الأربعاء 16 / ذو القعدة / 1446 - 14 / مايو 2025
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ

المصباح المنير المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي هذا سؤال من موسى لربه أن يشرح له صدره فيما بعثه به، فإنه قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً، وأكثرهم جنوداً، وأعمرهم ملكاً، وأطغاهم وأبلغهم تمرداً، بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله، ولا يعلم لرعاياه إلهاً غيره، هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً، فخافهم أن يقتلوه، فهرب منهم هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال: رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي، أي: إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلا فلا طاقة لي بذلك.

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي ۝ يَفْقَهُواْ قَوْلِي وذلك لما كان أصابه من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العيّ، ويحصل لهم فَهْم ما يريد منه، وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت بقية، قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52]، أي: يفصح بالكلام.

قوله: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي هذا يحتاج إليه في الدعوة مع مثل هذا المتكبر، العاتي عن الله - تبارك وتعالى -، فإن من يدعي الربوبية وينكر ويكابر يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:88]، مثل هذا لا تطيق النفوس رؤيته ولا سماع كلامه، فيحتاج من أراد أن يدعو أمثال هؤلاء إلى انشراح، بل كل من أراد أن يقبل على أمر من الأمور فهو يحتاج إلى ذلك، ولهذا يقال فيمن أراد أن يتصدر للدعوة لاسيما دعوة من يصدر منهم الكلام الفج، والفعال القبيحة التي تُظلِم معها النفوس عند سماعها، فإن مثل هذا يحتاج إلى شرح صدر وما كل أحد يطيق ذلك، ما كل أحد يصلح لهذا، وإذا قرأت لكتابات هؤلاء اللبراليين مثلاً ورأيت الطعن في الدين واللمز والسخرية من الحجاب والدعوة إلى الفساد والاختلاط، والكتابات التي كلها ربما لا تصدر إلا عن نفس متمردة على الله الإنسان تضيق نفسه حين يقرأ هذا، ويجد من الألم والحسرة الشيء الكثير، ومن أراد أن يدعو هؤلاء فإنه يحتاج إلى شيء من سعة الصدر، والصبر أكثر من غيره ممن يدعو أناساً لهم شيء من الغفلة، فإن رؤية هؤلاء لا تطاق، وقراءة ما يكتبون أمر لا يطاق بحال من الأحوال، وما كل أحد يصبر على مثل هذا، ولا على مطالعة ما يقولون وقراءته،    نسأل الله العافية.

وقوله تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، يقول: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ۝ يَفْقَهُوا قَوْلِي، ما يُذكر مِن أن موسى في الصغر لما خافه فرعون، يذكرون في هذا أشياء، يقولون: إنه كان وهو صغير يشد لحية فرعون بقوة، وإن فرعون خاف، فهَمّ بقتله فقالت امرأته: إنه لا يفقه، صغير، واختبروه بوضع تمرة وجمرة، وإن الله - تبارك وتعالى - ألهمه أخذ الجمرة من أجل أن يصرفهم عنه، هذا يذكر كثيراً في كتب التفسير، ولكن لا أعلم له مستنداً صحيحاً، وموسى كان فيه هذه العقدة في لسانه وقوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ۝ يَفْقَهُوا قَوْلِي ما ذكر هنا من المعنى صحيح باعتبار أنه ما سأل رفع ذلك أجمع، وإنما الحدّ الذي يحصل به الإبانة والإفهام للمخاطبين، بدليل أن فرعون قال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، ففرعون مكابر وكذاب، لكن يدل على هذا أن موسى ﷺ لما طلب أن يرسل الله معه هارون علل ذلك ومن جملة ما علل به قال: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [سورة القصص:34]، فهذا يدل على أنه بقي شيء من ذلك، والله أعلم.

مرات الإستماع: 0

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىَ ۝ وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرّةً أُخْرَىَ ۝ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىَ أُمّكَ مَا يُوحَىَ ۝ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ ۝ إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً [سورة طه:36-40]، هذه إجابة من الله لرسوله موسى فيما سأل من ربه ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من أمر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه؛ لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان، فاتخذت له تابوتاً، فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل، وتمسكه إلى منزلها بحبل، فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [سورة القصص:10]، فذهب به البحر إلى دار فرعون فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً [سورة القصص:8]، أي: قدراً مقدوراً من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى، فحكم الله - وله السلطان العظيم والقدرة التامة - أن لا يربى إلا على فراش فرعون، ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له، ولهذا قال تعالى: يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي، أي: عند عدوك جعلته يحبك، قال سلمة بن كهيل وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي، قال: حببتك إلى عبادي، وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله.

وحينما طلب من ربه قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ۝ يَفْقَهُوا قَوْلِي، وقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وقال: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي كل هذه الأشياء، فقال الله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، فهذا كله إنعام من الله على موسى ، ثم ذكّره بنعمة أخرى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى وذلك في حال صغره مما جرى له، قال: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى والتعبير بالاسم الموصول يفيد التعظيم، مَا يُوحَى كما قال الله : فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [سورة طه:78]، يعني: شيء عظيم هائل، وهكذا في قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [سورة النجم:10]، كل ذلك يفيد تعظيم هذا الأمر، قال: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، التابوت: الصندوق، واليم: يقال للبحر، وكذلك النهر الكبير يقال له اليم، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ فليلقه: هذا أمر، واللام لام الأمر، فَلْيُلْقِهِ يحتمل أن يكون هذا من قبيل الأمر على ظاهره، فصيغته صيغة الأمر، والمراد أيضاً الأمر، ويكون هذا الأمر من قبيل الأمر الكوني، أن الله أمر هذا الماء بأن يتصرف بهذا التابوت بما أراد الله - تبارك وتعالى - فيصل إلى فرعون، ويحتمل أن يكون هذا الأمر فَلْيُلْقِهِ الصيغة فيه صيغة أمر ولكن المعنى ليس كذلك، يعني: لا يراد به الأمر، وإنما معناه الخبر، وجيء به بصيغة الأمر مبالغةً، وذلك أن الأمر كما يقول بعضهم: هو أقطع الأفعال، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ هذا خبرٌ محقق، وجاء به بصيغة الأمر، والساحل قيل له ذلك: لأن الماء سحله، وأما ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وذكره الكثير من المفسرين من أن أم موسى كانت تربطه بحبل فإذا خافت عليه عيون فرعون تتركه في الماء، فإذا أمنت سحبت هذا التابوت وأرضعته، هذا لا دليل عليه، وإنما هو مما تُلُقي عن بني إسرائيل، وظاهر القرآن يدل على خلافه، فالله - تبارك وتعالى - أخبرنا أنه أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، وقال لها: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:7] هذا يدل على أنها تلقيه في اليم، وقال الله أيضاً: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ، فإلقاؤه باليم ليس بهذه الطريق - أنه يربط بحبل تخوفاً عليه -، هذا بأمر الله وطمأنها وخبّرها - كما سيأتي في تفسير الآية في موضعه إن شاء الله - أنه أمرها بأمرين، كما تضمنت الآية خبرين وبشارتين، تضمنت أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، هذان أمران، وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي هذان نهيان، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ هذان خبران وبشارتان، فالذي يظهر أنها أمرت أن تلقيه في اليم، فيحمله اليم إلى فرعون، وليس ما ذكر من أنها تربطه ثم بعد ذلك انفلت منها، فحزنت لذلك، وفي قوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي، يقول: "حببتك إلى عبادي"، هذا هو المشهور، وبعضهم يقول: كان في وجهه صباحة وملاحة، وبعضهم يقول: في عينيه ملاحة، وكل هذا لا حاجة إليه، فالله يقول: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي، والقول الآخر: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي أي: أن الله أحبه، محبة صادرة من الله - تبارك وتعالى -، يعني: ألقيت مني عليك محبة، أحببتك، وابن جرير - رحمه الله - يقول: ألقى الله محبته على موسى، والقولان بينهما ملازمة؛ وذلك أن الله إذا أحب عبداً أمر جبريل أن يحبه، فيحبه جبريل فينادى في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض[1]، فالله إذا أحب عبداً حببه إلى قلوب الخلق، وإذا أبغض عبداً بغضه إلى قلوب الخلق، فالقولان متلازمان ولا حاجة إلى الترجيح بينهما، يعني: قول من قال كابن جرير وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي أي: أن الله أحبه لا يخالف قول من قال بأنه وضع له المحبة في قلوب الخلق؛ لأن ذلك ينتج وينشأ عن محبة الله في العبد.

  1. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3037)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده، برقم (2637)، من حديث أبي هريرة .