الأحد 11 / ذو الحجة / 1446 - 08 / يونيو 2025
قَالَ بَلْ أَلْقُوا۟ ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ۝ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ۝ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ۝ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى ۝ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ۝ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [سورة طه:70] يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى ، أنهم قالوا لموسى: إِمّا أَن تُلْقِيَ، أي: أنت أولاً وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ۝ قَالَ بَلْ أَلْقُوا، أي: أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [سورة الشعراء:44]، وقال تعالى: سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [سورة الأعراف:116] وقال هاهنا: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى وكانوا جماً غفيراً، وجمعاً كثيراً، فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضاً.

قوله: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ۝ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ قوله: بَلْ أَلْقُوا لا يرد هنا أن يقول قائل: كيف أمرهم بالإلقاء وهذا سحر، فكيف أمرهم بالسحر وهو منكر؟ فهم جاءوا بهذا لإبطال ما عنده، وجاء هو لإظهار المعجزة، فهم لا يقولون له: نلقي أو لا نلقي؟ إنما يقولون: من يبدأ؟، فقال لهم: ابدءوا، وهذا أظهر في المعجزة من جهة أن علوق الأذهان إنما يكون بما يكون آخراً، والأمر الثاني: أنهم إذا جاءوا بهذا فإن كل ما جاءوا به من هذه الأمور والأباطيل هذه الحية ستلتهمه، فقال لهم: بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى وهذا يدل على أن السحر الذي جاءوا به هو سحر التخييل، ويدل على هذا أيضاً في الآية الأخرى سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ فهذا سحر التخييل، فالسحر أنواع، ولا يقال كما تقول المعتزلة بأن السحر إنما هو من هذا القبيل وما شابهه، مثل معرفة خواص المواد، فهذه أنواع من السحر، وإلا فالسحر أنواع منه ما هو سحر حقيقي ليس تخييلا ولا معرفة خواص المواد، وهذا قد يمرض وقد يقتل بإذن الله، وما شابه ذلك وهذا هو السحر الحقيقي، ومنه ما يكون من قبيل سحر التخييل كما وقع هذا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ يصير الناس يخيل إليهم أن هذا الإنسان تخرج من فمه نار، أو أن هذا السيف يدخل في جوفه، ويخرج من الجهة الأخرى، وليس كذلك، لكن يسحر أعين الناس، ومنه نوع يعتمد على خفة اليد، فيظن من لا خبرة له بأن هذا الشيء الذي فعله هذا الإنسان سحرٌ، وهو ليس بسحر، إنما هو يعتمد على خفة اليد والمهارة في بعض الحركات، وهذا لا يجوز، لكنه ليس بكفر مخرج من الملة، - أعني هذا النوع الأخير الذي يعتمد على خفة اليد -، فهي خدع، ولذلك للأسف تجد في بعض محلات الألعاب والعجائب والتسالي ما هو كثير من هذا القبيل، أشياء يتعلمها الطفل ويتحيل بها، ولربما يتعلم الأطفال بعض الحركات، بل ربما بعض الكبار يأتون بذلك فاصلا بين دوراتهم المهارية – للأسف -، ففي دورة في بعض المهارات يأتي المدرب بفاصل فيه حركات تعتمد على خفة اليد، هي من قبيل هذا النوع من السحر الذي يعتمد على خفة اليد، ومثل هذا يختلف فيه العلماء منهم من يرى أنه كفر؛ لعموم ما ورد في قوله      - تبارك وتعالى -: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [سورة البقرة:102]، وقوله: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [سورة البقرة:102]، فأطلق على السحر أنه كفر، والأقرب أن هذا النوع الذي يعتمد على خفة اليد حرام ولا يصل إلى درجة الكفر المخرج من الملة، إنما الكفر المخرج من الملة هو ما كان مثل السحر الذي يكون فيه مخاطبة النجوم، والتقرب إلى الشياطين وما أشبه ذلك من النفث في العُقد، والذي لا يكون إلا عن طريق الشياطين، والإشراك بالله فهذا هو الكفر المخرج من الملة، وهو الذي يُقتل صاحبه حداً، وأما النوع الذي يعتمد على خفة اليد فهذا لا يقتل صاحبه على الأرجح، لكن يعزر بما يردعه، ولهذا مثل هذه الألعاب المفروض أنها تمنع، وأن الهيئة أو غير الهيئة لا يسمحون ببيعها، والنوع الآخر هو ما يعتمد على معرفة خواص المواد، ولهذا بعضهم يقول: إن هذه العصيّ وكذا هي أشياء كانت محشوة بالزئبق، فتحركت بناء على ذلك، لكن الله يقول: سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ فدل على أن السحر هو سحر تخييل، أما معرفة خواص المواد فقد ذكرته في درس الأوهام، وإتباع الأوهام مثل الذي يأتي بمادة مخدرة ويأتي للناس بحمامة ويضغط رقبتها فتدوخ ويغمى عليها من المادة المخدرة، ثم يرميها، ويظنونها ماتت، فيأخذها وينفضها فتفيق ثم يلقيها في الهواء وتطير، ويزعم أنه أحياها بمعرفة خواص المواد، وهكذا ذلك الرجل الذي كان يأتي بعصا، ويأتي بمادة تشبه السكر ويقول: إنها سكر، إذا وضع في رأس العصا مادة مقابلة لها يحصل الاشتعال، فيأتي ويقربها منها ويقول: انظروا كيف أشعل السكر، فهذه معرفة خواص المواد، وهكذا الذي جاء وصنع جهازاً ليوضع على قبة رجلٍ يعظمه اليهود، فيصدر صوتاً مثل صوت صغار طائرٍ يقال له: البراصل، فإذا صوّت هذا الصغير جاءت الكبار من الطيور وألقت عليه الزيتون، فجعل الجهاز إذا هبت الريح أصدر صوتاً مثل صوت هذا الطير، فتأتي الطيور من هذا النوع وتلقي الزيتون، فوضعه على فتحة في قبة على قبر معظم عندهم، وأظهر النسك، وسأل: متى مات هذا الحبر؟ فقالوا: في الوقت الفلاني، فصار يفتح هذه في يوم مولده وتلقى الطيور الزيتون ويسقط على القبر، فقالوا هذه كرامة، ففتنوا بذلك، فهذا أيضاً من معرفة خواص المواد، فعلى كل حال السحر أنواع، والسحر الذي جاءوا به هو سحر تخييل، وهنا قال الله تعالى: سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [سورة الأعراف:116]، فكيف كان هذا السحر عظيماً وهو سحر تخييل؟، وصفه الله بأنه عظيم، والواقع أنه عظيم باعتبار أنهم جاءوا بكميات هائلة من العصيّ والحبال فصارت أمام الناس كأنها حيات، فكأن المكان امتلأ بالحيات، فهو عظيم بهذا الاعتبار، وإلا فهو من قبيل سحر التخييل، فهذا الجمع بين هذه الآية والآية الأخرى، والله تعالى أعلم.