الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:97-98].
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم.
فسبب نزول هذه الآية هو أن اليهود ذكروا أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - عدو لهم كما نقل عليه الإجماع ابن جرير - رحمه الله تعالى -، والروايات الواردة في هذا كثيرة، وكثير منها لا يصح من جهة الإسناد، ولكن بعضها صحيح، وهذا الصحيح منه ما ليس بصريح في سبب النزول من جهة العبارة واللفظ يعني تجد مثلاً في الرواية: فقرأ رسول الله ﷺ: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ، وتجد في بعضها عبارات ليست بصريحة، وقد عرفنا في بعض المناسبات أن العبارة الصريحة في سبب النـزول هي أن يذكر حادثة أو سؤال ثم يقول: فأنزل الله الآية، فأنزل الله كذا، أو يصرح ويقول: سبب نزول هذه الآية كذا.
أما إذا قال: فقرأ رسول الله ﷺ أو فقال رسول الله ﷺ: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ مثلاً، أو نزلت هذه الآية في كذا، فإن هذا يحتمل أن يكون من قبيل سبب النـزول، ويحتمل أن يكون من قبيل التفسير، فالروايات الصحيحة منها ما ليس بصريح في أنه سبب نزول، ولكنك إذا تتبعت الروايات الواردة، وجمعتها؛ تجد فيها ما يصرح بذلك، ولذلك فالإنسان لا يستعجل في مثل هذه القضايا، ويقول: هذه الرواية ليست بصريحة؛ لأنك تجد في روايات أخرى أحياناً للحديث عبارة صريحة، فيكون ذلك إنما يرجع إلى نقل الرواة، وقد تجد في الحديث الواحد في أوله ما هو غير صريح، وفي آخر الحديث ما يصرح بأنه سبب النزول، وهذا موجود.
فالمقصود أن سبب نزول هذه الآية هو قول اليهود هذا، ولعل من أصح ما ورد فيه هو أن أولئك النفر من اليهود سألوا النبي ﷺ عن مسائل متعددة، فأجابهم ﷺ وهم يعلمون أنه لا يعرف الجواب إلا نبي، فأجابهم النبي ﷺ عن تلك المسائل، وبعد ذلك سألوه عمن يأتيه بالوحي؟ فلما أخبرهم أنه جبريل - عليه الصلاة والسلام - أخبروه بأن جبريل عدوُّهم، وكان ذلك في زعمهم سبباً لتكذيبهم وكفرهم، فأنزل الله حيث قالوا: لو كان ميكائيل لاتبعناك، فهم يقولون: إن جبريل ﷺ هو الذي يأتي بالعذاب، والقحط، وأن ميكال هو الذي يأتي بالخصب، والأرزاق، ومعروف إفكهم وكذبهم على الله ، وعلى رسله، وذلك ليس بمستبعد منهم، فهم من معادن الشر، والكفر كما هو معلوم.
وجاء في بعض الروايات أن عبد الله بن سلام لما قدم النبي ﷺ مهاجراً إلى المدينة أتاه فسأله عن مسائل، ثم سأله عن صاحبه، فأخبره أنه جبريل، فأخبر عبد الله بن سلام النبي ﷺ بأن جبريل عدو اليهود، وفي بعض الروايات أن ذلك أيضاً وقع لعمر لما دخل على بعض اليهود في مكان دراستهم، وعبادتهم، فسألهم عن النبي ﷺ، ثم بعد ذلك جرى بينهم محادثة، وأخبروه أن الذي يمنعهم من اتباعه - عليه الصلاة والسلام - أن جبريل هو الذي يأتيه بالوحي، فجاء ليخبر النبي ﷺ فوجد الوحي قد سبقه بقوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا [سورة البقرة:97].
هذه خلاصة لأشهر الروايات الواردة في هذا المعنى، وأصح ما جاء في ذلك هي رواية أولئك النفر الذين جاؤوا للنبي ﷺ فسألوه عن مسائل، فأخبرهم، فسألوه عن صاحبه فقال: إنه جبريل، فكان منهم ما كان.
قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [سورة البقرة:97] القاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وعلى هذا فَإِنَّهُ يعني جبريل ﷺ، ونَزَّلَهُ يعني نزل القرآن، وهل جرى للقرآن ذكر؟
لم يجر له ذكر، وهذا مثال على ما ذكرنا مراراً من عود الضمير إلى غير مذكور، لكنه يفهم من السياق، فالقرآن ما ذكر، فعاد الضمير إليه لأن هذا يفهم من السياق، وهذا أسلوب عربي معروف، وقد سبق ذكره مراراً.
ويكون معنى الآية وهو المتبادر قل من كان عدوا لجبريل فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، وأما ما قيل من أن المراد من كان عدواً لجبريل فإن الله نزله يعني جبريل على قلبك ففيه بعد، وفي الآية قرينة ترده وهي قوله - تبارك وتعالى -: مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة البقرة:97]، والمصدق لما بين يديه هو القرآن كما جاء وصفه في مواضع من كتاب الله .
إذن: يكون المعنى فَإِنَّهُ أي جبريل نَزَّلَهُ يعني القرآن، عَلَى قَلْبِكَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والله تعالى أعلم، وهذه طريقة في الترجيح بين الأقوال التي يذكرها المفسرون وهي أن يوجد في الآية قرينة تدل على رجحان قول، أو ضعف آخر، وهذا مثال عليها.
قال البخاري: قوله تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ قال عكرمة: جبر، وميك، وإسراف: عبد، و"إيل" الله.يعني أن جبر، وميك، وإسراف بمعنى العبد، يعني المقصود أن هذه الكلمات الأعجمية مركبة تركيباً إضافياً كما تقول: عبد الرحمن، عبد الله، عبد العزيز، فتكون جبر كلمة وإيل كلمة جبرائيل، إذا قلنا: إن اللفظة الثانية هي بمعنى الله - وهذا هو المشهور عند كثير من أهل العلم - فإن ذلك يجعلها ذات معنىً متساو، بمعنى أن جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وكل هؤلاء جميعاً بمعنى عبد الله، وهذا أمر فيه إشكال لأن هذه الألفاظ مختلفة، ولذلك فإن بعض أهل العلم عكس القضية فقال: اللفظ الموحد هو بمعنى عبد، واللفظ الموحد فيها كلها إيل، قالوا: إيل هو عبد، واللفظة الثانية اسم، كما تقول: عبد الجبار، عبد العزيز، عبد الرحمن، فتكون إيل عبد، وهذا ليس بمستغرب، وعللوا ذلك بأن الأسماء الأعجمية في الإضافة يكون المضاف فيها مؤخر يعني عكس ما عندنا، فالأسماء الأعجمية المركبة عندهم مثل: إسلام أباد، حيدر أباد، فيصل أباد، فما معنى أباد؟
كأنها بمعنى بلاد، فالأولى: بلاد الإسلام، والثانية بلاد فيصل، والثالثة بلاد حيدر وهكذا.
ومثل ذلك: كلمة (ستان) تركستان، باكستان، أوزبكستان؛ كأن كلمة ستان معناها أرض، وبالتالي فالمعنى، فبعض أهل العلم يقول: اللفظ الموحد الذي هو (إيل) هذا بمعنى عبد، وتلك أسماء لله بالأعجمية، ومثل ذلك إسرائيل قالوا: معناه عبد الله، والعلم عند الله .
وقوله تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [سورة البقرة:98] فيها لغات كثيرة، فجبرائيل فيه عشر لغات، وميكائيل يذكرون فيه ست لغات ولسنا بصدد ذكرها، ولا حاجة إلى ذلك في نظري، ومن شاء راجعها في بعض كتب التفسير فإنهم يذكرونها، فعلى كل حال ليس مقصودنا هو التوسع في ذكر شيء من ذلك، وإنما بيان وجه ما يذكره ابن كثير - رحمه الله -، والتعليق على ما يحتاج إلى تعليق.
ثم روى عن أنس بن مالك قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله ﷺ وهو في أرض يخترف.يخترف معناه يجني الثمر.
فأتى النبي ﷺ فقال: إني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً قال: جبريل؟ قال: نعم قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة[1] فقرأ هذه الآية: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [سورة البقرة:97].هذه الرواية غير صريحة حيث قال فيها: فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية، بمعنى أنها قد تكون نزلت قبل ذلك فقرأها النبي ﷺ عليه، فلو بقينا مع هذه الرواية فقط لم نحكم بحال من الأحوال أنها سبب النزول؛ لأنها غير صريحة، ولأنه يحتمل أن يكون ذلك قاله رسول ﷺ في هذه المناسبة وإن لم يكن نزل بسببها، ولكن إذا نظرنا إلى الروايات الأخرى نجد منها ما هو صريح في اللفظ بأنه سبب النـزول، ولذلك هذه الرواية ثابتة صحيحة ولكنها غير صريحة، ولذلك إذا أردنا أن نرجح ما هو سبب نزول الآية فإننا نستطيع أن نقول بإجمال: إنه ما وقع من اليهود من قولهم، وزعمهم بأن جبريل عدوهم، لكن إذا أردنا أن نرجح ما هو السبب المعين هل هو قول عبد الله بن سلام ، أو قول أولئك النفر من اليهود الذين سألهم النبي ﷺ، أو الذين حاورهم عمر مثلاً؟ فهنا نستعبد نوعين من هذه الروايات هما: أولاً الروايات الغير صريحة، فمثل هذه الرواية صحيحة لكنها غير صريحة، وبالتالي نستبعدها، ثم نستبعد الروايات الضعيفة، وعامة هذه الروايات ضعيفة، ففي مثل هذا المثال لا يكاد يبقى عندنا إلا رواية أولئك النفر الذين سألوا النبي ﷺ عن مسائل، ثم سألوه عن صاحبه، فأخبرهم أنه جبريل، فيكون ذلك هو السؤال، فربما كان أولئك قد جاؤوا للنبي ﷺ قبل عبد الله بن سلام، وإذا تعددت عندنا الروايات، وصارت صحيحة، والوقت متقارب أول مقدم النبي ﷺ من المدينة، فنقول عندئذ: إن ذلك وقع في وقت متقارب، فنـزلت الآية بعد هذه الأحداث جميعاً، فكلها سبب نزول.
قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.المقصود أشراط الساعة الكبرى التي تكون قبل قيام القيامة، وهذه هي النار التي تخرج من قعر عدن.
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت.وأولئك النفر الذين سألوا النبي ﷺ سألهم النبي ﷺ حتى أقروا بأن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، قال لهم: تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، وأقروا به، ففي تلك الرواية جاء ما يدل على أن الشبه أيضاً، والذكورة، والأنوثة؛ تقع بسبب هذه القضية، فيكون شبهه لأبيه إذا علا ماء الرجل ماء المرأة، ويكون المولود ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة لماء الرجل فإن الشبه يكون للأم، ويكون المولود أنثى بإذن الله، وهو يدل دلالة واضحة وصريحة على أن الإنسان يخلق من مجموع الماءين، وذلك أيضاً في قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ [سورة الإنسان:2] أي: أخلاط خلافاً لما يذكره أهل الطب من أن المرأة ليس لها ماء أصلاً، فهذا غير صحيح، والنبي ﷺ لما قيل له: أتحتلم المرأة؟ قال: فبم يشبهها الولد وقال: إذا رأت الماء لما سئل عن الغسل[2].
قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهوتني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله ﷺ: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قالوا: هو شرنا وابن شرنا، وانتقصوه فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله"[3] انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجه من وجه آخر عند أنس .وهذا مما أشبهتهم به بعض هذه الأمة، حيث وجد هذا حتى عند بعض من يتشبث بالعلم ويدعيه، فإذا وافقهم الإنسان صار علامة الزمان النحرير، وإذا خالفهم ولو في قضية اجتهادية صار هالكاً، وجاهلاً، ولا يفهم شيئاً، وما إلى ذلك من العبارات، بل لربما طعن حتى في عرضه، واتهم بكل رزية، ولا أدري هل كانت هذه الكبائر، والجرائم، والموبقات التي يرمى بها الصالح هل كانت موجودة من قبل، أم وجدت عند المخالفة فقط، فالمهم أن هذا الذي يفعله بنو إسرائيل، فينبغي للإنسان ألا يشابههم في هذا، بل يتقي الله ، وإذا أحب يقتصد في الحب، فلا داعي للألقاب التي يبالغ فيها كـ"علامة" ونحوها، وكذلك عليه إذا أبغض أن يقتصد في البغض، فلا داعي للعبارات أيضاً التي لا يحتاج إليها.
وهنا قاعدة في هذا، وهي أنك إذا رأيت الرجل يبالغ في الحب فلا تأمن أن ينقلب إلى الطرف الآخر تماماً، بل تحرى أن يكون هذا الشخص في يوم ما سينقلب مائة وثمانين درجة، وستسمع منه عكس ما كنت تسمعه من قبل، وهذا ينبئ عن خلل في طريقة تفكير الإنسان، واختلال في مزاحه، وأنه ليس معتدلاً في أموره، وإنما يعيش على المبالغات، فحياته على المبالغات، ولذلك نظره غير مستقيم، وغير متزن، وحكمه على الأشياء غير منضبط؛ لأن الذي يحركه نفس تطيش، ومثل هذا أحكامه لا تسلم سواء في قضايا الأحكام الفقهية ودراستها، أو في حكمه على الأشياء أو الناس أو غير ذلك.
ومن الناس من يقول: "إيل" عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله؛ لأن كلمة "إيل" لا تتغير في الجميع، فوزانه عبد الله، عبد الرحمن، عبد الملك، عبد القدوس، عبد السلام، عبد الكافي، عبد الجليل، فعبد موجودة في هذا كله، واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف، والله أعلم.الذي دعا أصحاب القول الأول - وهو المشهور - أن إيل بمعنى الله أنهم وجدوا في كلام العرب في قوله تعالى: لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [سورة التوبة:8] أن الإل هو الله، ويطلق ذلك أيضاً في كلام العرب على العهد، وكذلك قول أبي بكر الصديق لما جاءه وفد مسليمة فقال: "اقرؤوا عليَّ ما يقوله صاحبكم" فقرؤوا عليه بعض الخزعبلات: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، فاللاقمات لقماً، وغير ذلك من الترهات، فقال: "أشهد أن هذا لم يخرج من إل" بمعنى من رب، لكن يمكن أن يقال بأن إيل غير الإل، وهذا لو قلنا: إنها غير معكوسة، بمعنى أن جبرا، وميكا ليست بمعنى عبد، وإنما عبد هي إيل هذه في اللغة الأعجمية، لكن في اللغة العربية الإل هو الرب، ويطلق ذلك أيضاًَ على العهد.
فإذا فككنا الارتباط وهذا أمر لا إشكال فيه؛ لأن هذه اللغة أعجمية، وهذه لغة عربية، فصار التشابه في اللفظ، فنقول: هي تقال في لغة العرب كذا، وأما في اللغة الأعجمية فإن ذلك لا تعلق له بكلام العرب، فهذه الأسماء أعجمية جبرائيل، وميكائيل، ولا إشكال عندئذ.
وأما تفسير الآية فقوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:97] أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي.فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ خص القلب؛ لأنه محل العلم، والعقل، وهذه الأمة أناجيلها في صدورها، فهذا لا إشكال فيه.
بِإِذْنِ اللّهِ أي بإذن الله له في ذلك، وسيأتي الكلام عن الإذن في قوله تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:102] فهنا بمعنى بإذن الله أي بإرادته، وتسهيله، وتيسيره.
ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضًٍ [سورة النساء:150] الآيتين، فحكم عليهم بالكفر المحقق إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله؛ لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم:64]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [سورة الشعراء:192-194].
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب[4] ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه، فقال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة البقرة:97] أي من الكتب المتقدمة.
وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:97] أي هدى لقلوبهم، وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء [سورة فصلت:44] الآية، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82] الآية.
  1. سيأتي تخريجه.
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب: التبسم والضحك (5740) (ج 5 / ص 2260) ومسلم في كتاب: الحيض - باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها (313) (ج 1 / ص 251).
  3. أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب كيف آخى النبي ﷺ بين أصحابه (3723) (ج 1 / ص 1433).
  4. أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق - باب: التواضع (6137) (ج 5 / ص 2384) إلا أن لفظه: آذنته بالحرب وأما لفظ: بارزني فأخرجه البيهقي (ج 3 / ص 346).

مرات الإستماع: 0

"مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية سببها: أن اليهود قالوا للنبي ﷺ: جبريل عدوّنا؛ لأنه ملك الشدائد، والعذاب فلذلك لا نؤمن بك، ولو جاءك ميكائيل لآمنا بك؛ لأنه ملك الأمطار، والرحمة."

عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن، عرفنا أنك نبي، واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه، إذ قالوا: اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ قال: هاتوا قالوا: أخبرنا عن علامة النبي، قال: تنام عيناه، ولا ينام قلبه قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة، وكيف تذكر؟ قال: يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنثت قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عرق النسا، فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا  -  قال أبي: " قال بعضهم: يعني الإبل "  -  فحرم لحومها " قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده   -  أو في يده   -  مخراق من نار، يزجر به السحاب، يسوقه حيث أمر الله قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر، لكان فأنزل الله : مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة: 97] إلى آخر الآية[1].

والحافظ ابن حجر يقول: بأن له طرقًا يتقوى بها.

وهذا الحديث صححه الشيخ أحمد شاكر[2] والشيخ ناصر الدين الألباني[3] وحكى عليه ابن جرير الإجماع[4] هذا هو سبب نزول الآية مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ فسبب نزولها هو قول اليهود بأنه عدوهم.

"فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ فيه وجهان: أحدهما: فإن الله نزل جبريل."

هذا وجه لكن لا يخلو من ضعف؛ لأنه قال: مُصَدِّقًا فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا يعني لو كان المقصود فإنه نزله يعني فإن الله نزل جبريل على قلبك مصدقًا، هذا لا يستقيم - والله أعلم -.

"والآخر: فإن جبريل نزل القرآن، وهذا أظهر؛ لأن قوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ من أوصاف القرآن."

لاحظ يقول: وهذا أظهر يعني فإن جبريل نزل القرآن. كما قال الله : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 192، 193] فالذي نزل به هو جبريل - عليه الصلاة والسلام - فَإِنَّهُ أي جبريل نَزَّلَهُ أي القرآن عَلَى قَلْبِكَ وليس الضمير في قوله: فَإِنَّهُ أي الله نَزَّلَهُ أي جبريل عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا وإنما الذي يكون مصدقًا لما بين يديه هو القرآن نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 193، 194].

"والمعنى: الردّ على اليهود بأحد وجهين: أحدهما: من كان عدوًّا لجبريل فلا ينبغي له أن يعاديه؛ لأنه نزله على قلبك، فهو مستحق للمحبة، ويؤكد هذا قوله: وَهُدًى وَبُشْرَى والثاني: من كان عدوًّا لجبريل فإنما عاداه؛ لأنه نزله على قلبك، فكأن هذا تعليل لعداوتهم لجبريل."

قوله: والمعنى الرد على اليهود بأحد وجهين. فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ يعني لماذا تعادونه؟ لا موجب لمعاداته فينبغي أن يُحب؛ لأنه نزل هذا الهدى الكامل، والوحي الذي تحصل به السعادة في الدارين عَلَى قَلْبِكَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فلا ينبغي له معاداته فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ.

والمعنى الثاني: من كان عدوًا لجبريل فإن ما عاداه؛ لأنه نزله على قلبك، فكأن هذا تعليل لعداوتهم لجبريل. يعني هم لماذا عادوه؟ باعتبار أنه مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ تكون الفاء تفيد التعليل، يعني باعتبار أنه نزله على قلبك، إن هذه العداوة ليس لأنه ينزل بالعذاب كما يقولون، وإنما لأنه نزله على قلبك مثلًا. 

لكن أوضح من هذين الوجهين ربما - والله أعلم -: أن ذلك في سياق الرد عليهم، ومقابلة هذا الكفر بالشدة في الرد. يقول: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فليعلم أنه هو الذي نزله على قلبك، فليكن منه ما شاء من الكفر، فليقبل من يقبل، وليرفض من يرفض، ويؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر، فآمنوا إن شئتم، أو اكفروا كما تقول: إن كنت لا ترضى بكذا فإنه هو العمل المشروع، أو العمل الذي يحبه الله فإنه هو الذي اختاره لنبيه ﷺ إن كانت لا تحب المدينة مثلًا فإن الله اختارها لنبيه ﷺ مهاجَرًا، من باب الرد، ويحتمل على القول الأول فلا ينبغي هذا بكونها مهاجرة للنبي ﷺ فينبغي أن تُحب، لكن الأخير هذا الثالث الذي ما ذكره كأنه أوضح، وأقرب مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ يعني واجههم بهذا الرد القوي كأنه يقول: من شاء آمن، ومن شاء كفر فالله غني عن خلقه، فهذا اختيار الله، وهو أعلم حيث يجعل رسالته. 

  1.  أخرجه أحمد، رقم: (2483)، والنسائي في السنن الكبرى، كيف تؤنث المرأة، وكيف يذكر الرجل، رقم: (9024)
  2.  مسند أحمد ت شاكر (3/128).
  3.  سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/491).
  4.  تفسير الطبري (2/377).

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما ذكره في خبر بني إسرائيل وما رد عليهم به وطالبهم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:97] قل لهم يا رسول الله حين قالوا: بأن جبريل هو عدوهم من الملائكة، وذلك أنهم سألوا النبي ﷺ عمن يأتيه بالوحي؟ فلما أخبرهم أنه جبريل، ذكروا أنه عدوهم، فأنزل الله هذه الآية: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنه نزل القرآن على قلبك بإذن الله مصدقًا لما سبقه من الكتب لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: ما مضى من الكتب وتقدمه، وهاديًا إلى الحق ومبشرًا للمؤمنين بكل ما يسرهم في الدنيا والآخرة.

يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ إنزال القرآن على قلب النبي ﷺ يدل على أنه قد وعاه -عليه الصلاة والسلام- وعيًا تامًا نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وجاء بـ(إن) الدالة على التوكيد ليؤكد هذا الخبر، فلا يتطرق شك إلى القرآن، فقد وعاه قلب رسول الله ﷺ فإن ما كان واصلاً إلى القلب نافذًا فيه، فإنه يكون في حرز منيع.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ نزل ماذا؟ نزل القرآن، والقرآن لم يسبق له ذكر، ومع ذلك جاء مكنىً عنه بالضمير، وهذا لأنه كالمعلوم فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ فهذا فيه إشعار بفخامته فَإِنَّهُ ما قال: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، وإنما قال: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ يعني نزل القرآن، فأضمر في موضع الإظهار، والإضمار في موضع الإظهار، يعني المكان الذي يتوقع فيه أن يؤتى بالاسم ظاهرًا، فجاء بالضمير هذا يكون لمعنىً في البلاغة فيمكن أن يفهم من هذا والله تعالى أعلم: بيان فخامة القرآن، وكذلك الضمير العائد إلى جبريل، ما قال: فإن جبريل نزله على قلبك، وإنما قال: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ مع أن قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ جبريل مذكور قبله، فأعاد الضمير إلى مذكور هنا، لكن هنا يمكن أن يقول أن يظهره فيقول: قل من كان عدوًا لجبريل فإن جبريل قد نزله على قلبك، فجاء بالضمير هنا، وذلك أيضًا أبلغ في تفخيم أمر جبريل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ مثل هذه القضايا يكون تذوقها بحسب ما يكون لدى الإنسان من الذوق البلاغي.

ثم كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ خص القلب هنا؛ لأنه موضع العقل والعلم، فإن هذه القلوب أوعية بها يوعى العلم، ولا يقال: بأن ذلك يكون في الدماغ، وإنما العقل في القلب كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وجبريل نزل بالوحي على قلب النبي ﷺ وليس على دماغه، ولكن كما قال بعض أهل العلم بأن العقل في القلب وله اتصال في الدماغ؛ لأن ما يؤثر على الدماغ يؤثر على العقل كما هو مشاهد، لكن القلب هو مبعث الإرادات ومستقر الإيمان، وهو وعاء العلم والإدراك والمعرفة والمحبة والكراهية، وما إلى ذلك من المعاني والأعمال القلبية.

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: القرآن هو مصدق للكتب أنها من عند الله، وكذلك أيضًا هو مصدق لما في مضامينها من دعائها إلى الإيمان، وما ذكر فيها من أصول الإيمان، وهو مصدق لها أيضًا باعتبار أنه جاء كما وصفت، كالوصف الذي جاء في تلك الكتب فهو مصدق لها، مصدق لما بين يديه من هذه الكتب.

وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين هدى ما قال: وهاديًا ومبشرًا، فجاء بالمصدر وَهُدًى ولم يأتِ باسم الفاعل (هاديًا) وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين في الموضعين، فهذا على سبيل المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى جعل نفس الهدى والبشرى، وحصل بهذا القرآن الهدى والبشرى، فيه آيات تبشر المؤمنين، وفيه الهدايات المتنوعة، فلما كان متضمنًا لذلك جعل كأنه هو نفس البشرى وكأنه نفس الهدى، هو هدى وهو بشرى، أو على حذف مضاف أي: ذا هدى وذا بشرى، والأصل عدم التقدير.

ولاحظ أنه قدم الهدى على البشرى وَهُدًى وَبُشْرَى لأن الهدى متقدمة، إنما تكون البشرى لمن حصل الهدى واتصف به وتحقق به وَهُدًى وَبُشْرَى فذلك لا يكون إلا للمؤمنين المهتدين أعني البشرى.

ثم خاطبهم فقال: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:98] من عادى الله وملائكته ورسله من الملائكة، أو البشر لاسيما هؤلاء الكبار من الملائكة -عليهم السلام: جبريل وميكال، حيث إن هؤلاء اليهود عادوا جبريل وقالوا: بأن ميكال هو وليهم، فأعلمهم الله -تبارك وتعالى- أن من عادى أحدًا من هؤلاء الملائكة الكرام فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين الكافرين به أو برسله أو بملائكته، الكافرين بكتبه، ومنها هذا القرآن، فإن من عادى وليًا لله -تبارك وتعالى- فقد عادى الله، وهؤلاء يعادون جبريل ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة.

إذا كان معاداة أولياء الله من غير الرسل ومن غير الملائكة من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب... الله كما في الحديث القدسي يذكر أنه ما تقرب إليه العبد بشيء أحب إليه مما افترضه عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه [1].

ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فهذا الذي أحبه الله -تبارك وتعالى- يكون وليًا له أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [سورة يونس:63] فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم في الحديث القدسي: من عادى لي وليًا فقد آذنته يعني: أعلنته أعلمته بالحرب، وإذا أعلم الله عبدًا بالحرب فما حاله وما مآله؟ نحن كما الإمام أحمد - رحمه الله: "نعيش في ستر الله ".

نحن ضعفاء مساكين، يتبين لنا ضعفنا صباح مساء في أشياء كثيرة، يتبين لنا عجزنا وفقرنا إلى الله وإلى ألطافه وما نحن من غير ذلك؟ واللهِ لا شيء، فإذا آذن الله عبدًا بالحرب فإلى أي شيء يصير؟ فهذه قضية توجب الحذر، فيحذر الإنسان أن يعادي أولياء الله -تبارك وتعالى- سواء كان هؤلاء من الملائكة الكرام، أو من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أو كان هؤلاء من أهل الإيمان، والإنسان لا يدري فرب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، ليست قيمة الإنسان بكثرة أمواله، ولا بفخامة داره أو مركبه، وليس ذلك برتبته، وإنما ذلك بإيمانه وتقواه، وهي قضية إنما يطلع عليها الله .

يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:20] هذا قدره عندهم، لكن قدره عند الله يختلف عن هذا تمامًا، فالمعيار والمقياس ليس بأرصدتنا وأموالنا، وليس ببزتنا وثيابنا، وليس ذلك بشيء مما يتكاثر به الناس غير الإيمان والعمل الصالح، التقوى لله -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ لاحظ جاء بالاسم الكريم، ابتدأ باسمه، اليهود عادوا جبريل كما زعموا فابتدأ بذكر اسمه الكريم ظاهرًا مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ فهذا تفخيم لشأن هؤلاء الملائكة الكرام والرسل العظام -عليهم السلام- ففيه إيذان بأن عداوتهم إنما هي عداوة لله هي القضية هكذا، ولذلك انظروا إلى الذين استهزأوا بالقراء في غزوة تبوك حينما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، القراء في ذلك الوقت يطلق على طلبة العلم، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا وأجبن عند اللقاء، ماذا نزل؟ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ [سورة التوبة:65][2].

كنا نمزح، نقطع الطريق الطويل طريق تبوك نمزح، فيذكرون ذلك على سبيل التندر والمزاح في زعمهم، انظر إلى الرد قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:65، 66] لاحظ هؤلاء قالوا تكلموا في القرآن، فجاءت الآية أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ فالأمر خطير، وما الذي يحمل العبد ليكون في شق يستهزئ ويسخر من أهل الإيمان، ومن أهل العلم، ومن أهل الصلاح والتقوى، ومن عمار المساجد، ومن أهل البذل والإنفاق والصلاح والإصلاح، لماذا يجعل نفسه دائمًا في هذه الكفة فيوجه إليهم سهامه نقدًا، وقدحًا، وعيبًا، وتجريحًا، وتشكيكًا ولمزًا وغمزًا؟ ما حاجة الإنسان لمثل هذا؟

هو الذي يخسر، هم لا يخسرون شيئًا؛ لأنه كما قال الله في سورة النور: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [سورة النور:26] فهذا الذي قاله الله فسره كبير المفسرين ابن جرير بأن الخبيثات من القول للخبيثين من الناس، فإذا قيلت بهم فهي تصدق عليهم، وإذا صدرت عنهم صدرت منهم، يعني فهم مظنتها وأهلها، الشيء لا يستغرب من معدنه، وإذا وجهت إلى غيرهم من أهل الصلاح ما ضرتهم. هذا كلام ابن جرير[3] قال: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [سورة النور:26] فحمله على الكلمات وهو يشمل الكلمات والأوصاف والذوات في الواقع، والله أعلم.

على كل حال، على العبد أن ينظر في موضع قدميه، وفيما يصدر عنه، فهؤلاء اليهود عادوا جبريل فجاءت الآية: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وجاء بجميع الملائكة مَلائِكَتِهِ؛ لأن ملائكة جمع مضاف إلى معرفة، وهذا يفيد العموم كل الملائكة وَرُسُلِهِ وهذا يفيد العموم يعني جميع الرسل، فهذا يدل على أن من عادى واحدًا من هؤلاء الرسل الكرام أو الملائكة العظام -عليهم الصلاة والسلام- فهو معادٍ لله وهو معادٍ لجميع الملائكة ولجميع الرسل.

وقدم الملائكة هنا على الرسل كما قدم ذكر اسمه الكريم على الجميع؛ لأن اسمه لا يتقدمه شيء، وعداوة الرسل وعداوة الملائكة تكون عداوة لله لأن الله هو الذي أرسل هؤلاء الملائكة، وهو الذي أرسل هؤلاء الرسل.

وأخر الرسل بعد ال ملائكة باعتبار أن الملائكة هم الذين يأتون إلى الرسل من البشر بالوحي، فإن الرسول البشري يأتيه الرسول الملائكي، فهؤلاء عادوا رسول الله ﷺ وردوا دعوته بحجة أن الرسول الملائكي الذي يأتيه بالوحي هو جبريل يقولون له: من صاحبك؟ وكأنه يأتي إلى أنبيائهم بالوحي غير جبريل الواقع أن جبريل هو الموكل بالوحي، فالذي كان يأتي إلى موسى وعيسى وسائر الأنبياء الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه- هو جبريل فعليهم إذًا أن يكفروا بكل أنبيائهم وبكل كتبهم ورسالاتهم.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ الملائكة تشمل جبريل وميكال -عليهما السلام- لكنه خصهما بالذكر لعظمهما عند الله، لتشريفهما، فإن ذكر الخاص بعد العام يدل على شرفه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى -والله أعلم- أن هؤلاء اليهود تكلموا في هذين الاثنين من الملائكة، فزعموا أن جبريل هو عدوهم، يعني: هو الذي يأتي بالعذاب، وأن ميكال هو وليهم؛ لأنه الموكل بالأرزاق، فقال الله مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فالذي يعادي جبريل يعادي ميكال -عليهما السلام- والذي يعادي جبريل أو ميكال أو يعاديهما فالواقع أنه معادٍ لجميع الملائكة الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه- وهذا معروف عند أهل البلاغة، يسمونه التجريد، أو عطف الخاص على العام، فإذا ذكر الخاص بعد العام يدل على مزية، على منزلة على مكانة، ولهذا تجد أن الله يذكر بعض العبادات حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [سورة البقرة:238] فالصلوات تشمل الصلاة الوسطى التي هي على الأرجح صلاة العصر، ولكنه خصها بالذكر لأهميتها لشرفها لعظمها.

وهكذا أيضًا يمكن أن يقال غير ذلك من الأوجه البلاغية، وكذلك أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين فهنا وضع الظاهر في موضع المضمر في موضعين فَإِنَّ اللَّهَ ما قال: فإنه عدو لهم، وإنما قال: لِلْكَافِرِين فأظهر ذلك فَإِنَّ اللَّهَ ما قال: فإني عدو للكافرين؛ من أجل أن ذلك فيه تربية على المهابة، فهذا يحمل العباد على الخوف والامتثال لأمره -تبارك وتعالى.

وكذلك في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين ما قال: عدو لهم، للدلالة على أنه تعالى عاداهم بسبب كفرهم، وليشمل هؤلاء اليهود ويشمل غيرهم، يعني: ليست عداوته -تبارك وتعالى- لليهود خاصة، أو للذين قالوا: بأن جبريل هو عدوهم، وإنما هو عدو للكافرين لكل الكافرين، فيشمل من وقع في هذا النوع من الكفر، ويشمل غيره، وأيضًا للدلالة على أن عداوة الملائكة والرسل كفر، يعني هنا يبين العلة لماذا عاداهم؟ لأنهم وقعوا في الكفر، وأن هذا الفعل من عداوة الرسل والملائكة أيضًا أنه كفر، وليشمل كل كافر، يعني إفادة التعميم، والله تعالى أعلم. 

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد ما ذكر عداوته لمن عادى ملائكته ورسله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:97، 98] قال بعده: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] قد أنزلنا إليك أيها الرسول آيات بينات واضحات، لا تترك في الحق لبسًا، تدل على صدق ما جئت به، وفيها من البراهين والدلائل ما يكفي لكل ذي إنصاف أن يؤمن بها، بل هذه الآيات المتلوة التي أنزلها الله على رسوله ﷺ جاءت بقوالب لفظية في غاية البلاغة والفصاحة، فهي معجزة في فصاحتها وبلاغتها وبيانها، فلا يكفر بها بعد ذلك إلا الفاسقون، الخارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- والخارجون عن الإيمان به، فهؤلاء لو جاءتهم كل آية فإنهم لا ينتفعون بذلك.

وتأمّل بقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ بعد قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ فجاء بأسلوب الغائب مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّه  ولم يقل: فإني، وإنما قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ثم تحول الخطاب إلى المخاطب، فقال: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ولم يقل: ولقد أنزل الله إليك، وإنما جاء بأسلوب المتكلم بعد أن كان بأسلوب الغائب فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ فلم يقل: فإني، إلى أن قال بعده: وَلَقَد أَنْزَلْنَا فجاء بضمير المتكلم، فهذا التفات من الغَيبة إلى ضمير المتكلم، وكذلك أيضًا وجه الخطاب فيه إلى النبي ﷺ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فهذا يشعر بالقرب، وفيه تسلية للنبي ﷺ بعد تكذيب هؤلاء اليهود، فكأنه يقول: لا تكترث ولا تلتفت إليهم، فهذا ديدنهم، وهذه عادتهم، ومن ثم فإن الله -تبارك وتعالى- هو وليك، وهو الذي يؤيدك، وهو الذي أوحى بذلك إليك وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ وفيه إثبات علو الله على خلقه؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل.

وفيه أيضًا إثبات إنزال القرآن، فإن عقيدة السنة والجماعة أن القرآن منزل من الله، سمعه جبريل من الله مباشرة بلا واسطة، ويدل على هذا حديث تكلم الله بالوحي، فهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، خلافًا لبعض أهل البدع الذين يقولون: بأن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، أو من يقولون: بأن جبريل أخذه من بيت العزة في سماء الدنيا، هذا كله غير صحيح؛ لأن هؤلاء لا يثبتون أن الله يتكلم كما شاء متى شاء على ما يليق بجلاله وعظمته، فهذا مبني على اعتقادهم الفاسد.

وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ والتنكير في قوله: آيَاتٍ يدل على التعظيم، فهي كلام الله -تبارك وتعالى- وهي مشتملة على الهدى الكامل من كل وجه، فهي دلائل وبراهين، فإن الآية تدل على معنى العلامة إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [سورة البقرة:248] يعني علامة ملكه، فهذه الآيات تدل على صدق من جاء بها، وأنه جاء بها من الله وليس ذلك بمختلقات من قبل نفسه.

ثم تأمّل وصف هذه الآيات بالبينات، فالقرآن في غاية الوضوح، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [سورة القمر:17] يعني للتذكر فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:17] فهذا التيسير يشمل تيسير الألفاظ، فهو ميسر في حفظه، وكذلك ميسر في تلاوته، ويشمل أيضًا تيسير المعاني، فالله خاطب العرب بما يفقهون وما يفهمون، فلا يوجد فيه أحاجي وطلسمات، وأمور غامضة لا تفهم، ولا يعرف أحد معناها، كما يقول بعضهم: بأن القرآن فيه ما لا يعرف أحد معناه إلا الله، يعني لا الرسول ﷺ ولا غير الرسول -عليه الصلاة والسلام- فهذا غلط، فإن الله لا يمكن أن يخاطب الأمة إلا بما تفهم، وهذا هو الغرض من إنزاله، كما قال الله -تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [سورة ص:29].

فهذا التدبر لا يمكن أن يتحقق إذا خوطبوا بشيء لا يفقهونه، ولا يدخل تحت مداركهم، فهذه الآيات وصفها الله بالبينات، فهي بينة في نفسها، وهي أيضًا مبينة للحق، فإن أصل هذه المادة (بان) و(أبان) تأتي متعدية، وتأتي لازمة، أبان الحق أي أوضحه، وتأتي بمعنى بان أي ظهر واتضح، قد تكلمنا في الأسبوع الماضي في الكلام على أسماء الله الحسنى عن اسم الله المبين، وذكرنا هذين المعنيين هناك، فما بقي بعد هذا الإيضاح والبيان إلا العناد لمن لم يدخل في الإيمان.

لكن الحروف المقطعة على الأرجح ليس لها معنى في نفسها، فهي ليست بكلام مركب، وإنما هي حروف تهجي، وحروف التهجي عند العرب لا معنى لها في نفسها، وإنما تشير إلى الإعجاز، كما يقوله الفراء[4] وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[5] وجمع من أهل العلم: أنها تشير إلى معنى الإعجاز؛ ولذلك لا تكاد تذكر إلا ويذكر بعدها القرآن، أو ما يقتضي ذلك، في ثلاث سور خاصة، باقي المواضع يذكر بعدها القرآن الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:1، 2] الم ۝ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [سورة آل عمران:1- 3] وهكذا في جميع المواضع إلا في ثلاث سور ذكر ما يقتضي ذلك ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [سورة مريم:2] والقرآن رحمة، وهكذا.

وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] فهذا يدل على أن الذين بلغهم القرآن، وفهموا عن الله -تبارك وتعالى- خطابه فيه، ثم بعد ذلك هم يكفرون أن هؤلاء إنما حملهم على ذلك العناد، والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فصاروا مختارين للكفر على الإيمان، مشترين الضلالة، مستعيضين بها بدلاً من الهدى والحق.

فهذه الآيات وهذا القرآن هو في نفسه حجة، وهو في نفسه معجز، فإذا عرض على الناس، وقرئ عليهم، ثم بعد ذلك وجدت المكابرة والعناد، ولم يقع منهم الإيمان، فإن ذلك إنما هو بسبب عتوهم وعنادهم، لا يكفر بها من كان خاضعًا مؤمنًا مستجيبًا طالبًا للحق، وإنما من كان معاندًا فإنه يكفر بها.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء اليهود بعد أن بيّن وأشار في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها أنهم فاسقون: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] إذن فهؤلاء حينما لم يؤمنوا بهذه الآيات دلّ ذلك على أنهم فاسقون.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم: (6502). 
  2.  تفسير ابن أبي حاتم (6/ 1829). 
  3.  تفسير الطبري (19/ 144). 
  4.  معاني القرآن للفراء (1/ 368). 
  5.  مجموع الفتاوى (17/ 423).