الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰٓ أُو۟لَٰٓئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء: 101] قال عكرمة: الرحمة، وقال غيره: السعادة.

على كل حال هذا يبدو - والله أعلم - غير متعارض، الرحمة أو السعادة أو الجنة، فإن الجنة هي رحمة الله  أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء والسعادة: لا شك أن من سبقت لهم السعادة فهم أهل الجنة، وأما من عبر عنها بأنها الجنة فهذا أوضح، فهو غير محتمل لمعانٍ أُخَر؛ ولهذا الله يقول: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [سورة يونس:26] فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.

أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كما قال تعالى: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26]، وقال: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60] فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم، ونجاهم من العذاب، وحصل لهم جزيل الثواب، فقال: أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۝ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء: 101-102] أي حريقها في الأجساد.

هو حريقها في الأجساد، الحسيس هو الصوت، صوت الشيء الذي يمر بك قريباً منك، أو نحو ذلك، وهذا يكون حينما تسمع الأصوات بدقة، يعني يكون هدوء، مثلاً في جوف الليل يمكن أن تسمع من يمشي بجوارك، وهو مأخوذ من الحس في أصله؛ ولهذا لا زال الناس يستعملون هذا في الإحراق في النار ببعض صوره يسمونه حسيساً، الآن حينما توضع رءوس الغنم أو نحو ذلك على النار، هذا ماذا يسمى إلى اليوم؟ يسمى حسحسة، أليس كذلك؟ يقال له هذا، فحينما تقلبها على النار تسمع أصواتاً معينة، أصوات وهي تأكل الشعور، أصوات بعض السوائل فيها تحترق، وما إلى ذلك حتى تصير في حال من اليبوسة، فالنار لها صوت وهي تأكل هذه الأشياء لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا هذا معنى ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، قال: أي حريقها في الأجساد، صوت احتراق الأجساد، فهذا صوت مفزع، فلا يكون لأهل الجنة راحة ولذة ونعيم وهم يسمعون هذه الأصوات، فستفزعهم قطعاً.

الإنسان إذا رأى النار في الدنيا يفزع، فكيف بنار جهنم التي يلقى فيها الشمس والقمر، شيء هائل، الإنسان أضعف من هذا، الإنسان قد لا يستطيع أن ينظر إلى منحدر، أو من علو شاهق، لا يستطيع أن ينظر إلى الأرض أحياناً، فكيف بالنار التي يلقى الشيء فيها، ويصل بعد سبعين خريفاً إلى قعرها؟!، لو لم يكن فيها نار لصارت مفزعة لأجل الإلقاء فقط، أو النظر، فكيف إذا كانت تضطرم من النار بصورة دائمة لا تنقطع؟!.

وقوله: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء: 102] فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب، يقال: نزلت استثناءً من المعبودين، وخرج منهم عزير والمسيح، كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] ثم استثنى فقال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] فيقال: هم الملائكة وعيسى، ونحو ذلك مما يُعبد من دون الله ، وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار - رحمه الله - في كتاب السيرة: وجلس رسول الله ﷺ فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله ﷺ فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه، وتلا عليه وعليهم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ إلى قوله: وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 100] ثم قام رسول الله ﷺ، وأقبل عبد الله بن الزبعرَى السهمي حتى جلس معهم، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرَى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذُكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال: كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشيطان، ومن أمرهم بعبادته وأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ۝ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء: 101- 102] أي: عيسى وعزير ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله، ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] إلى قوله: وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 29] ونزل فيما ذُكر من أمر عيسى وأنه يُعبد من دون الله، وعجَبِ الوليد ومن حضره من حجته وخصومته وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ۝ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ۝ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف: 57-61] أي: ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، فكفى به دليلاً على علم الساعة، يقول: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [الزخرف: 61] وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير؛ لأن الآية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل؛ ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها؛ ولهذا قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ​​​​​​​ [الأنبياء: 98] فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرضَ بعبادة من عبده؟!.

على كل حال هذه الراوية من طريق محمد بن إسحاق، وهي لا تصح من جهة الإسناد، ولكن الروايات التي وردت في سبب النزول بهذا المعنى كثيرة، وهذه الروايات متفاوتة، لكن مجموع هذه الروايات يقوي بعضه بعضاً، فأصل ذلك صحيح، ويصح أن يقال: إن سبب النزول هو هذا الإيراد والاحتجاج الذي حصل، والاعتراض على رسول الله ﷺ، فنزلت الآية بسبب ذلك، وإن كانت آحاد هذه الروايات قد لا تصح، وإنما تعتضد بغيرها، والكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا في الرد عليهم يتضمن أمرين، أما الرواية فإن فيها الاستثناء الواضح الصريح إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] لكن ما ذكره بعده، قال: لأن الآية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل، في هذين السطرين جوابان، الجواب الأول:

أن هذا خطاب لأهل مكة فلا يرِد عليه مَن عبَد المسيح ومَن عبَدَ العُزير، فلا يقول قائل منهم: إذاً نحن مع المسيح ومع العزير، لكن هذا الجواب يرد عليه إيراد وهو أن من العرب من عبد الملائكة، وجاء هذا في بعض الروايات أنهم قالوا: عبدنا الملائكة، فهل الملائكة معنا؟

والجواب الثاني المضمن في كلام ابن كثير - رحمه الله -: أن (ما) لما لا يعقل إِنَّكُمْ وَمَا والملائكة والعزير وعيسى - عليهم الصلاة والسلام - هؤلاء ممن يعقل، فذلك لا يتناولهم، وإنما يتناول هذه المعبودات التي عبدها المشركون من الأوثان ونحو ذلك، وهذا حاصل كلام ابن كثير - رحمه الله -، فصارت هذه هي الأجوبة المضمنة في كلامه، ولم يكن ذلك لابن كثير وحده، بل ذكر جماعة من أهل العلم هذه الردود والأجوبة على المشركين، منهم الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، لكن يكفي أن يقال: إن المقصود كل ما عبد من دون الله وهو راضٍ بهذه العبادة، سواء أمر بها أو رضي، فيدخل فيه من عُبد من البشر، البشر الذين يُقدَّسون من المقبورين أو من الأحياء، إذا كانوا يرضون بهذا، فالشاهد أن هذا هو المراد، والعلم عند الله .