يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [سورة طه:109-112].
يقول تعالى: يَوْمَئِذٍ، أي: يوم القيامة، لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ، أي: عنده، إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً، كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255]، وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [سورة النجم:26]، وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [سورة الأنبياء:28]، وقال: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سورة سبأ:23]، وقال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً [سورة النبأ:38]، وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله ﷺ وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلائق على الله أنه قال: آتي تحت العرش، وأخر لله ساجداً، ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة ثم أعود، فذكر أربع مرات[1]، - صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء -، وفي الحديث أيضاً: يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان[2]الحديث.
وقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، أي: يحيط علماً بالخلائق كلهم وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، كقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255]، وقوله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ قال ابن عباس - ا - وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به.
قوله - تبارك وتعالى -: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، ما بين أيديهم مما يستقبل من أمر الساعة، وما خلفهم ما تركوه ورائهم من أمر الدنيا، والكلام على قوله تعالى: لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا [سورة مريم:64]، وهناك من قال من أهل العلم أقوالاً غير هذا أيضاً، بعضهم يقول: ما بقي من الدنيا، وبعضهم يقول: البرزخ، لكن الفرق بين المقامين أن هذا قاله الله في الآخرة، وذاك في الدنيا، ويَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ يعني من أمر الدنيا والآخرة، أي يحيط علماً بالخلائق كلهم، بعضهم يقول: إن المراد بقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الضمير يرجع إلى الذين يتبعون الداعي، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا، يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ ثم قال: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ قال: "أي يحيط علماً بالخلائق كلهم"، وبعضهم يقول بأن الضمير يرجع إلى الملائكة، وهذا بعيد، قال: "وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، كقوله: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء"، وقال بعضهم قوله: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ مع قوله هنا: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، قيل: الضمير يرجع إلى الله - تبارك وتعالى -، وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ، أي: بالله، بذاته، وأسمائه وصفاته، والقول الآخر: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ أن الضمير يرجع إلى ما سبق من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، أي: بعلم ذلك، أو: ولا يحيطون بذلك علماً، فهذان قولان، وبين هذين القولين ملازمة، فإذا كانوا لا يحيطون بعلم ما بين أيديهم وما خلفهم فإن كونهم لا يحيطون بالله - تبارك وتعالى - وذاته وأسمائه وصفاته وعلمه من باب أولى، وإذا كان الضمير يرجع إلى الله - تبارك وتعالى - لا يحيطون به ولا بذاته ولا بأسمائه ولا علمه فإن ذلك يتضمن علم ما بين أيديهم وما خلفهم؛ لأنه بعض من علم الله --، فمثل هذا لا يحتاج معه إلى ترجيح.
ظاهر كلام ابن كثير هو الذي ذهب إليه كثير من المفسرين، أن المقصود بالظلم هو الظلم الأكبر الذي هو الإشراك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وقوله - تبارك وتعالى -: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، فسرها النبي ﷺ بالشرك بآية لقمان، وبعض أهل العلم رأى أن الخيبة هنا بمعنى الخسارة المحققة وأن هذه الخسارة المحققة إنما تكون للكافرين، فتكون لهم النار، ولذلك حملوها على الإشراك وأنه الظلم الأعظم، وبعض أهل العلم يقول: إن الآية على ظاهرها وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً فالظلم يقع على الإشراك ويقع على ما دونه، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فعلى قدر ما يكون له من الظلم يقع له من الخيبة.
- رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص:75]، برقم (6975)، عن أنس بلفظ قال فيه: ((فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها ربي، ثم أشفع، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود))، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (193).
- رواه الترمذي، كتاب صفة جهنم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن للنار نفسين وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد، برقم (2593)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند برقم (12772)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وبرقم (13928)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والطبراني في المعجم الأوسط واللفظ له برقم (3976)، كلهم من حديث أنس ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3645).
- انظر: مسند الشاميين، لأبي القاسم الطبراني برقم (156).
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2578)، من حديث جابر بن عبد الله -ا.