الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
فَتَنَٰزَعُوٓا۟ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا۟ ٱلنَّجْوَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ۝ قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ۝ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ۝ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ۝ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [سورة طه:60-64] يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى إلى وقت ومكان معلومين تولى، أي: شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً، كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [سورة يونس:79]  ثُمَّ أَتَى: أي اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته، واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى متوكئاً على عصاه ومعه أخوه هارون، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه، وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ۝ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [سورة الشعراء:41-42] قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً، أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة، وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ، أي: يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ۝ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قيل: معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول: بل هو ساحر، وقيل غير ذلك، والله أعلم، وقوله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، أي: تناجوا فيما بينهم.

نعم، قوله - تبارك وتعالى -: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى، فتولى هذا كقوله: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [سورة النازعات:22]، قال: فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى هذا الكيد هو ما يعارض به هذه المعجزة وهذه الآية، وإنما عارضها بأفعال السحرة، ولهذا قال الله : إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ [سورة طه:69]، فهو جمع كيده الذي هو السحر، كما فسره قوله: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ، ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ وفي القراءة الأخرى بفتح الياء، وهي لغة أهل الحجاز، وأما هذه فيقولون: إنها لغة تميم، فيُسْحِتَكُمْ، يعني الاستئصال والإهلاك، بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى هذه الكلمة صدرت من موسى حينما رأى هؤلاء قد جدوا واجتهدوا وشمروا عن ساعد الجد، وجمعوا ما استطاعوا جمعه من السحرة، وجاء هؤلاء السحرة بما معهم من حبال وعِصِي، وتضافرت جهودهم وتكالبت من أجل إبطال هذه الآية والمعجزة، ومعارضة ما جاء به نبي الله  قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ فهذه الكلمة وصلت إلى الأعماق، وأثرت فيهم غاية التأثير فتنازعوا عند ذلك، والفاء تدل على التعليل كما أنها تدل على التعقيب المباشر، فلما قال هذه الكلمة كانت سبباً للتنازع، وهذا يفيد في بيان المراد بهذا التنازع؛ لأن من المفسرين من يقول: إن التنازع بينهم هو ما حصل من الكلام فيما بينهم في العائدة التي تعود عليهم، والأجر الذي يحصلون عليه والجائزة، لكن هذا بعيد، فتنازعوا بعدما سمعوا هذه الكلمة من موسى  فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى بعضهم يقول: إن التنازع الذي حصل بينهم هو الكلام الذي جرى من أنه إن كان نبياً اتبعناه، وإن كان ساحراً غلبناه، وهذا ليس بتنازع، التنازع فيه تدافع وتجاذب فحصل بسبب هذه الكلمة التي قالها موسى شيء من الانشقاق في داخلهم، في داخل هذا الصف؛ لأنهم أرادوا أن يتشجعوا كما قال الله - تبارك وتعالى - إنهم حث بعضهم بعضاً أن يأتوا: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا فأرادوا أن يظهروا بمظهر المتماسك القوي، وهم في الواقع حصل بينهم تفكك واختلاف وتنازع، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن بعضهم كأنه أراد أن يتراجع أو خاف وهاب من هذه المواجهة والمعارضة لِمَا جاء به موسى ، وأما الإسرائيليات فلا يعَوَّل على شيء منها، والمفسرون يذكرون أشياء من هذا، فبعضهم يقول: إنهم طلبوا من فرعون أن يريهم موسى ﷺ وهو نائم، فلما نظروا إليه وجدوا أن العصا تحرسه، فعرفوا أن هذا ليس من السحرة، هكذا قالوا، ولا حاجة لشيء من هذا، هذه الكلمة التي صدرت من موسى ﷺ لا تصدر من السحرة، الساحر ما يقف ويعظ الناس عند المواجهة والتحدي ويقول لهم: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ، وهو سينكشف بعد قليل، فهذا ليس من السحرة، السحرة لا يفعلون هذا، بل هم من أخبث الناس نفساً، وكلما أوغل الإنسان في هذا بخبث النفس وفساد الطوية، والإمعان في السوء ظاهراً وباطناً كان أمكن في السحر، وهؤلاء الذين جيء بهم ليسوا مجرد سحرة، وإنما هم من عتاة السحرة، ولهذا لما قال الله : فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى هذا الكيد هو الذي أخبر الله عنه في مواضع أخرى، لما قال له الملأ كما في آية الأعراف: أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ ۝ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [سورة الأعراف:111-112]، وفي الموضع الآخر: سَحَّارٍ [سورة الشعراء:37] فهو لم يطلب مجرد سحرة، وإنما طلب السحرة العلماء بالسحر، كل ساحر عليم، وأيضاً صيغة سَحَّارٍ صيغة مبالغة، سحار على وزن فعّال، أي إنسان متمرس تماماً في السحر، وجيء بهم من أطراف مملكته، ولهذا أرسل في المدائن حاشرين، والحاشر هو الذي يحشر الناس، فيأتون بهم قهراً، ويحملونهم على المجيء وترك ما هم فيه من الأشغال من أجل تحقيق مقصوده ومطلوبه، فهذا أمر، فلما قال لهم هذا الكلام عرفوا أن هذا ليس بساحر فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ، قال: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى النجوى: هو الكلام الذي يكون بين طرفين يقصد به الانفراد والإخفاء عن الآخرين، ولا يكون على سبيل العلانية، قال بعضهم أصله من النجوة، وهي المكان المرتفع، فكأن هذا الكلام ينقل من حال العلانية إلى حال الخفاء،  وَأَسَرُّوا النَّجْوَى بمعنى أنهم أرادوا ألا يظهر ذلك النزاع والشقاق أمام خصمهم موسى ؛ لئلا يتقوّى عليهم بذلك، فهم أمام مواجهة، ويريدون أن يحافظوا على معنوياتهم وألا يستفيد موسى شيئاً مما جرى ووقع بينهم، قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم بعدما حصل الاختلاف والتنازع أرادوا أن يأتوا بصفة موحدة وصيغة متفق عليها، بعضهم كان يقول: هذا ما يمكن أن يكون ساحراً، وبعضهم قال: لا، لابد أن نخرج بصيغة موحدة، وكلام متفق عليه يردده الجميع، الجواب يكون واحداً، والوصف يكون متحداً، إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى.