في قوله - تبارك وتعالى -: إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ بين الله في موضع آخر أن ذلك كان بأمر أمه، حيث قالت لأخته: قُصِّيهِ [سورة القصص:11]، يعني: أنها تقص أثره - تبحث عنه -، ولما رأته وأبصرته لم تُعر ذلك اهتماماً، وإنما كأنها رأته رؤية عارضة، عن جُنب: يعني: أنها لم تلتفت إليه، ولم تقبل عليه إقبال من يعرفه، وإنما كأنه شيء عارض لا يعنيها، فقالت لهم: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، ويذكر المفسرون: أنهم سألوها - والله تعالى أعلم - عن ذلك، يعني: كيف عرفتِ نصحهم؟ فشكّوا في هذا، وأنها قالت: إنهم ينصحون له من أجل إسعاد الملك، يعني: رغبة في إسعاده، ورجاء – أيضاً - عائدته وعطائه، والله تعالى أعلم بهذا كله، وبعضهم يقول: إنهم سألوها: من أين أتى اللبن لهذه المرأة؟ فقالت: من أخي هارون، وهارون أكبر من موسى، فيقولون: إنه كان يرضع أيضاً، لم يكن يعني في نفس العمر لكن فيها لبن، ويمكن أن يقال: إنه يرضع؛ لأنه في سن الرضاعة.
قال بعض أهل العلم في قوله: تَقَرّ عَيْنُها: هذا من البرودة، القر والحر، فيعبر به عن الفرح والسرور، ويقولون: دموع الفرح باردة، ودموع الحزن حارة ساخنة، وإذا دعوا على إنسان قالوا: أسخن الله عينه، بمعنى: أنه تحصل له من الفجائع ما يحصل له به الحزن والألم، ولهذا تقول العرب في تشبيهها وأمثالها: أسخن من عين المقلاة، يعني: المرأة التي لا يعيش لها ولد، فعينها ساخنة، يعني: من شدة التوجع والحزن على موت أولادها.
أي نعم، قد يكون من أجل هذا، من أجل أنه خاف على نفسه من قتلهم، وكذلك يدل عليه التنجية فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ، فهذا أحسن من تفسير من فسره بالقتل، بعضهم قال فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ: الغم هو القتل، وبعضهم يقول: إن الغم الذي حصل له بسبب أنه قتل هذا القبطي، ويمكن أن يكون هذا وهذا، يعني: هو حزِنَ، يقال: إن هذا وقع على سبيل الخطأ، يعني: أراد أن يضربه - لكن دون القتل -، فكانت هذه الضربة قاتلة، ولم يقصد قتله فحزن لذلك، وكذلك لما جاءه الرجل الذي يقول: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [سورة القصص:20] أصابه بسبب هذا الغم، وكل ما يغم القلب يقال له: غم، فإذا كان على أمر فائت قيل له: الحزَن، فالحزَن هو اغتمام القلب من أمر فائت، وأما إذا كان في أمر المستقبل فهذا الذي يسمى بالخوف، وهذا الفرق بين الحزَن والخوف، وإن كان قد يستعمل أحدهما في محل الآخر قليلاً، كما قال الله عن أهل الجنة: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [سورة فاطر:34] فسر بالخوف والإشفاق من الدار الآخرة؛ لأنهم يقولون: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [سورة الطور:26] والإشفاق هو خوف خاص، يعني: الخوف مع علم بالمخوف منه يقال له خشية، فإذا كان هذا الخوف رقيقاً قيل له: إشفاق، ويأتي بمعنى آخر أيضاً.
قوله - تبارك وتعالى -: ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَا مُوسَىَ، يقول: "قال مجاهد: أي على موعد"، و"عن قتادة قال: على قدر الرسالة والنبوة"، بمعنى أنه جاء على الوقت الذي قدر الله إرساله فيه كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، ويحتمل أنه جاء بوقت قدر الله مجيئه فيه لا يتقدم ولا يتأخر، وهذه الأقوال متقاربة إذ أن كل شيء إنما هو بتقدير الله - تبارك وتعالى -، مجيء موسى بهذه الساعة التي جاء فيها لا شك أنه كان بتقدير الله، وجاء في الوقت الذي قدر الله إرساله فيه، فلا منافاة بين القولين، أو بين هذه الأقوال، والله تعالى أعلم.