وحينما طلب من ربه قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، وقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وقال: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي كل هذه الأشياء، فقال الله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، فهذا كله إنعام من الله على موسى ، ثم ذكّره بنعمة أخرى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى وذلك في حال صغره مما جرى له، قال: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى والتعبير بالاسم الموصول يفيد التعظيم، مَا يُوحَى كما قال الله : فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [سورة طه:78]، يعني: شيء عظيم هائل، وهكذا في قوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [سورة النجم:10]، كل ذلك يفيد تعظيم هذا الأمر، قال: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، التابوت: الصندوق، واليم: يقال للبحر، وكذلك النهر الكبير يقال له اليم، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ فليلقه: هذا أمر، واللام لام الأمر، فَلْيُلْقِهِ يحتمل أن يكون هذا من قبيل الأمر على ظاهره، فصيغته صيغة الأمر، والمراد أيضاً الأمر، ويكون هذا الأمر من قبيل الأمر الكوني، أن الله أمر هذا الماء بأن يتصرف بهذا التابوت بما أراد الله - تبارك وتعالى - فيصل إلى فرعون، ويحتمل أن يكون هذا الأمر فَلْيُلْقِهِ الصيغة فيه صيغة أمر ولكن المعنى ليس كذلك، يعني: لا يراد به الأمر، وإنما معناه الخبر، وجيء به بصيغة الأمر مبالغةً، وذلك أن الأمر كما يقول بعضهم: هو أقطع الأفعال، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ هذا خبرٌ محقق، وجاء به بصيغة الأمر، والساحل قيل له ذلك: لأن الماء سحله، وأما ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وذكره الكثير من المفسرين من أن أم موسى كانت تربطه بحبل فإذا خافت عليه عيون فرعون تتركه في الماء، فإذا أمنت سحبت هذا التابوت وأرضعته، هذا لا دليل عليه، وإنما هو مما تُلُقي عن بني إسرائيل، وظاهر القرآن يدل على خلافه، فالله - تبارك وتعالى - أخبرنا أنه أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، وقال لها: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة القصص:7] هذا يدل على أنها تلقيه في اليم، وقال الله أيضاً: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ، فإلقاؤه باليم ليس بهذه الطريق - أنه يربط بحبل تخوفاً عليه -، هذا بأمر الله وطمأنها وخبّرها - كما سيأتي في تفسير الآية في موضعه إن شاء الله - أنه أمرها بأمرين، كما تضمنت الآية خبرين وبشارتين، تضمنت أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، هذان أمران، وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي هذان نهيان، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ هذان خبران وبشارتان، فالذي يظهر أنها أمرت أن تلقيه في اليم، فيحمله اليم إلى فرعون، وليس ما ذكر من أنها تربطه ثم بعد ذلك انفلت منها، فحزنت لذلك، وفي قوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي، يقول: "حببتك إلى عبادي"، هذا هو المشهور، وبعضهم يقول: كان في وجهه صباحة وملاحة، وبعضهم يقول: في عينيه ملاحة، وكل هذا لا حاجة إليه، فالله يقول: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي، والقول الآخر: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي أي: أن الله أحبه، محبة صادرة من الله - تبارك وتعالى -، يعني: ألقيت مني عليك محبة، أحببتك، وابن جرير - رحمه الله - يقول: ألقى الله محبته على موسى، والقولان بينهما ملازمة؛ وذلك أن الله إذا أحب عبداً أمر جبريل أن يحبه، فيحبه جبريل فينادى في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض[1]، فالله إذا أحب عبداً حببه إلى قلوب الخلق، وإذا أبغض عبداً بغضه إلى قلوب الخلق، فالقولان متلازمان ولا حاجة إلى الترجيح بينهما، يعني: قول من قال كابن جرير وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي أي: أن الله أحبه لا يخالف قول من قال بأنه وضع له المحبة في قلوب الخلق؛ لأن ذلك ينتج وينشأ عن محبة الله في العبد.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3037)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده، برقم (2637)، من حديث أبي هريرة .