الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَٰفِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي مجالس في تدبر القرآن الكريم
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:98]، يقول تعالى: من عاداني، وملائكتي، ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [سورة الحج:75] وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل.جبريل، وميكال؛ هما من الملائكة لكنهما من أفضل الملائكة، ومن ثَمَّ جاء هذا العطف، عطف الخاص على العام، كما قال الله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [سورة البقرة:238] مع أنها من جملة الصلوات، لكن لشرفها، وأهميتها عطفها عليها، فعطف العام على الخاص يكون لنكتة كالدلالة على شرفه لأهميته، ومنزلته.
فجبريل وميكال هما من الملائكة لكن لشرفهما ومنزلتهما عند الله تنزيلاً للتغاير الوصفي، منزلة التغاير الذاتي، فهما من جملة الملائكة فعطفهما على الملائكة كأنهما من غير الملائكة، لكن كان ذلك العطف لتغاير الأوصاف، فجبريل، وميكال من أشرف الملائكة، فنزل ذلك منزلة التغاير الذاتي، بمعنى كأنهما جنس آخر كما تقول مثلاً: جاء الرجال والكتب فهذا تغاير ذاتي وليس تغايراً وصفياً، لكن إذا قلت: جاء الرجال وزيد، فزيد من الرجال، لكنك خصصته لمعنى ولسبب من الأسباب بحسب المقام، أو كونه ما يتوقع أنه يأتي مثلاً، أو يتوقع تأخره، أو لأهمية مجيئه، أو غير ذلك من الأسباب، المقصود لوصف أو لمعنى قام به، فخص بذلك، لكن على كل حال المراد أن جبريل، وميكال - عليهما الصلاة والسلام - هما قطعاً من جملة الملائكة بالاتفاق، لكن ذلك من باب عطف الخاص على العام لمعنى في هذا الخاص تشريفاً له، وأحياناً يكون العكس، أي يذكر شيء خاص، ثم يذكر بعده العام؛ لقصد التعميم.
ثم خصص بالذكر؛ لأن السياق في الانتصار لجبرائيل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليُّهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر، وعادى الله أيضاً، ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله ﷺ كان إذا قام من الليل يقول: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[1].بمعنى أن مكانة هؤلاء الملائكة الثلاثة ترتبط بها حياة البشر، فجبرائيل موكل بالوحي، وهو الروح والحياة الحقيقية التي إذا فقدها الإنسان صار فاقداً لإنسانيته، وكرامته، وصار بمنزلة الحيوان البهيم، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا [سورة الشورى:52]، فمن دخل في قلبه هذه النفخة كانت له الحياة الأساسية المهمة الكبرى.
وميكائيل موكل بالأرزاق التي لا قوام للأبدان إلا بها، فالأول لا قوام للأرواح إلا بها - أي الوحي -، والثانية لا قوام للأبدان إلا بها، والثالث إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور الذي يكون به قيام الأجساد، وعودة الأرواح إليها، والبعث، والنشور، فهؤلاء تعلقت بهم هذه الأنواع الثلاثة من الحياة، فذكرهم النبي - عليه الصلاة والسلام -: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل.. وارجع إلى كلام ابن القيم - رحمه الله - في وجه ذكر هؤلاء الملائكة الثلاثة على وجه التخصيص في مثل هذا الدعاء ذكر كلاماً مفيداً للغاية.
وقوله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:98] فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل: فإنه عدو للكافرين، بل قال: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ وإنما أظهر الله هذا الاسم ها هنا لتقرير هذا المعنى، وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا، والآخرة، كما تقدم الحديث: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة[2].قوله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ يقول: وإنما أظهر الله هذا الاسم ها هنا لتقرير هذا المعنى، وإظهاره: يقصد بالاسم لفظ الجلالة فَإِنَّ اللّهَ أي: إنه لم يقل: فإنه عدو للكافرين، وسبق الإشارة إلى أن الإظهار في موضع الإضمار يكون لنكتة، أو لمعنى، فتارة يكون لتربية المهابة بحسب المقام، وهنا يذكر شيئان:
الأول: أن قوله: فَإِنَّ اللّهَ يقال: أظهر في موضع الإضمار لرفع الالتباس؛ لأنه لو قال: فإنه عدو للكافرين كان سيلتبس بآخر مذكور من قوله: مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فالأصل أن الضمير يرجع إلى آخر مذكور، وآخر مذكور هو ميكال، ويحتمل أن يكون جبريل؛ لأنه هو سبب النزول، ويحتمل أن يرجع إلى الله ، ومع أن الأصل أن تذكر الضمائر اختصاراً في كلام العرب عن ذكر ما هي كناية عنه؛ إلا أن الإظهار هنا كان مزيلاً للالتباس الذي كان سيقع لو أضمر، والله أعلم.
فما قال فإنه عدو للكافرين بل قال: فَإِنَّ اللّهَ فأظهر في موضع الإضمار لرفع الالتباس هنا، لكن الكلام الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - يصلح  بدلاً من الكافرين، فلو قال: من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو لهم، أي هؤلاء المعادين لجبريل وميكال إلى آخره، و"من" للعموم تصدق على الواحد والجماعة، أي: أيَّاً كان عدواً لهؤلاء الملائكة فإن الله عدو لهم.
فالمقصود أن هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير يتعلق بذلك الموضع لا في هذا الموضع، والفرق بينهما واضح، ولذلك فهناك صرح وقال: عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ولم يقل: عدو لهم من أجل أن يبين أن عداوة جبريل ﷺ كفر بالله ، فهؤلاء ما قالوا: إنهم يكفرون بالله بل هم يدعون الإيمان بالله، لكنهم قالوا: إنهم يعادون جبريل، فلو قال: فإن الله عدو لهم بمعاداتهم جبريل لم يحصل به هذا المقصود صراحة، لكن لما قال: فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ كان ذلك تصريحاً بأن عداوة جبريل - عليه الصلاة والسلام - كفر، وهذا الذي لربما مشى عليه جميع أهل العلم، فلا أعلم أحداً قال بأن قوله فإنه هنا أظهر في موضع الإضمار لما ذكره الحافظ ابن كثير، فلربما كان وقع ذلك من تصرف أحد في النسخة، أو الذهول، أو النسيان، فالإنسان يكتب أحياناً ويصيبه شيء من الوهم، والنسيان، وإلا فمثل هذا المعنى لا يخفى على الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -، والله تعالى أعلم.
  1. أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (770) (ج 1 / ص 534).
  2. سبق تخريجه.

مرات الإستماع: 0

"وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ذكرا بعد الملائكة تجريدًا للتشريف، والتعظيم."

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ الملائكة هنا جمع مضاف إلى الضمير، فهو يفيد العموم: جميع الملائكة، ويدخل فيهم جبريل وميكال - عليهما السلام - فذكر الخاص بعد العام يعني ذكر جبريل، وميكال بعد الملائكة، وهم داخلون في جملة الملائكة من باب التجريد، والتجريد عند البلاغيين يطلق على إطلاقات، يطلق على أمور منها ما يناسب هذا المقام، أنهم يطلقونه على إطلاق، أو على عطف الخاص على العام يسمونه تجريد كأن الخاص قد جُرد عن العام، يعني ذكر الخاص بعد العام حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] كأن الخاص جُرد عن العام، فيسمونه بالتجريد.

يقول: ذُكرا بعد الملائكة تجريدًا للتشريف، والتعظيم، أو للاعتناء بشأنهم؛ لأن الآية إنما نزلت بسببهما؛ لأنهم قالوا: بأن جبريل  عدوهم. وقالوا: لو كان ميكائيل - ميكائيل فيه ست لغات، وجبريل فيه عشر لغات -  لآمنا، أما جبريل فهو عدونا.

فذكروا جبريل، وميكال فالآية نزلت بسبب ذلك مقالتهم في جبريل، وميكال - عليهما السلام - فذكرهما بعد عموم الملائكة؛ دفعًا لإشكال أن الموجب للكفر هو عداوة جميع الملائكة، فنبه كأنه بهذا الاعتبار على أن عداوة الواحد من الملائكة هي عداوة للجميع مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ هم قالوا: عدونا جبريل.

فقال: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فمن عادى واحدًا منهم فقد عادى الجميع، ومن عاد ملكاً من الملائكة فقد عاد الله؛ لأن الله هو الذي اختاره، واصطفاه. 

مرات الإستماع: 0

يقول الله -تبارك وتعالى- في جملة ما ذكره في خبر بني إسرائيل وما رد عليهم به وطالبهم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:97] قل لهم يا رسول الله حين قالوا: بأن جبريل هو عدوهم من الملائكة، وذلك أنهم سألوا النبي ﷺ عمن يأتيه بالوحي؟ فلما أخبرهم أنه جبريل، ذكروا أنه عدوهم، فأنزل الله هذه الآية: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فإنه نزل القرآن على قلبك بإذن الله مصدقًا لما سبقه من الكتب لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: ما مضى من الكتب وتقدمه، وهاديًا إلى الحق ومبشرًا للمؤمنين بكل ما يسرهم في الدنيا والآخرة.

يؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ إنزال القرآن على قلب النبي ﷺ يدل على أنه قد وعاه -عليه الصلاة والسلام- وعيًا تامًا نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وجاء بـ(إن) الدالة على التوكيد ليؤكد هذا الخبر، فلا يتطرق شك إلى القرآن، فقد وعاه قلب رسول الله ﷺ فإن ما كان واصلاً إلى القلب نافذًا فيه، فإنه يكون في حرز منيع.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ نزل ماذا؟ نزل القرآن، والقرآن لم يسبق له ذكر، ومع ذلك جاء مكنىً عنه بالضمير، وهذا لأنه كالمعلوم فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ فهذا فيه إشعار بفخامته فَإِنَّهُ ما قال: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، وإنما قال: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ يعني نزل القرآن، فأضمر في موضع الإظهار، والإضمار في موضع الإظهار، يعني المكان الذي يتوقع فيه أن يؤتى بالاسم ظاهرًا، فجاء بالضمير هذا يكون لمعنىً في البلاغة فيمكن أن يفهم من هذا والله تعالى أعلم: بيان فخامة القرآن، وكذلك الضمير العائد إلى جبريل، ما قال: فإن جبريل نزله على قلبك، وإنما قال: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ مع أن قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ جبريل مذكور قبله، فأعاد الضمير إلى مذكور هنا، لكن هنا يمكن أن يقول أن يظهره فيقول: قل من كان عدوًا لجبريل فإن جبريل قد نزله على قلبك، فجاء بالضمير هنا، وذلك أيضًا أبلغ في تفخيم أمر جبريل فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ مثل هذه القضايا يكون تذوقها بحسب ما يكون لدى الإنسان من الذوق البلاغي.

ثم كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ خص القلب هنا؛ لأنه موضع العقل والعلم، فإن هذه القلوب أوعية بها يوعى العلم، ولا يقال: بأن ذلك يكون في الدماغ، وإنما العقل في القلب كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وجبريل نزل بالوحي على قلب النبي ﷺ وليس على دماغه، ولكن كما قال بعض أهل العلم بأن العقل في القلب وله اتصال في الدماغ؛ لأن ما يؤثر على الدماغ يؤثر على العقل كما هو مشاهد، لكن القلب هو مبعث الإرادات ومستقر الإيمان، وهو وعاء العلم والإدراك والمعرفة والمحبة والكراهية، وما إلى ذلك من المعاني والأعمال القلبية.

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: القرآن هو مصدق للكتب أنها من عند الله، وكذلك أيضًا هو مصدق لما في مضامينها من دعائها إلى الإيمان، وما ذكر فيها من أصول الإيمان، وهو مصدق لها أيضًا باعتبار أنه جاء كما وصفت، كالوصف الذي جاء في تلك الكتب فهو مصدق لها، مصدق لما بين يديه من هذه الكتب.

وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين هدى ما قال: وهاديًا ومبشرًا، فجاء بالمصدر وَهُدًى ولم يأتِ باسم الفاعل (هاديًا) وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين في الموضعين، فهذا على سبيل المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى جعل نفس الهدى والبشرى، وحصل بهذا القرآن الهدى والبشرى، فيه آيات تبشر المؤمنين، وفيه الهدايات المتنوعة، فلما كان متضمنًا لذلك جعل كأنه هو نفس البشرى وكأنه نفس الهدى، هو هدى وهو بشرى، أو على حذف مضاف أي: ذا هدى وذا بشرى، والأصل عدم التقدير.

ولاحظ أنه قدم الهدى على البشرى وَهُدًى وَبُشْرَى لأن الهدى متقدمة، إنما تكون البشرى لمن حصل الهدى واتصف به وتحقق به وَهُدًى وَبُشْرَى فذلك لا يكون إلا للمؤمنين المهتدين أعني البشرى.

ثم خاطبهم فقال: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:98] من عادى الله وملائكته ورسله من الملائكة، أو البشر لاسيما هؤلاء الكبار من الملائكة -عليهم السلام: جبريل وميكال، حيث إن هؤلاء اليهود عادوا جبريل وقالوا: بأن ميكال هو وليهم، فأعلمهم الله -تبارك وتعالى- أن من عادى أحدًا من هؤلاء الملائكة الكرام فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين الكافرين به أو برسله أو بملائكته، الكافرين بكتبه، ومنها هذا القرآن، فإن من عادى وليًا لله -تبارك وتعالى- فقد عادى الله، وهؤلاء يعادون جبريل ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة.

إذا كان معاداة أولياء الله من غير الرسل ومن غير الملائكة من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب... الله كما في الحديث القدسي يذكر أنه ما تقرب إليه العبد بشيء أحب إليه مما افترضه عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه [1].

ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فهذا الذي أحبه الله -تبارك وتعالى- يكون وليًا له أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس:62] من هم؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [سورة يونس:63] فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم في الحديث القدسي: من عادى لي وليًا فقد آذنته يعني: أعلنته أعلمته بالحرب، وإذا أعلم الله عبدًا بالحرب فما حاله وما مآله؟ نحن كما الإمام أحمد - رحمه الله: "نعيش في ستر الله ".

نحن ضعفاء مساكين، يتبين لنا ضعفنا صباح مساء في أشياء كثيرة، يتبين لنا عجزنا وفقرنا إلى الله وإلى ألطافه وما نحن من غير ذلك؟ واللهِ لا شيء، فإذا آذن الله عبدًا بالحرب فإلى أي شيء يصير؟ فهذه قضية توجب الحذر، فيحذر الإنسان أن يعادي أولياء الله -تبارك وتعالى- سواء كان هؤلاء من الملائكة الكرام، أو من الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أو كان هؤلاء من أهل الإيمان، والإنسان لا يدري فرب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، ليست قيمة الإنسان بكثرة أمواله، ولا بفخامة داره أو مركبه، وليس ذلك برتبته، وإنما ذلك بإيمانه وتقواه، وهي قضية إنما يطلع عليها الله .

يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [سورة يوسف:20] هذا قدره عندهم، لكن قدره عند الله يختلف عن هذا تمامًا، فالمعيار والمقياس ليس بأرصدتنا وأموالنا، وليس ببزتنا وثيابنا، وليس ذلك بشيء مما يتكاثر به الناس غير الإيمان والعمل الصالح، التقوى لله -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ لاحظ جاء بالاسم الكريم، ابتدأ باسمه، اليهود عادوا جبريل كما زعموا فابتدأ بذكر اسمه الكريم ظاهرًا مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ فهذا تفخيم لشأن هؤلاء الملائكة الكرام والرسل العظام -عليهم السلام- ففيه إيذان بأن عداوتهم إنما هي عداوة لله هي القضية هكذا، ولذلك انظروا إلى الذين استهزأوا بالقراء في غزوة تبوك حينما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، القراء في ذلك الوقت يطلق على طلبة العلم، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا وأجبن عند اللقاء، ماذا نزل؟ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ [سورة التوبة:65][2].

كنا نمزح، نقطع الطريق الطويل طريق تبوك نمزح، فيذكرون ذلك على سبيل التندر والمزاح في زعمهم، انظر إلى الرد قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [سورة التوبة:65، 66] لاحظ هؤلاء قالوا تكلموا في القرآن، فجاءت الآية أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ فالأمر خطير، وما الذي يحمل العبد ليكون في شق يستهزئ ويسخر من أهل الإيمان، ومن أهل العلم، ومن أهل الصلاح والتقوى، ومن عمار المساجد، ومن أهل البذل والإنفاق والصلاح والإصلاح، لماذا يجعل نفسه دائمًا في هذه الكفة فيوجه إليهم سهامه نقدًا، وقدحًا، وعيبًا، وتجريحًا، وتشكيكًا ولمزًا وغمزًا؟ ما حاجة الإنسان لمثل هذا؟

هو الذي يخسر، هم لا يخسرون شيئًا؛ لأنه كما قال الله في سورة النور: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [سورة النور:26] فهذا الذي قاله الله فسره كبير المفسرين ابن جرير بأن الخبيثات من القول للخبيثين من الناس، فإذا قيلت بهم فهي تصدق عليهم، وإذا صدرت عنهم صدرت منهم، يعني فهم مظنتها وأهلها، الشيء لا يستغرب من معدنه، وإذا وجهت إلى غيرهم من أهل الصلاح ما ضرتهم. هذا كلام ابن جرير[3] قال: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [سورة النور:26] فحمله على الكلمات وهو يشمل الكلمات والأوصاف والذوات في الواقع، والله أعلم.

على كل حال، على العبد أن ينظر في موضع قدميه، وفيما يصدر عنه، فهؤلاء اليهود عادوا جبريل فجاءت الآية: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وجاء بجميع الملائكة مَلائِكَتِهِ؛ لأن ملائكة جمع مضاف إلى معرفة، وهذا يفيد العموم كل الملائكة وَرُسُلِهِ وهذا يفيد العموم يعني جميع الرسل، فهذا يدل على أن من عادى واحدًا من هؤلاء الرسل الكرام أو الملائكة العظام -عليهم الصلاة والسلام- فهو معادٍ لله وهو معادٍ لجميع الملائكة ولجميع الرسل.

وقدم الملائكة هنا على الرسل كما قدم ذكر اسمه الكريم على الجميع؛ لأن اسمه لا يتقدمه شيء، وعداوة الرسل وعداوة الملائكة تكون عداوة لله لأن الله هو الذي أرسل هؤلاء الملائكة، وهو الذي أرسل هؤلاء الرسل.

وأخر الرسل بعد ال ملائكة باعتبار أن الملائكة هم الذين يأتون إلى الرسل من البشر بالوحي، فإن الرسول البشري يأتيه الرسول الملائكي، فهؤلاء عادوا رسول الله ﷺ وردوا دعوته بحجة أن الرسول الملائكي الذي يأتيه بالوحي هو جبريل يقولون له: من صاحبك؟ وكأنه يأتي إلى أنبيائهم بالوحي غير جبريل الواقع أن جبريل هو الموكل بالوحي، فالذي كان يأتي إلى موسى وعيسى وسائر الأنبياء الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه- هو جبريل فعليهم إذًا أن يكفروا بكل أنبيائهم وبكل كتبهم ورسالاتهم.

وتأمل قوله -تبارك وتعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ الملائكة تشمل جبريل وميكال -عليهما السلام- لكنه خصهما بالذكر لعظمهما عند الله، لتشريفهما، فإن ذكر الخاص بعد العام يدل على شرفه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى -والله أعلم- أن هؤلاء اليهود تكلموا في هذين الاثنين من الملائكة، فزعموا أن جبريل هو عدوهم، يعني: هو الذي يأتي بالعذاب، وأن ميكال هو وليهم؛ لأنه الموكل بالأرزاق، فقال الله مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فالذي يعادي جبريل يعادي ميكال -عليهما السلام- والذي يعادي جبريل أو ميكال أو يعاديهما فالواقع أنه معادٍ لجميع الملائكة الكرام -عليهم صلوات الله وسلامه- وهذا معروف عند أهل البلاغة، يسمونه التجريد، أو عطف الخاص على العام، فإذا ذكر الخاص بعد العام يدل على مزية، على منزلة على مكانة، ولهذا تجد أن الله يذكر بعض العبادات حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [سورة البقرة:238] فالصلوات تشمل الصلاة الوسطى التي هي على الأرجح صلاة العصر، ولكنه خصها بالذكر لأهميتها لشرفها لعظمها.

وهكذا أيضًا يمكن أن يقال غير ذلك من الأوجه البلاغية، وكذلك أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين فهنا وضع الظاهر في موضع المضمر في موضعين فَإِنَّ اللَّهَ ما قال: فإنه عدو لهم، وإنما قال: لِلْكَافِرِين فأظهر ذلك فَإِنَّ اللَّهَ ما قال: فإني عدو للكافرين؛ من أجل أن ذلك فيه تربية على المهابة، فهذا يحمل العباد على الخوف والامتثال لأمره -تبارك وتعالى.

وكذلك في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين ما قال: عدو لهم، للدلالة على أنه تعالى عاداهم بسبب كفرهم، وليشمل هؤلاء اليهود ويشمل غيرهم، يعني: ليست عداوته -تبارك وتعالى- لليهود خاصة، أو للذين قالوا: بأن جبريل هو عدوهم، وإنما هو عدو للكافرين لكل الكافرين، فيشمل من وقع في هذا النوع من الكفر، ويشمل غيره، وأيضًا للدلالة على أن عداوة الملائكة والرسل كفر، يعني هنا يبين العلة لماذا عاداهم؟ لأنهم وقعوا في الكفر، وأن هذا الفعل من عداوة الرسل والملائكة أيضًا أنه كفر، وليشمل كل كافر، يعني إفادة التعميم، والله تعالى أعلم. 

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد ما ذكر عداوته لمن عادى ملائكته ورسله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [سورة البقرة:97، 98] قال بعده: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] قد أنزلنا إليك أيها الرسول آيات بينات واضحات، لا تترك في الحق لبسًا، تدل على صدق ما جئت به، وفيها من البراهين والدلائل ما يكفي لكل ذي إنصاف أن يؤمن بها، بل هذه الآيات المتلوة التي أنزلها الله على رسوله ﷺ جاءت بقوالب لفظية في غاية البلاغة والفصاحة، فهي معجزة في فصاحتها وبلاغتها وبيانها، فلا يكفر بها بعد ذلك إلا الفاسقون، الخارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى- والخارجون عن الإيمان به، فهؤلاء لو جاءتهم كل آية فإنهم لا ينتفعون بذلك.

وتأمّل بقوله -تبارك وتعالى- هنا: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ بعد قوله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ۝ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ فجاء بأسلوب الغائب مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّه  ولم يقل: فإني، وإنما قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ثم تحول الخطاب إلى المخاطب، فقال: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ولم يقل: ولقد أنزل الله إليك، وإنما جاء بأسلوب المتكلم بعد أن كان بأسلوب الغائب فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ فلم يقل: فإني، إلى أن قال بعده: وَلَقَد أَنْزَلْنَا فجاء بضمير المتكلم، فهذا التفات من الغَيبة إلى ضمير المتكلم، وكذلك أيضًا وجه الخطاب فيه إلى النبي ﷺ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فهذا يشعر بالقرب، وفيه تسلية للنبي ﷺ بعد تكذيب هؤلاء اليهود، فكأنه يقول: لا تكترث ولا تلتفت إليهم، فهذا ديدنهم، وهذه عادتهم، ومن ثم فإن الله -تبارك وتعالى- هو وليك، وهو الذي يؤيدك، وهو الذي أوحى بذلك إليك وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ وفيه إثبات علو الله على خلقه؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل.

وفيه أيضًا إثبات إنزال القرآن، فإن عقيدة السنة والجماعة أن القرآن منزل من الله، سمعه جبريل من الله مباشرة بلا واسطة، ويدل على هذا حديث تكلم الله بالوحي، فهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، خلافًا لبعض أهل البدع الذين يقولون: بأن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، أو من يقولون: بأن جبريل أخذه من بيت العزة في سماء الدنيا، هذا كله غير صحيح؛ لأن هؤلاء لا يثبتون أن الله يتكلم كما شاء متى شاء على ما يليق بجلاله وعظمته، فهذا مبني على اعتقادهم الفاسد.

وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ والتنكير في قوله: آيَاتٍ يدل على التعظيم، فهي كلام الله -تبارك وتعالى- وهي مشتملة على الهدى الكامل من كل وجه، فهي دلائل وبراهين، فإن الآية تدل على معنى العلامة إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [سورة البقرة:248] يعني علامة ملكه، فهذه الآيات تدل على صدق من جاء بها، وأنه جاء بها من الله وليس ذلك بمختلقات من قبل نفسه.

ثم تأمّل وصف هذه الآيات بالبينات، فالقرآن في غاية الوضوح، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [سورة القمر:17] يعني للتذكر فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [سورة القمر:17] فهذا التيسير يشمل تيسير الألفاظ، فهو ميسر في حفظه، وكذلك ميسر في تلاوته، ويشمل أيضًا تيسير المعاني، فالله خاطب العرب بما يفقهون وما يفهمون، فلا يوجد فيه أحاجي وطلسمات، وأمور غامضة لا تفهم، ولا يعرف أحد معناها، كما يقول بعضهم: بأن القرآن فيه ما لا يعرف أحد معناه إلا الله، يعني لا الرسول ﷺ ولا غير الرسول -عليه الصلاة والسلام- فهذا غلط، فإن الله لا يمكن أن يخاطب الأمة إلا بما تفهم، وهذا هو الغرض من إنزاله، كما قال الله -تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [سورة ص:29].

فهذا التدبر لا يمكن أن يتحقق إذا خوطبوا بشيء لا يفقهونه، ولا يدخل تحت مداركهم، فهذه الآيات وصفها الله بالبينات، فهي بينة في نفسها، وهي أيضًا مبينة للحق، فإن أصل هذه المادة (بان) و(أبان) تأتي متعدية، وتأتي لازمة، أبان الحق أي أوضحه، وتأتي بمعنى بان أي ظهر واتضح، قد تكلمنا في الأسبوع الماضي في الكلام على أسماء الله الحسنى عن اسم الله المبين، وذكرنا هذين المعنيين هناك، فما بقي بعد هذا الإيضاح والبيان إلا العناد لمن لم يدخل في الإيمان.

لكن الحروف المقطعة على الأرجح ليس لها معنى في نفسها، فهي ليست بكلام مركب، وإنما هي حروف تهجي، وحروف التهجي عند العرب لا معنى لها في نفسها، وإنما تشير إلى الإعجاز، كما يقوله الفراء[4] وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[5] وجمع من أهل العلم: أنها تشير إلى معنى الإعجاز؛ ولذلك لا تكاد تذكر إلا ويذكر بعدها القرآن، أو ما يقتضي ذلك، في ثلاث سور خاصة، باقي المواضع يذكر بعدها القرآن الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة البقرة:1، 2] الم ۝ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۝ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [سورة آل عمران:1- 3] وهكذا في جميع المواضع إلا في ثلاث سور ذكر ما يقتضي ذلك ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [سورة مريم:2] والقرآن رحمة، وهكذا.

وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] فهذا يدل على أن الذين بلغهم القرآن، وفهموا عن الله -تبارك وتعالى- خطابه فيه، ثم بعد ذلك هم يكفرون أن هؤلاء إنما حملهم على ذلك العناد، والخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- فصاروا مختارين للكفر على الإيمان، مشترين الضلالة، مستعيضين بها بدلاً من الهدى والحق.

فهذه الآيات وهذا القرآن هو في نفسه حجة، وهو في نفسه معجز، فإذا عرض على الناس، وقرئ عليهم، ثم بعد ذلك وجدت المكابرة والعناد، ولم يقع منهم الإيمان، فإن ذلك إنما هو بسبب عتوهم وعنادهم، لا يكفر بها من كان خاضعًا مؤمنًا مستجيبًا طالبًا للحق، وإنما من كان معاندًا فإنه يكفر بها.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء اليهود بعد أن بيّن وأشار في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها أنهم فاسقون: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [سورة البقرة:99] إذن فهؤلاء حينما لم يؤمنوا بهذه الآيات دلّ ذلك على أنهم فاسقون.

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم: (6502). 
  2.  تفسير ابن أبي حاتم (6/ 1829). 
  3.  تفسير الطبري (19/ 144). 
  4.  معاني القرآن للفراء (1/ 368). 
  5.  مجموع الفتاوى (17/ 423).