قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، ذكري مصدر، ويحتمل أن يكون قد أضيف إلى الفاعل، ويحتمل أنه قد أضيف إلى المفعول، ويحتمل أن يكون المعنى أي: لم يذكرني، لم يذكر ربه، لم يذكره بقلبه إذ صار غافلاً، ولم يذكره بلسانه، ولم يذكره بجوارحه بالعمل في طاعته ومرضاته، أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي لم يذكرني، ويحتمل أن يكون المعنى أعرض عن ذكري، أي: عن مذكوري، فيكون هنا مضافاً إلى المفعول، ومعنى ذلك أن ذكره - تبارك وتعالى - هو القرآن، من أعرض عن القرآن فلم يقرأه، ولم يتدبره، ولم يعمل به ولم يتحاكم إليه فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فمثل هذه الآية تحتمل المعنيين، ويمكن أن تحمل على هذا وهذا، يقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي أي: لم يذكرني، فيحصل له من الوحشة والضيق والحرج في الصدر، وتظلم نفسه بقدر ما فيه من الغفلة والإعراض عن ذكر الله ، وهكذا أيضاً من أعرض عن القرآن فلم يقرأه ولم يتدبره ونحو ذلك فإنه يضيق عيشه، وتضيق نفسه، والعلماء - رحمهم الله - بعضهم يقول: إن هذا في الدنيا، وبعضهم يقول: إن هذا في البرزخ، فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً الضنك الضيق، هذه المعشية الضنك بعضهم يقول: تحصل له في الدنيا بالوحشة، وما يحصل له من ضيق الصدر، فإنه على قدر ما يحبس الإنسان نفسه عن المعاصي والمخالفات ويحملها على النصب في طاعة الله - تبارك وتعالى - على قدر ما يحصل من الاتساع في الصدر، إذا ضيق الإنسان على نفسه فلم يطلقها ويسرحها في أودية الهلاكة والمعصية اتسع الصدر، فاحبس الجوارح عن المعصية، واحملها على الطاعة يتسع الصدر، والعجيب أن الناس يطلقون النظر، أو السمع، أو فعل ومقارفة ما لا يليق من أجل تحصيل اللذات، وما علموا أن اللذة تحصل بالكف عن مثل هذا، وأنه على قدر إقباله على هذه الذنوب والمعاصي على قدر ما يحصل له من الألم والانقباض والحسرة والوحشة التي تكون بقلبه، لهذا يقول ابن القيم - رحمه الله - : إن في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وفيه فاقة لا يذهبها إلا صدق اللجأ إليه، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا، وهو مجبول على هذا الفقر إلى ربه وخالقه ومولاه - تبارك وتعالى -، وبعضهم يقول: هذا في البرزخ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:124]، والسبب الذي حمل هؤلاء على هذا القول هو أنهم يقولون: إن الدنيا نرى فيها من هو في بحبوحة واسعة من المعرضين عن ذكر الله وطاعته والإيمان، ولذاتٍ يتقلب فيها، ونجد من المقبلين على طاعة الله من يتقلب في ألوان الفقر والمعاناة، والبؤس، والمرض، وما أشبه ذلك، قالوا: إذن هي في البرزخ، وهذه الطريقة التي يقررون بها هذا القول غير دقيقة، والسبب أن الضنك والضيق والحسرة والألم وما أشبه ذلك ليس هو ألم الجوارح، وبؤس الجوارح، إنما هو ألم القلب وضيق النفس، وما يحصل للإنسان من الوحشة وانقباض الصدر، ولهذا مهما كان الذي فيه هؤلاء المعرضون من النعيم واللذات فإن ذلك ليس هو السعادة والراحة، وإنما السعادة الحقيقية هي في طاعة المعبود - -، والإقبال عليه، فهذه السعادة الحقيقية، فهؤلاء نظروا إلى المسألة باعتبار لذات الأبدان لكن هل حياته حياة سعيدة؟، لا، فلا يجد انشراحاً وسروراً ونعيماً حقيقياً، الوحشة تقتلهم، وتلاحقهم بلذاتهم، وهذا شيء مشاهد، ولهذا يقال: إن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فالإنسان يحصل له من الحسرة والألم، وحرج الصدر وضيقه بقدر ما عنده من الإعراض عن ذكر الله - تبارك وتعالى - والجزاء من جنس العمل، ولهذا تجد الناس يتفاوتون في هذا السرور والراحة، راحة القلب، وطيب العيش، واتساع الصدر، بحسب ما عندهم من هذا المعنى، الإقبال على الله وعبادته، الإقبال على كتابه فهذا هو وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، ولهذا ممكن أن يقال: فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً أول ما يدخل فيه هو الحياة الدنيا مما ذكرتُ، ولا مانع من أن يدخل في هذا كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -: البرزخ، فإن الله قال ذلك وأطلقه، وذكر بعده: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فالذي يكون قبل يوم القيامة البرزخ والدنيا، ففي الدنيا له ضيق الصدر، وفي البرزخ يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، والله المستعان، وابن القيم - رحمه الله - له كلام طويل وجيد في هذا المعنى، فيقول - رحمه الله -: "قول الله - تعالى ذكره -: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فذكْرُه كلامه الذي أنزله على رسوله، والإعراض عنه ترك تدبره والعمل به، والمعيشة الضنك فأكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر، قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس، وفيه حديث مرفوع، وأصل الضنك في اللغة: الضيق والشدة، وكل ما ضاق فهو ضنك، يقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة فإن النفس كلما وسعتَ عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكا، وكلما ضيقتَ عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسح، فضنك المعيشة في الدنيا بموجب التقوى سعتها في البرزخ والآخرة، وسعة المعيشة في الدنيا بحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخرة، فآثِرْ أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما وأشقِ البدن بنعيم الروح ولا تشقِ الروح بنعيم البدن فإن نعيم الروح وشقاءها أعظم وأدوم، ونعيمَ البدن وشقاءه أقصر وأهون، والله المستعان"[1].
وقال - رحمه الله تعالى -: قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية، وقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، يتناول الذكر الذي أنزله وهو الهدى الذي جاءت به الرسل ويدل عليه سياق الكلام وهو قوله: وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى.
فهذا هو الإعراض عن ذكره، فإذا كان هذا حال المعرض عنه فكيف حال المعارض له بعقله أو عقل من قلده، وأحسن الظن به؟، فكما أنه لا يكون مؤمناً إلا من قبِلَهُ وانقاد له، فمن أعرض عنه وعارضه من أبعد الناس عن الإيمان به"[2].
يعني هذا المعرض فكيف بالمعارض، المعترض على أحكام الله ، وشرائعه التي يعارضها بمعقوله وذوقه وهواه؟، والآية الأخرى قوله - تبارك وتعالى -: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة الحشر:19]، فأنساهم أنفسهم، - نسأل الله العافية -، بمعنى أنه صار اشتغالهم وكدهم وسعيهم وعملهم فيما يحصل به العطب والهلاك، والبوار، ويصير فرح هذا الإنسان وإقباله وبذله ونفقاته، وذهابه ومجيئه، - نسأل الله العافية -، فيما يرديه ويهلكه ويحصل له به البوار في الدنيا والآخرة، هذا إذا أنسى الله العبد نفسه.
وقال - رحمه الله تعالى -: "وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، والصحيح: أنها في الدنيا وفي البرزخ فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف، وشدة الحرص، والتعب على الدنيا، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثانٍ، فهو هكذا مدة حياته، وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر، إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [سورة الإنفطار:13-14]، هذا في دُورهم الثلاث ليس مختصاً بالدار الآخرة، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة، وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [سورة الطور:47]، وقال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [سورة النمل:71-72]، وفي هذه الدار دون ما في البرزخ ولكن يمنع من الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات، وطرح ذلك عن القلب وعدم التفكر فيه"[3].
وقال أيضاً: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كان نكرة في سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى، فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره، فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإنْ تنعّم في الدنيا بأصناف النعم ففي قلبه من الوحشة، والذل، والحسرات التي تقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق، وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر فسكرها - هذه الأمور - أعظم من سكر الخمر، فإنه يفيق صاحبه ويصحو، وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا كان في عسكر الأموات"[4].
يريد أن يقول: إن هذه المعيشة الضنك تشمل الدنيا وتشمل البرزخ، وفي الآخرة في يوم القيامة يحشر بهذه الصفة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [سورة طه:124-126]، وهذا إذا أردنا الترجيح بين القولين في معنى الذكْر وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي، فإن القرينة تدل على أن المراد به القرآن، ولهذا قال به كثير من أهل العلم سلفاً وخلفاً؛ لأنه قال: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا، لكن هذا لا يمنع من حمل الآية على المعنيين، - والله تعالى أعلم -، كما يقال أيضاً في المعيشة الضنك: إنها في الدنيا وفي البرزخ.
واختلف المفسرون في المراد بالعمي في قول الله تبارك وتعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ [سورة الإسراء:97]، فقال بعضهم: إنهم يحشرون في هذه الصفة حقيقة، يعني: لا إبصار، ولا سمع ولا نطق، وبعضهم يقول: إن المراد أنهم لا يرون ما يضرهم، ولا يسمعون ما يضرهم، ولا يتكلمون ولا يعتذرون بعذر يقبل منهم، فالآية الأخرى التي فسر بها ليست محل اتفاق على أن العمى فيها هو عمى البصر، لكن يوجد في الآية قرينة ترجح أحد القولين، وذلك أن الله - تبارك وتعالى - قال عن هذا الذي يحشر في هذه الصفة: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا يعني في الدنيا، فلو كان المراد أنه أعمى عن حجته فإنه لم يكن بصيراً في الدنيا بهذا الاعتبار، فلو كان عنده بصر حقيقي في الدنيا بمعنى بصر القلب فإنه يُقبل على الهدى الذي بعث الله به رسوله ﷺ، فهذه قرينة مرجحة لأحد هذين القولين، وهذا القول ذهب إليه طائفة من أهل العلم ورجحه من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، ومن أهل العلم من حملها عليهما وقال: لا مانع من ذلك يحشر يوم القيامة أعمى عن حجته، ويحشر أيضاً أعمى البصر، فلا حجة ولا بصر، والمفروض أنه يورد هذا الكلام ولا يحذف في المختصر.
فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - قد رجح أحد القولين، وذهب إلى ما ذهب إليه ابن جرير، وهذا لم يذكره المُختصِر وهو موجود في الأصل، فيكون قول ابن جرير وابن كثير واحداً، وقد يرد سؤال: الله قال هنا: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى إذا فسرت بعمى البصر أو عمى البصر والبصيرة معاً وهو أن الله - تبارك وتعالى - قال عن هؤلاء في الآخرة: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [سورة الكهف:53] هم رأوها، وفي الآية الأخرى التي فسر بها وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا، وقال الله - تبارك وتعالى -عنهم: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [سورة مريم:38] يعني ما أسمعهم وما أبصرهم، ما أشد سمعهم، فإما أن يقال بأن يوم القيامة يوم طويل، ففي بعض الأحوال لا يسمعون ولا يبصرون، وبعضهم يقول: إنه حين يقول الله لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون:108] تصيبهم من الحسرة ما يدهشهم ويذهلهم فلا يسمعون، - نسأل الله العافية -، وبعضهم يقول: إن العمى ليس المقصود به عمى البصر أصلاً، ومن ثَمّ فلا نحتاج إلى الجمع بينه وبين الآيات التي أثبتت لهم السمع والبصر، والله تعالى أعلم.
قال الإمام ابن القيم الجوزيه - رحمه الله -: "وقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، اختلف فيه هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر، والذين قالوا: هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [سورة مريم:38]، وقوله: لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22]، وقوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِين [سورة الفرقان:22]، وقوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [سورة التكاثر:6-7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة، كقوله تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ [سورة الشورى:45]، وقوله: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [سورة الطور: 13-15]، وقوله: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا، والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه؛ لقوله: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، وهو لم يكن بصيراً في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق فكيف يقول: وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا؟ وكيف يجاب بقوله: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جوزي من جنس عمله، فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله، وعميت عنه بصيرته أعمى الله بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة، وعلى تركه ذكره ترْكه في العذاب، وقال تعالى: وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآية: إنه عمي وبكم وصم عن الهدى، كما قيل في قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قالوا: لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون، ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم: هو عمًى وصمم وبكم مقيد لا مطلق، فهم عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه، ولهذا قد روى عن ابن عباس - ا - قال: لا يرون شيئا يسرهم، وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك، فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك، ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد وهذا مروي عن الحسن، وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبوا الأسماع والأبصار والنطق حين يقول لهم الرب - تبارك وتعالى -: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ، فحينئذ ينقطع الرجاء، وتُبكم عقولهم فيصيرون بأجمعهم عمياً بكماً صماً لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق وهذا منقول عن مقاتل"[5].
لكن هذا بعيد؛ لأن الله قال: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فليس المقصود بالنار.
وقال - رحمه الله -: "والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم ولم يريدوا أن لهم حجة هم عُميٌ عنها"[6].
يعني: المقصود أنهم لا حجة لهم، وليس المقصود أن لهم حجة لكنهم عَموا عنها، وفرق بين من له حجة وجاء عند القاضي مثلاً فذهل عن حجته، ما تفطن لها ولو أنه تطفن لها لربما حكم له بذلك القاضي، لكنه عمي عن حجته، فرق بين هذا وبين من ليس له حجة أصلاً، وهنا لا حجة لهم أصلاً.
وقال - رحمه الله - أيضاً: "بل هم عمي عن الهدى كما كانوا في الدنيا، فإن العبد يموت على ما عاش عليه ويبعث على ما مات عليه، وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر وأنه عمى البصر، فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً، ويقر بما كان يجحده في الدنيا، فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
وفصل الخطاب أن الحشر هو الضم والجمع، ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة؛ لقول النبي ﷺ: إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غُرْلاً[7]، ولقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [سورة التكوير:5]، ولقوله تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر، فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة، وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار، قال تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [سورة مريم:85]، وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:22-23]، فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف وهو حشرهم وضمهم إلى النار؛ لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [سورة الصافات:20-21]، ثم قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ، وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى النار، فعند الحشر الأول يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً، فلكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته، فالقرآن يصدق بعضه بعضا، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا"[8].
- الفوائد، لابن القيم (168-169).
- الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (3/845-846)، تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله.
- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم الجوزيه (1/422-423).
- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) (120).
- مفتاح دار السعادة، لابن القيم الجوزيه (1/44-45).
- مفتاح دار السعادة، لابن القيم الجوزيه (1/45).
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة:117]، برقم (4349)، من حديث ابن عباس - ا -، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2859)، من حديث عائشة - ا -، بمعناه.
- مفتاح دار السعادة، لابن القيم الجوزية (1/45-46).