الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا روى ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعرَه شجرةٌ فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر؟، فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا، ولكن استحياء، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم، فذلك قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[1]، وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب، فلم يسمعه منه، وفي رفعه نظر أيضاً.

النخلة السَّحوق يعني النخلة الرفيعة جداً، الطويلة التي لا يوصل إليها، كما في الحديث بأنه كان طوله ستين ذراعاً في السماء.

والكلمات التي تلقاها آدم هي قوله - تبارك وتعالى -: قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الأعراف:23]، هذه هي الكلمات، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وفي القراءة الأخرى المتواترة: فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ، وقوله: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا سوءات جمع سوءة وهي العورة، وقيل لها سوءة؛ لأن ظهورها وانكشافها مما يسوء الإنسان، وهو أمر لا يَجْمل ولا يحسن لا من جهة الديانة، ولا من جهة الفطرة، ولا من جهة المروءة، ولهذا لما حصل ذلك لآدم مباشرة وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ، هذه فطرة، فطر الله الخلق عليها، ولهذا فإن خلافها من التعري هو من عمل الشيطان وخلاف الفطرة، فالله - تبارك وتعالى - يقول: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا [سورة الأعراف:27] يَنزِعُ يعني: الشيطان، فهذا التعري الذي يعتبره كثير من الناس تحرراً ومدنية متقدمة متطورة متحضرة هذا خلاف الفطرة، وجهالة، وانتكاس، ورجوع إلى البهيمية، إنما يكون ذلك للحيوانات، وأما الفِطَر فإنها تأبى ذلك، هذا آدم وزوجه في الجنة يخصفان عليهما من ورق الجنة، وهنا قال: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا السوءات جمع مع أن المذكور قبله مثنى، ووجه ذلك أن يقال بأن السوءات جُمع هنا باعتبار أن لكل واحد منهما قبلاً ودبراً، فصار ذلك أربعة، فجمعها بهذا الاعتبار، وقيل: إن ذلك باعتبار أن أقل الجمع اثنان، وهذا مذهب معروف لبعض أهل العلم، هم مختلفون في أقل الجمع هل هو ثلاثة أو اثنان، فبعضهم يقول: اثنان، والجمهور يقولون ثلاثة، بعضهم يقول: اثنان ويحتج لهذا من القرآن بقوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197] أشهر، قالوا: وأشهر الحج: شوال وذوالقعدة وعشر من ذي الحجة، فهو شهران وعشرة أيام، لكن هذا ليس بصريح؛ لأن الآخرين يقولون: هذا لجبر الكسر، وبعضهم يقول: إلى نهاية ذي الحجة، لكن أصرح من هذا وأوضح قوله - تبارك وتعالى -: فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11]، هذا الذي يسمونه في الفرائض الحجب بالنقصان وليس بحجب الحرمان، فالأم ينقص نصيبها من الثلث إلى السدس إن كان له إخوة، فالإخوة الذي يحصل حجب النقصان للأم بوجودهم اثنان فعبر عنه بالجمع فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ، بهذا يقول في مراقي السعود:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحِميري

يعني: عند الإمام مالك - رحمه الله -، وهذا قول له وجهه، وهو أحد الأجوبة عن ذكر الجمع بعد المثنى في السوءات، لم يقل: فبدت لهما سوءتاهما، وإنما قال: سَوْءَاتُهُمَا، وبعضهم يقول غير هذا.

وقوله: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وكذا قال قتادة والسدي.

قوله: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ، طفقا بمعنى أقبلا، أو جعلا، وأفعال المقاربة والشروع بمعنى أخذ في كذا، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ يعني أقبلا أو جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة، يخصفان أي يلصقان عليهما من ورق الجنة، يقال: خصف الورق على بدنه، يعني: ألصقها وأطبقها عليه ورقةً ورقةً، كما يقال في خصف النعل: يخصف نعله، بمعنى أنهما يستتران بهذه الأوراق.

وقوله: وَعَصَىَ َآدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىَ ۝ ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ روى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: حاج موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني أو قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله ﷺ فحج آدم موسى[2]، وهذا الحديث له طرق في الصحيحين، وغيرهما من المسانيد.

قوله: وَعَصَىَ َآدَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ بعضهم يقول: غوى يعني ضل عن الصواب، وبعضهم يقول: غوى أي فسد عليه عيشه، وتلاشى ذلك النعيم وذهب واضمحل، وبعضهم يقول: غوى أي جهل موضع رشده، والمعتزلة فسروا ذلك بتفسير لا يصح من جهة اللغة في هذا الموضع، وهو خلاف الظاهر المتبادر من هذه اللفظة، قالوا: غوى بمعنى بشم، ومعنى ذلك إذا امتلأ بطنه، يعني أكل أكلاً كثيراً، بشم، تقول: بشم الفصيل، أي رضع أكثر من حاجته، فيقولون: إن المقصود وعَصَىَ َآدَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ، أي: بشم من كثرة الأكل من الشجرة، وهذا بعيد، وهذا إنما فعلوه من أجل أن يقرروا أصلهم في هذا الباب، وهو أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا تقع منهم المعصية، وهم معصومون من المعاصي، والمسألة فيها كلام كثير معروف في كتب العقائد، وعند الأصوليين أيضاً، والخلاف هل تقع المعصية من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أو لا؟، فالذين يقولون تقع منهم يحتجون بأدلة منها هذا الدليل وهو من أوضحها وأصرحها عَصَى، فإذا أولوا غوى فلا يستطيعون تأويل عصى، ويحتجون بقوله - تبارك وتعالى -: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2]، فالغفر إنما يكون لذنب يقع، وحينما قيل للنبي ﷺ: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟! قال: أفلا أكون عبداً شكورا؟[3]، والذين يقولون بوقوع المعصية منهم يقولون: لكن لا يقع منهم الإشراك، ولا تقع منهم الكبائر، ولا الصغائر المدنسة التي يسمونها صغائر الخسة، يعني: التي تسقط المروءات، ولا يصرون على الذنب والمخالفات، بل يبادرون بالتوبة، ولا حاجة لتحريف آيات القرآن من أجل عقيدة أو منهج يعتقدها أحد من الناس وعَصَىَ َآدَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ هذه صريحة، وبعضهم حينما يرى صراحة هذه الآية ممن يقولون إن المعاصي لا تقع من الأنبياء يقولون: هذا قبل أن يكون نبياً، فحينما أكل من الشجرة لم يكن نبياً وقتئذ، وهذه دعوى لا دليل عليها.

والمحاجة بين آدم وموسى لا إشكال أن تقع بعدما توفي موسى ولقيه في الملأ الأعلى، والنبي ﷺ لقي الأنبياء، لقي آدم وموسى كما هو معلوم في ليلة المعراج فلا إشكال في هذا، وحصلت المراجعة بينه وبين موسى في فرض الصلوات، والمحاجة  التي حصلت، وآدم حينما اعتذر بقوله: أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني، أو قدره عليّ قبل أن يخلقني؟ هذا ليس من باب الاحتجاج بالقدر على المعايب والمعاصي، وهذا لا يجوز أصلاً أن يحتج الإنسان على المعيبة في الذنب والمعصية بالقدر، وإنما هو من قبيل الاحتجاج بالقدر على المصيبة، والفرق ظاهر أن الإنسان إذا وقع منه الذنب فليس له أن يبرر وقوعه بالذنب فيصر عليه ويبقى محتجاً بالقدر، ولكن من تاب وترك وأقلع، وبقيت آثار هذا الجرم، ثم بعد ذلك عوتب فإن له أن يحتج بالقدر فيقول: هذا أمر قد قضاه الله وكتبه عليّ، فلا داعي لمثل هذه المعاتبة، هو يحتج بالقدر على المصيبة التي حصلت.

  1. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (5/491) برقم (8326)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (6033).
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [سورة طه:117]، برقم (4461).
  3. رواه البخاري، كتاب التهجد، باب قيام النبي ﷺ حتى تَرِمَ قدماه، برقم (1078)، ومسلم، كتاب في صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم (2819).