قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم.فسبب نزول هذه الآية هو أن اليهود ذكروا أن جبريل - عليه الصلاة والسلام - عدو لهم كما نقل عليه الإجماع ابن جرير - رحمه الله تعالى -، والروايات الواردة في هذا كثيرة، وكثير منها لا يصح من جهة الإسناد، ولكن بعضها صحيح، وهذا الصحيح منه ما ليس بصريح في سبب النزول من جهة العبارة واللفظ يعني تجد مثلاً في الرواية: فقرأ رسول الله ﷺ: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ، وتجد في بعضها عبارات ليست بصريحة، وقد عرفنا في بعض المناسبات أن العبارة الصريحة في سبب النـزول هي أن يذكر حادثة أو سؤال ثم يقول: فأنزل الله الآية، فأنزل الله كذا، أو يصرح ويقول: سبب نزول هذه الآية كذا.
أما إذا قال: فقرأ رسول الله ﷺ أو فقال رسول الله ﷺ: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ مثلاً، أو نزلت هذه الآية في كذا، فإن هذا يحتمل أن يكون من قبيل سبب النـزول، ويحتمل أن يكون من قبيل التفسير، فالروايات الصحيحة منها ما ليس بصريح في أنه سبب نزول، ولكنك إذا تتبعت الروايات الواردة، وجمعتها؛ تجد فيها ما يصرح بذلك، ولذلك فالإنسان لا يستعجل في مثل هذه القضايا، ويقول: هذه الرواية ليست بصريحة؛ لأنك تجد في روايات أخرى أحياناً للحديث عبارة صريحة، فيكون ذلك إنما يرجع إلى نقل الرواة، وقد تجد في الحديث الواحد في أوله ما هو غير صريح، وفي آخر الحديث ما يصرح بأنه سبب النزول، وهذا موجود.
فالمقصود أن سبب نزول هذه الآية هو قول اليهود هذا، ولعل من أصح ما ورد فيه هو أن أولئك النفر من اليهود سألوا النبي ﷺ عن مسائل متعددة، فأجابهم ﷺ وهم يعلمون أنه لا يعرف الجواب إلا نبي، فأجابهم النبي ﷺ عن تلك المسائل، وبعد ذلك سألوه عمن يأتيه بالوحي؟ فلما أخبرهم أنه جبريل - عليه الصلاة والسلام - أخبروه بأن جبريل عدوُّهم، وكان ذلك في زعمهم سبباً لتكذيبهم وكفرهم، فأنزل الله حيث قالوا: لو كان ميكائيل لاتبعناك، فهم يقولون: إن جبريل ﷺ هو الذي يأتي بالعذاب، والقحط، وأن ميكال هو الذي يأتي بالخصب، والأرزاق، ومعروف إفكهم وكذبهم على الله ، وعلى رسله، وذلك ليس بمستبعد منهم، فهم من معادن الشر، والكفر كما هو معلوم.
وجاء في بعض الروايات أن عبد الله بن سلام لما قدم النبي ﷺ مهاجراً إلى المدينة أتاه فسأله عن مسائل، ثم سأله عن صاحبه، فأخبره أنه جبريل، فأخبر عبد الله بن سلام النبي ﷺ بأن جبريل عدو اليهود، وفي بعض الروايات أن ذلك أيضاً وقع لعمر لما دخل على بعض اليهود في مكان دراستهم، وعبادتهم، فسألهم عن النبي ﷺ، ثم بعد ذلك جرى بينهم محادثة، وأخبروه أن الذي يمنعهم من اتباعه - عليه الصلاة والسلام - أن جبريل هو الذي يأتيه بالوحي، فجاء ليخبر النبي ﷺ فوجد الوحي قد سبقه بقوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا [سورة البقرة:97].
هذه خلاصة لأشهر الروايات الواردة في هذا المعنى، وأصح ما جاء في ذلك هي رواية أولئك النفر الذين جاؤوا للنبي ﷺ فسألوه عن مسائل، فأخبرهم، فسألوه عن صاحبه فقال: إنه جبريل، فكان منهم ما كان.
قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [سورة البقرة:97] القاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وعلى هذا فَإِنَّهُ يعني جبريل ﷺ، ونَزَّلَهُ يعني نزل القرآن، وهل جرى للقرآن ذكر؟
لم يجر له ذكر، وهذا مثال على ما ذكرنا مراراً من عود الضمير إلى غير مذكور، لكنه يفهم من السياق، فالقرآن ما ذكر، فعاد الضمير إليه لأن هذا يفهم من السياق، وهذا أسلوب عربي معروف، وقد سبق ذكره مراراً.
ويكون معنى الآية وهو المتبادر قل من كان عدوا لجبريل فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، وأما ما قيل من أن المراد من كان عدواً لجبريل فإن الله نزله يعني جبريل على قلبك ففيه بعد، وفي الآية قرينة ترده وهي قوله - تبارك وتعالى -: مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة البقرة:97]، والمصدق لما بين يديه هو القرآن كما جاء وصفه في مواضع من كتاب الله .
إذن: يكون المعنى فَإِنَّهُ أي جبريل نَزَّلَهُ يعني القرآن، عَلَى قَلْبِكَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والله تعالى أعلم، وهذه طريقة في الترجيح بين الأقوال التي يذكرها المفسرون وهي أن يوجد في الآية قرينة تدل على رجحان قول، أو ضعف آخر، وهذا مثال عليها.
قال البخاري: قوله تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ قال عكرمة: جبر، وميك، وإسراف: عبد، و"إيل" الله.يعني أن جبر، وميك، وإسراف بمعنى العبد، يعني المقصود أن هذه الكلمات الأعجمية مركبة تركيباً إضافياً كما تقول: عبد الرحمن، عبد الله، عبد العزيز، فتكون جبر كلمة وإيل كلمة جبرائيل، إذا قلنا: إن اللفظة الثانية هي بمعنى الله - وهذا هو المشهور عند كثير من أهل العلم - فإن ذلك يجعلها ذات معنىً متساو، بمعنى أن جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وكل هؤلاء جميعاً بمعنى عبد الله، وهذا أمر فيه إشكال لأن هذه الألفاظ مختلفة، ولذلك فإن بعض أهل العلم عكس القضية فقال: اللفظ الموحد هو بمعنى عبد، واللفظ الموحد فيها كلها إيل، قالوا: إيل هو عبد، واللفظة الثانية اسم، كما تقول: عبد الجبار، عبد العزيز، عبد الرحمن، فتكون إيل عبد، وهذا ليس بمستغرب، وعللوا ذلك بأن الأسماء الأعجمية في الإضافة يكون المضاف فيها مؤخر يعني عكس ما عندنا، فالأسماء الأعجمية المركبة عندهم مثل: إسلام أباد، حيدر أباد، فيصل أباد، فما معنى أباد؟
كأنها بمعنى بلاد، فالأولى: بلاد الإسلام، والثانية بلاد فيصل، والثالثة بلاد حيدر وهكذا.
ومثل ذلك: كلمة (ستان) تركستان، باكستان، أوزبكستان؛ كأن كلمة ستان معناها أرض، وبالتالي فالمعنى، فبعض أهل العلم يقول: اللفظ الموحد الذي هو (إيل) هذا بمعنى عبد، وتلك أسماء لله بالأعجمية، ومثل ذلك إسرائيل قالوا: معناه عبد الله، والعلم عند الله .
وقوله تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [سورة البقرة:98] فيها لغات كثيرة، فجبرائيل فيه عشر لغات، وميكائيل يذكرون فيه ست لغات ولسنا بصدد ذكرها، ولا حاجة إلى ذلك في نظري، ومن شاء راجعها في بعض كتب التفسير فإنهم يذكرونها، فعلى كل حال ليس مقصودنا هو التوسع في ذكر شيء من ذلك، وإنما بيان وجه ما يذكره ابن كثير - رحمه الله -، والتعليق على ما يحتاج إلى تعليق.
ثم روى عن أنس بن مالك قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله ﷺ وهو في أرض يخترف.يخترف معناه يجني الثمر.
فأتى النبي ﷺ فقال: إني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً قال: جبريل؟ قال: نعم قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة[1] فقرأ هذه الآية: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [سورة البقرة:97].هذه الرواية غير صريحة حيث قال فيها: فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية، بمعنى أنها قد تكون نزلت قبل ذلك فقرأها النبي ﷺ عليه، فلو بقينا مع هذه الرواية فقط لم نحكم بحال من الأحوال أنها سبب النزول؛ لأنها غير صريحة، ولأنه يحتمل أن يكون ذلك قاله رسول ﷺ في هذه المناسبة وإن لم يكن نزل بسببها، ولكن إذا نظرنا إلى الروايات الأخرى نجد منها ما هو صريح في اللفظ بأنه سبب النـزول، ولذلك هذه الرواية ثابتة صحيحة ولكنها غير صريحة، ولذلك إذا أردنا أن نرجح ما هو سبب نزول الآية فإننا نستطيع أن نقول بإجمال: إنه ما وقع من اليهود من قولهم، وزعمهم بأن جبريل عدوهم، لكن إذا أردنا أن نرجح ما هو السبب المعين هل هو قول عبد الله بن سلام ، أو قول أولئك النفر من اليهود الذين سألهم النبي ﷺ، أو الذين حاورهم عمر مثلاً؟ فهنا نستعبد نوعين من هذه الروايات هما: أولاً الروايات الغير صريحة، فمثل هذه الرواية صحيحة لكنها غير صريحة، وبالتالي نستبعدها، ثم نستبعد الروايات الضعيفة، وعامة هذه الروايات ضعيفة، ففي مثل هذا المثال لا يكاد يبقى عندنا إلا رواية أولئك النفر الذين سألوا النبي ﷺ عن مسائل، ثم سألوه عن صاحبه، فأخبرهم أنه جبريل، فيكون ذلك هو السؤال، فربما كان أولئك قد جاؤوا للنبي ﷺ قبل عبد الله بن سلام، وإذا تعددت عندنا الروايات، وصارت صحيحة، والوقت متقارب أول مقدم النبي ﷺ من المدينة، فنقول عندئذ: إن ذلك وقع في وقت متقارب، فنـزلت الآية بعد هذه الأحداث جميعاً، فكلها سبب نزول.
قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.المقصود أشراط الساعة الكبرى التي تكون قبل قيام القيامة، وهذه هي النار التي تخرج من قعر عدن.
وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت.وأولئك النفر الذين سألوا النبي ﷺ سألهم النبي ﷺ حتى أقروا بأن ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، قال لهم: تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، وأقروا به، ففي تلك الرواية جاء ما يدل على أن الشبه أيضاً، والذكورة، والأنوثة؛ تقع بسبب هذه القضية، فيكون شبهه لأبيه إذا علا ماء الرجل ماء المرأة، ويكون المولود ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة لماء الرجل فإن الشبه يكون للأم، ويكون المولود أنثى بإذن الله، وهو يدل دلالة واضحة وصريحة على أن الإنسان يخلق من مجموع الماءين، وذلك أيضاً في قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ [سورة الإنسان:2] أي: أخلاط خلافاً لما يذكره أهل الطب من أن المرأة ليس لها ماء أصلاً، فهذا غير صحيح، والنبي ﷺ لما قيل له: أتحتلم المرأة؟ قال: فبم يشبهها الولد وقال: إذا رأت الماء لما سئل عن الغسل[2].
قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهوتني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله ﷺ: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قالوا: هو شرنا وابن شرنا، وانتقصوه فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله"[3] انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجه من وجه آخر عند أنس .وهذا مما أشبهتهم به بعض هذه الأمة، حيث وجد هذا حتى عند بعض من يتشبث بالعلم ويدعيه، فإذا وافقهم الإنسان صار علامة الزمان النحرير، وإذا خالفهم ولو في قضية اجتهادية صار هالكاً، وجاهلاً، ولا يفهم شيئاً، وما إلى ذلك من العبارات، بل لربما طعن حتى في عرضه، واتهم بكل رزية، ولا أدري هل كانت هذه الكبائر، والجرائم، والموبقات التي يرمى بها الصالح هل كانت موجودة من قبل، أم وجدت عند المخالفة فقط، فالمهم أن هذا الذي يفعله بنو إسرائيل، فينبغي للإنسان ألا يشابههم في هذا، بل يتقي الله ، وإذا أحب يقتصد في الحب، فلا داعي للألقاب التي يبالغ فيها كـ"علامة" ونحوها، وكذلك عليه إذا أبغض أن يقتصد في البغض، فلا داعي للعبارات أيضاً التي لا يحتاج إليها.
وهنا قاعدة في هذا، وهي أنك إذا رأيت الرجل يبالغ في الحب فلا تأمن أن ينقلب إلى الطرف الآخر تماماً، بل تحرى أن يكون هذا الشخص في يوم ما سينقلب مائة وثمانين درجة، وستسمع منه عكس ما كنت تسمعه من قبل، وهذا ينبئ عن خلل في طريقة تفكير الإنسان، واختلال في مزاحه، وأنه ليس معتدلاً في أموره، وإنما يعيش على المبالغات، فحياته على المبالغات، ولذلك نظره غير مستقيم، وغير متزن، وحكمه على الأشياء غير منضبط؛ لأن الذي يحركه نفس تطيش، ومثل هذا أحكامه لا تسلم سواء في قضايا الأحكام الفقهية ودراستها، أو في حكمه على الأشياء أو الناس أو غير ذلك.
ومن الناس من يقول: "إيل" عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله؛ لأن كلمة "إيل" لا تتغير في الجميع، فوزانه عبد الله، عبد الرحمن، عبد الملك، عبد القدوس، عبد السلام، عبد الكافي، عبد الجليل، فعبد موجودة في هذا كله، واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل، وميكائيل، وعزرائيل، وإسرافيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف، والله أعلم.الذي دعا أصحاب القول الأول - وهو المشهور - أن إيل بمعنى الله أنهم وجدوا في كلام العرب في قوله تعالى: لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [سورة التوبة:8] أن الإل هو الله، ويطلق ذلك أيضاً في كلام العرب على العهد، وكذلك قول أبي بكر الصديق لما جاءه وفد مسليمة فقال: "اقرؤوا عليَّ ما يقوله صاحبكم" فقرؤوا عليه بعض الخزعبلات: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، فاللاقمات لقماً، وغير ذلك من الترهات، فقال: "أشهد أن هذا لم يخرج من إل" بمعنى من رب، لكن يمكن أن يقال بأن إيل غير الإل، وهذا لو قلنا: إنها غير معكوسة، بمعنى أن جبرا، وميكا ليست بمعنى عبد، وإنما عبد هي إيل هذه في اللغة الأعجمية، لكن في اللغة العربية الإل هو الرب، ويطلق ذلك أيضاًَ على العهد.
فإذا فككنا الارتباط وهذا أمر لا إشكال فيه؛ لأن هذه اللغة أعجمية، وهذه لغة عربية، فصار التشابه في اللفظ، فنقول: هي تقال في لغة العرب كذا، وأما في اللغة الأعجمية فإن ذلك لا تعلق له بكلام العرب، فهذه الأسماء أعجمية جبرائيل، وميكائيل، ولا إشكال عندئذ.
وأما تفسير الآية فقوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:97] أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي.فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ خص القلب؛ لأنه محل العلم، والعقل، وهذه الأمة أناجيلها في صدورها، فهذا لا إشكال فيه.
بِإِذْنِ اللّهِ أي بإذن الله له في ذلك، وسيأتي الكلام عن الإذن في قوله تعالى: وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [سورة البقرة:102] فهنا بمعنى بإذن الله أي بإرادته، وتسهيله، وتيسيره.
ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضًٍ [سورة النساء:150] الآيتين، فحكم عليهم بالكفر المحقق إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله؛ لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم:64]، وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ [سورة الشعراء:192-194].
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب[4] ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه، فقال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة البقرة:97] أي من الكتب المتقدمة.
وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:97] أي هدى لقلوبهم، وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء [سورة فصلت:44] الآية، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82] الآية.
- سيأتي تخريجه.
- أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب: التبسم والضحك (5740) (ج 5 / ص 2260) ومسلم في كتاب: الحيض - باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها (313) (ج 1 / ص 251).
- أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة - باب كيف آخى النبي ﷺ بين أصحابه (3723) (ج 1 / ص 1433).
- أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق - باب: التواضع (6137) (ج 5 / ص 2384) إلا أن لفظه: آذنته بالحرب وأما لفظ: بارزني فأخرجه البيهقي (ج 3 / ص 346).