وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىَ [سورة طه:77-79]، يقول تعالى مخبراً أنه أمر موسى حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون، وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً، وأرسل في المدائن حاشرين، أي: من يجمعون له الجند من بلدانه ورَساتيقه، يقول: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [سورة الشعراء: 54-55]، ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه، ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين، أي: عند طلوع الشمس فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ [سورة الشعراء:61]، أي: نظر كل من الفريقين إلى الآخر، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، ووقف موسى ببني إسرائيل البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه فََاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً فضرب البحر بعصاه وقال: انفلقْ عليّ بإذن الله، فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [سورة الشعراء:63]، أي: الجبل العظيم، فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابساً كوجه الأرض، فلهذا قال: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً، أي: من فرعون وَلاَ تَخْشَىَ، يعني: من البحر أن يغرق قومك، ثم قال تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ، أي: البحر مَا غَشِيَهُمْ، أي: الذي هو معروف ومشهور وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور، كما قال تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [سورة النجم:53-54].
بعضهم يقول: فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ مما قد علمتم أن الأمر المعلوم يقال فيه ذلك، ولكن يبقى أن مثل هذا له دلالة وهو التعظيم والتهويل، فهذا التعبير بالاسم الموصول المبهم، يعني: ما قال فغشيهم اليم، وإنما قال: فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، فأبهم الاسم الموصول، فهذا أبلغ وأكثر وقعاً في النفوس، وكقوله - تبارك وتعالى - أيضاً في الاستفهام الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [سورة الحاقة:1-2]، فهذا أبلغ وأشد وقعاً في النفوس في مقامات الوعيد، أو في مقام التعظيم للجزاء ونحو ذلك فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى، ديار قوم لوط غشاها ما غشى من الحجارة، لكن إذا قال: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى يكون هذا أكثر تأثيراً ووقعاً.
وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم، فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [سورة هود:98].
قوله - تبارك وتعالى -: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى، فإنه لم يهدهم، وهذا لا شك أن فيه من التأكيد ما فيه بأنه ضلال محقق لا يحتمل الهدى بوجه من الوجه، يعني – أحياناً - قد يكون الشيء فيه ضلال من ناحية وفي مضامينه هدى من وجه آخر مثلاً، أو خير أو نحو هذا، وقوله : وَمَا هَدَى، قد يعْقبُ هذا الإضلالَ هدايةٌ بعد ذلك، أما فرعون فهو إلى آخر لحظة حيث كانت النهاية الغرق، وهو يلاحق موسى ويريد الفتك به ومن معه، وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى - نسأل الله العافية -، فقد تحصل الهداية بعد إضلال الإنسان، ويرجع كما حصل لبعض كبراء المشركين، أضلوا قومهم وقادوهم إلى حرب النبي ﷺ كما فعل أبو سفيان ثم بعد ذلك كانت النهاية الاهتداء، أما هذا فنسأل الله العافية.