي، هو له.

والقول الثاني: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] يعني: يتمنون، كل ما يتمنى حاصل، ما يحتاج تعب، ولا يحتاج إرهاق، لا يحتاج معاناة، ولا يحتاج إلى كبد كما في هذه الحياة الدنيا، كلها كبد، لكن الجنة ليس فيها شيء من هذا.

فهي حرية بأن يشمر أهل الإيمان للعمل لها، وهو صبر قليل، الحياة كلها هي صبر ساعة، ثم يفضي هناك إلى روح وسعادة ولذات، ما فيها تنغيص، ولا صداع، ولا ألم، ولا مشكلات، ولا هموم، ولا غموم، ولا تعاسة، ولا مرض، ولا خوف من مرض، لا يوجد أمراض في الجنة إطلاقًا، ولا يوجد أعمال وعبادات يعملونها وتكاليف، إنما يلهمون التسبيح ويلتذون به كما نُلهم النفس، هل تجد مشقة في النفس.

هناك مكان الراحة الكاملة، ولا يذهب الشباب، ولا يتغير، ولا يحصل للإنسان المشيب، وإنما يكونون دائمًا في حال من الكمال المتجدد، واللذات متجددة لا يسأمها الإنسان تتجدد، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين من أهلها.

وعلى كل حال، الأقرب عدم التقدير والمقصود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ما يصدق عليه أنه حياة، ولو كان تافهًا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ الله يخبرنا عما في نفوسهم، عن مكنونات صدورهم يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة: 96] لماذا يحب أن يعمر ألف سنة؟ هو لأنه يعلم أنه ما له في الآخرة نصيب، وكما قال مجاهد: حببت لهم الخطيئة طول العمر[8].

ما هم عليه من الكفر والتكذيب للنبي ﷺ حبب إليهم طول البقاء، لكن هذا الطول في البقاء لا يغني عنهم شيئًا وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [البقرة: 96].

وثقوا بأنه مهما عمر الإنسان هذا العمر المديد يمضي كأنه ساعة، ولذلك انظروا في جميع الأمثلة، الله - تبارك وتعالى - أخبرنا عن أصحاب الكهف أنهم بقوا ثلاثمائة وتسع سنوات في كهفهم، وضرب على أسماعهم، فلما أفاقوا تساءلوا كَمْ لَبِثْتُمْ ماذا كان الجواب؟ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف: 19] ثلاثمائة وتسع سنوات يوم أو بعض يوم.

الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، قال: كم لبثت؟ مائة سنة، قال: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة: 259] يعني صاحب الثلاثمائة وتسع سنوات وصاحب مائة سنة يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة: 259].

وكذلك أيضًا في البعث والنشور وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم: 55] إذًا هذه الحياة مهما تطاولت، وإذا أردت أن تعرف هذا انظر إلى ما مضى من الأيام، تذكر أيام الصبى والشباب والنشأة كأنها البارحة، وحينما كنت في المرحلة الابتدائية تذكر التفاصيل بأول يوم ذهبت وما بعد ذلك، وتذكر باقي المراحل كأنها البارحة.

ونحن نخطئ في الحساب، أحيانًا نخطئ هل كان الحج الماضي أو الذي قبله أو الذي قبله، كم مضى على هذا ثلاث سنوات أو أربع سنوات حينما حججت مع فلان، أليس كذلك؟ يلتبس الأمر، حينما اشتريت الأضحية الفلانية هل كان قبل سنتين أو ثلاث أو أربع ويفاجئك من يقول أحيانًا: هذه كانت قبل سبع سنوات، كأنها أمس.

العمر هكذا يمضي، فهؤلاء الذين قد شابوا وشاخوا واحدودب ظهره وانحنى هذا كان في قمة القوة والشباب، ولكن كل ذلك يمضي، فالعبرة بالعمل، وأما طول العمر فليس بمغنٍ عنه شيئًا.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، رقم: (6507)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، (2684).  
  2.  أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، قوله تعالى: ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَـٰذِبِینَ [سورة آل عمران:61] رقم: (10995). 
  3.  أخرجه أحمد، رقم: (26193)، وابن حبان، رقم: (347)، والطبراني: (12719).  
  4.  البداية والنهاية (6/ 359). 
  5. تفسير ابن كثير (8/ 479). 
  6.  أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ رقم: (2330).   
  7.  أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤسا في الجنة، رقم: (2807). 
  8.  تفسير ابن كثير (1/334).