الخميس 22 / ذو الحجة / 1446 - 19 / يونيو 2025
وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُۥ عَزْمًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المؤلف - رحمنا الله وإياه -: قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ۝ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدم فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ ۝ فَقُلْنَا يَآدَمُ إِنّ هَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ ۝ إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ ۝ وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ ۝ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ ۝ فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَعَصَىَ ادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ ۝ ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ [سورة طه:115-122]، روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان؛ لأنه عهد إليه فنسي، وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه، وقال مجاهد والحسن: تَرَك.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، ذكر هذا بعدما ذكر تكذيب المكذبين بالقرآن والوحي، ومجادلة أو مكابرة المشركين في ذلك كله، فقال - تبارك وتعالى - بعده: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ، وقال بعض أهل العلم: إن العصيان الذي يقع من بني آدم قد وقع لأبيهم، وذلك وجه المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها، ومنهم من يقول غير ذلك، لكن المراد بقوله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ أن الله - تبارك وتعالى - نهاه عن أكل الشجرة، وعهد إليه بذلك فنسي، وهذا النسيان يحتمل معنيين - وهما المعنيان اللذان تأتي لهما هذه المفردة - فيحتمل أن يأتي بمعنى الذهول عن المعلوم، ويحتمل أن يأتي بمعنى الترك، وإذا أضيف ذلك إلى الله فهو دائماً بمعنى الترك، إذا كان ذلك مثبتاً نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ [سورة الحشر:19]، مع قوله - تبارك وتعالى -: لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [سورة طه:52]، فالمنفي المراد به الذهول عن المعلوم، ذهاب المعلوم من الذهن، يقال: نسيت المسألة، نسيت الكتاب، ويأتي بمعنى الترك نَسُوا اللَّهَ، أي: فأعرضوا عنه وتركوا طاعته، فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ عاقبهم بأن اشتغلوا بما يضرهم وأقبلوا على ذلك وتركوا ما فيه صلاحهم ونفعهم وفلاحهم ونجاتهم، نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ [سورة التوبة:67]، نسيهم في النار، تركهم في النار، وهكذا تركهم من رحمته في الدنيا وفي الآخرة، وقول ابن عباس - ا -: "إنما سمي الإنسان؛ لأنه عهد إليه فنسي"، يُشعر بأنه يريد بذلك الذهول عن المعلوم، وهذا ليس محل اتفاق أن الإنسان قيل له إنسان بهذا السبب، وقيل: هذا من الأنس، ويقول الحافظ - رحمه الله -: "وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه، وقال مجاهد والحسن: تَرَك"، هذا المعنى الثالث، ترك، ترك هذا العهد الذي عهد إليه وهو النهي عن أكل الشجرة، فأكل منها، واختلف السلف في تفسيره فمنهم من يفسره بهذا، ومنهم من فسره بهذا، وتفسيرهم بالترك هو الأقرب ولا إشكال فيه، وأما تفسيره بالنسيان الذي هو بمعنى الذهول  - يعني: المعنى المتبادر للنسيان الشائع الأكثر استعمالاً، وهو خلاف قول الجمهور في هذه الآية، فالجمهور على الأول - تفسيره على الذهول وذهاب المعلوم لا يخلو من إشكال، وذلك أن يقول قائل: كيف يؤاخذ على النسيان؟! موسى يقول للخضر، بل قبل ذلك غلام موسى يقول له: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [سورة الكهف:63]، وموسى حينما سأل واعترض على خرق السفينة وأنكر عليه ذلك الخضر، قال له: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [سورة الكهف:73]، والله يقول في القرآن: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [سورة البقرة:286]، وفي الحديث القدسي أن الله - تبارك وتعالى - قال: قد فعلت[1]، والإشكال هو أنه إذا فسر النسيان بهذا الاعتبار وبهذا المعنى كيف يؤاخذ على هذا ويعاقب ويخرج من الجنة؟

وجواب أصحاب هذا القول عن هذا الإشكال والرد عليهم أنهم يقولون: إن وضع النسيان وعدم المؤاخذة عليه إنما هو في شرع هذه الأمة، وهذا من التخفيف عليهم، وأما الأمم السابقة فكانوا يؤاخذون بذلك، ويرد عليهم بأن ظواهر الآيات إذا جُمعت وما حصل من وسوسة الشيطان هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى، مع قول الله   لآدم : إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى حذره من هذا كله، وهذا بعيد إذ كيف يحصل له النسيان الذي هو الذهول عن المعلوم مع هذه التحذيرات؟ والأقرب - والله أعلم - أن ذلك يراد به الترك، ترك ما عهد الله به إليه فأكل من هذه الشجرة، قال: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [سورة طه:115]، والعزم بمعنى توطين النفس على الشيء والتصميم عليه، بمعنى أن العزم هو القصد، قصد القلب المصمم يقال له عزم؛ لأن الإرادات التي تحصل من الإنسان انبعاث النفس، وإرادتها على درجات متفاوتة، فتارة يكون الشيء خاطراً، يعرض للإنسان ثم بعد ذلك ما يلبث أن يُدفع أو يضمحل ويتلاشى، وتارة يبقى ويستقر ويتغلغل فيكون فكرة، وإذا ثبت صار عقيدة، فإذا أقبل على الشيء وأراد الفعل أو الترك وليس بمجرد الإرادة الضعيفة التي يحصل فيها شيء من التردد فإن ذلك يكون عزماً، فإن كان ضعيفاً بأول الإرادة فهو الذي يقال له الهَمّ، هَمّ بكذا، هممت أن أسافر، وتقول: عزمت على السفر، بمعنى القصد المصمم، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا، وبعضهم فسره بالصبر، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وبين المعنيين نوع ارتباط فإن الذي يعزم على الشيء لابد له من الصبر حتى يحققه، فإن عزم على الترك فلابد له من الصبر حتى يتجنبه، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: إن الإنسان قد يعزم على الشيء لكنه إذا وقع ذلك لا يصبر، وقد يعزم على الصبر على المصيبة، فإذا وقعت المصيبة لم يصبر، وهكذا في التكاليف الشاقة، كبني إسرائيل إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة البقرة:246]، فلما قال لهم ما قال، قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ [سورة البقرة:246]، ثم بعد ذلك ما لبثوا حتى تساقط مجموعة أخرى اعترضوا على أن يكون هذا الملك هو طالوت، ثم بعد ذلك ما لبث أن سقط مجموعة منهم حينما ابتلوا وامتحنوا بالنهر، مع أنهم كانوا قد عزموا في البداية، والله - تبارك وتعالى - عاتب المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2-3]، وفي الأشهر من أقوال المفسرين فيها والتي تدل عليها رواية سبب النزول: أن الذي قالوه هو أنهم تمنوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله حتى يفعلوه، فلما أخبروا أنه الجهاد تثاقلوا وتباطئوا، وهكذا أولئك الذين قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ [سورة النساء:77]، وكان يقال لهم: كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [سورة النساء:77]، وهكذا في قوله - تبارك وتعالى -: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ [سورة الأحزاب:15]، قيل: بنو سلمة وبنو حارثة لما حصل لهم التراجع في يوم أحد ندموا على ذلك وعزموا على الصبر وعدم الفرار، والعزم على الشيء قد ينكسر وينثني إذا جاء الجد، فبين المعنيين ارتباط، فلا يمكن أن يتحقق ما عزم عليه إلا إذا وطن نفسه على الصبر، فإن الصبر هو السبيل إلى تحصيل المطلوب، وإلى توقي واجتناب المحظور، ولذلك لا يُحتاج إلى ترجيح بين القولين، وابن قتيبة يقول: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا، أي: ولم نجد له رأياً معزوماً عليه، وهذا لا ينافي ما سبق، فالنهي عن أكل الشجرة ثم أكله منها يدخل فيما ذكر، والله أعلم.

  1. رواه مسلم، كتاب الإيمان، بَابُ بَيَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ [البقرة:284]، برقم (126).