قوله: " كانت السحرة سبعين رجلاً" هذا ليس محل اتفاق وهذا كله مما تُلُقي عن بني إسرائيل، فبعضهم يقول: كانوا اثنين وسبعين، وبعضهم يقول: كانوا ثمانين، وبعضهم يقول: هم أربعمائة، وبعضهم يقول: اثنا عشر ألفا، وبعضهم يقول: أربعة عشر ألفاً، وبعضهم يقول: ثمانون ألفا، وبعضهم يقول: تسعمائة ساحر، انظر إلى هذه الأعداد ما بين سبعين فرداً إلى ثمانين ألفا، فلا يقال: الذين رأوهم قدروهم أنهم سبعون، أو اثنان وسبعون إلى ثمانين شخصاً، فهذا من سبعين فردا إلى ثمانين ألفاً! فهذا رقم لا يمكن أن يلتبس، إلا أن هؤلاء الكذابين النفّاجين يختلقون مثل هذه الأشياء، فالله تعالى أعلم بعدد هؤلاء السحرة، وكُتبُ بني إسرائيل حافلة بهذه الأكاذيب.
وقوله - تبارك وتعالى -: فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً سماهم سحرة وهم قد تابوا من السحر وآمنوا، هذا باعتبار ما كان، كقوله - تبارك وتعالى -: وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [سورة النساء:2]، متى يعطى اليتيم؟ كما قال الله : وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [سورة النساء:6] فإنما يعطى إذا تحقق فيه شرطان: البلوغ، مع حسن التصرف في المال، فسماهم يتامى، وقد فارقوا حال اليتم، فصاروا رجالاً، فهنا ألقي السحرة: باعتبار ما سبق وإلا فهم لم يبقوا سحرة.
قال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: وقوله: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان.
لأن بعضهم يقول: إن الموعد الذي وعدهم مكان، فيوم الزينة يعني: السوق مثلاً هذا مكان، وفي أي وقت؟ وبعضهم يقول: لا، هذا زمان، يوم عيد، وفي أي مكان إذن؟ فبعض أهل العلم يقول: لا منافاة بين هذا وهذا، فيوم الزينة هو يوم العيد، والمكان الذي يجتمعون فيه سوقُهم، فيكون حدد الزمان والمكان بهذه العبارة.
فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله: مَكَاناً سُوَىً، والزمان في قوله: يَوْمُ الزِّينَةِ وإن قلنا: إن الموعد اسم مكان أشكل عليه قوله لا نُخْلِفُهُ لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد، وأشكل عليه أيضاً قوله: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وإن قلنا: إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضاً قوله: لا نُخْلِفُهُ، وقوله مَكَاناً سُوَىً: هذه هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة. وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال: لا يخلو الموعد في قوله فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً ...
هذه الإشكالات التي ذكرها في اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى إذا قيل: إنه الزمان فكيف قال: مكاناً؟ وإذا قيل: إنه مكان، فكيف قال: لا نخلفه؟ وهذه قد تمر على كثير من الناس، يقرأ هذه الآيات ولا يقف عند هذا، ولا يخطر له في بال، ولا يدور في خيال، فمثل هذه الأشياء تأتي بالتدبر، ولذلك شتان ما بين قراءة وقراءة.
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له -: أظهرُ ما أُجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة: أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد، وأنه يكون مكاناً سُوًى، أي وسطاً بين أطراف البلد كما بيَّنا، وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزينة ضُحى؛ لأن الوعد لابد له من مكان وزمان، فإذا علمت ذلك فاعلم أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً إنه اسم مكان أي مكان الوعد، وقوله مَكَاناً بدل من قوله موعداً؛ لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان، فاتضح كون مَكَاناً بدلا، ولا إشكال في ضمير نُخْلِفُهُ على هذا، ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف: أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان، فالمنزل مثلاً مكان النزول، والمجلس مكان الجلوس، والموعد مكان الوعد، فإذا اتضح لك أن المصدر كامنٌ في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله لا نُخْلِفُهُ راجع إلى المصدر الكامن في مفهوم اسم المكان، كرجوعه للمصدر الكامن في مفهوم الفعل في قوله: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [سورة المائدة:8] فقوله هُوَ أي: العدل المفهوم من اعْدِلُوا وكذلك قوله تعالى: لا نُخْلِفُهُ، أي: الوعد الكامن في مفهوم اسم المكان الذي هو الموعد؛ لأنه مكان الوعد، فمعناه مركب إضافي وآخر جزأيه لفظ الوعد، وهو مرجع الضمير في لا نُخْلِفُهُ.
فإذا عرفت معنى هذا الكلام الذي أخبر الله أن فرعون قاله لموسى، فاعلم أن قوله عن موسى: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يدل على أنه وافق على طلب فرعون ضمناً، وزاد تعيين زمان الوعد بقوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ولا إشكال في ذلك. هذا هو الذي ظهر لنا صوابه، وأقرب الأوجه التي ذكرها العلماء بعد هذا عندي قول من قال: إن الموعد في الآية مصدر وعليه فـ لا نُخْلِفُهُ راجع للمصدر، ومَكَاناً منصوب بفعل دل عليه الموعد، أي: عِدْنا مكاناً سوى، ونصْبُ المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو مَوْعِداً أو أحد مفعولي اجْعَلْ غير صواب - فيما يظهر لي - والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: مكاناً سوىً، قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة: سُوى بضم السين والباقون بكسرها، ومعنى القراءتين واحد كما تقدم.
اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا الموعد باعتبار أنه مكان الوعد، لكن اسم المكان كما قال كامنٌ فيه معنى المصدر، فهو مكان الوعد اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ ليس بإخلاف المكان، وإنما لا نخلف الوعد، وهو المصدر الكامن في اسم المكان، فالوعد هو المصدر، والموعد اسم مكان، ولهذا قال بعده: لَّا نُخْلِفُهُ يعني الوعد الكامن في اسم المكان – الموعد -، ويكون بهذا قد جمع بين هذا وهذا.
تنبيه: في قوله - تبارك وتعالى -: وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي [سورة طه:18]، ذكرت قبل يومين قراءة: أهس، قلت هذه قراءة ابن كثير أو ابن عامر أو نافع، أخطأت، وليست قراءة متواترة بل منسوبة إلى النخعي، وعكرمة.