الأحد 05 / ربيع الآخر / 1447 - 28 / سبتمبر 2025
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ۝ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ۝ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ۝ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ۝ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [سورة طه:17-21]، هذا برهان من الله تعالى لموسى ، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل.

وقوله: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له، وقيل: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها فسترى ما نصنع بها الآن، وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، استفهام تقرير، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا أي: أعتمد عليها في حال المشي، وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي أي: أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود، فهذا الهش ولا يخبط، وكذا قال ميمون بن مهران أيضاً.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له"، أي: أنه قبل أن يرسله إلى فرعون وأن يخاطبه بما خاطبه به من أمر الرسالة أراد أن يزيل عنه الوحشة فسأله عن أمور ليست هي المقصودة، هذا مقصود قول من قال: إنه على سبيل الإيناس، كمن أردت أن تحدثه أو تحادثه عن أمر وهو في حال من الخوف والارتباك فسألته عن أمور أخرى ليست هي المقصودة من أجل الإيناس، ثم بعد ذلك تتحدث معه عن المقصود، لهذا يوجد في كتاب الحيدة وإن لم يثبت من جهة الإسناد في أول ذلك سؤالات عن بعض الأمور في المكان الذي جلس فيه الخليفة، وسؤاله عن بعض الشقوق في الجدران ونحو ذلك، قبل أن يسأل عن موضوع القرآن، والقول بخلق القرآن، فيما يذكر عن عبد العزيز الكناني لو صحت القصة، يقول: "وقيل إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها فسترى ما نصنع بها الآن"، بمعنى: قرره بأنها عصا، وأنها ليست أكثر من ذلك، والعصا لا حياة فيها ولا روح، فقرره بذلك من أجل أن يقول: هي عصاي، ثم بعد ذلك يريه منها حالاً أخرى لا يمكن أن تكون هذه العصا بهذه المثابة إلا بطريق المعجزة، هذا مراد من قال بأنه على سبيل التقرير، أليست هذه هي عصا؟، ولهذا قال بعضهم: وهذا لا يختلف عما قبله بأن المراد التنبيه عليها لتقع المعجزة فيها بعد التثبت فيها والتأمل، أراد أن يلفت نظره إليها، لما سيقع بعد ذلك من المعجزة بها، وهذا لا شك أنه هو المناسب في تفسير الآية خلاف قول من قال بأن المقصود بذلك الإيناس، لو كان مجرد الإيناس لكن ذلك من غير وقوع المعجزة في العصا، وقوله: وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي، يقول: "أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي"، ونقل "عن الإمام مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن"، والمحجن هو العصا التي في طرفها انحناء، معطوفة من طرفها، يقول: "ثم يحركها حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود، فهذا الهش، ولا يخبط"، الخبط الضرب، فيتساقط الورق، هكذا قال الإمام مالك، مع أن هذا ليس محل اتفاق كثير من أهل العلم، وهو اختيار ابن جرير: فسره بالخبط، يخبط الشجر فيتساقط الورق، وقرأه نافع بالسين "أهس"، وفُسر بالمعنى السابق، قال بعضهم: هما لغتان، وبعضهم فسره بزجر الغنم.

وقوله: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى، أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك، وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت.

ألف البعض رسالة – مجلداً - في منافع العصا، ومثل هذا لا شك أنه من الترف الفكري كما يقال، والاشتغال بأمور قليلة الفائدة، ما هي فوائد العصا؟! والرجل الذي ذكر فوائد العصا ذكر جملة كثيرة منها في كلامه، فهو يتوكأ عليها، ويهش بها غنمه، ويخبط بها الشجر، وتكون بين يديه في الصلاة، ويدفع عن نفسه بها الكلاب والسباع، ويطاعن بها العدو، ويضع عليها رداءه فتكنه من الشمس، ومن المطر، وهذه العصا يحصل بها أمور أخرى كثيرة ذكرها لا حاجة للتطويل في هذا، يقول: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى حاجات أخرى، ما يحتاج إليه في العصا، ومن الناس من يحمل العصا عادة، وسواء كانت عصا أو دِرة أو نحو ذلك، ومعلوم أن النبي ﷺ لربما توكأ على عسيب، ولربما كانت بيده، فتوضع بين يديه العنزة – رمح صغير – في الصلاة، وعمر كان يحمل الدرة كثيراً، ولا زال في بيئات من المروءات ومن الكمالات في الزي ونحو ذلك أن يحمل الإنسان العصا، ربما لا زال هذا موجوداً في السودان إلى اليوم، من كمال الزي أن الإنسان يحمل معه عصاً.