وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:107] يخبر تعالى أن الله جعل محمداً ﷺ رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [سورة إبراهيم:28- 29]، وقال تعالى في صفة القرآن: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44] وقال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله ادع على المشركين. قال: إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة[1] انفرد بإخراجه مسلم.
وروى الإمام أحمد عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله ﷺ، فجاء حذيفة إلى سلمان، فقال سلمان: يا حذيفة إن رسول الله ﷺ كان يغضب فيقول ويرضى فيقول، لقد علمت رسول الله ﷺ خطب فقال: أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون، إنما بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة[2]. ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة، فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:107] قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
قوله - تبارك وتعالى-: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ فعم الله - تبارك وتعالى - ببعثه وإرساله العالم بأسره فهو رحمة مهداة ﷺ.
وعبارة ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره جيدة وجامعة وفيها، في ضمنها جواب عن هذا السؤال الذي ذكره بعده، فقد قال: "يخبر تعالى أن الله جعل محمداً ﷺ رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة".
فالنبي ﷺ رحمة للعالمين، فمن الناس من دنى من الرحمة وأقبل عليها فانتفع، ومن الناس من ابتعد فلم ينتفع، فالمطر رحمة، فمن الناس من ينتفع به فيزرع، ومن الناس من لا ينتفع به بل قد يحصل له الضرر، عن جابر بن عبد الله ا، قال: جاءت ملائكة إلى النبي ﷺ وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد ﷺ، فمن أطاع محمدا ﷺ فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا ﷺ، فقد عصى الله ومحمد ﷺ فرق بين الناس[3].
ألا ترى أن من الناس من لا ينتفع بالأطباء ودوائهم، بل ولا يذهب إليهم، وإذا أصابه الداء فإنه لا يتطبب، وقد قال النبي ﷺ: ما أنزل الله من داء إلا جعل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله[4]، فوجود هذا الدواء هو نعمة من الله .
والله تبارك وتعالى يخبر أن العسل فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ [سورة النحل:69]، ولكن من الناس من لا ينتفع بالعسل ولا يقبل عليه، ولا يتداوى به ولا يطعمه.
وكذلك أخبر عن هذا القرآن بأنه شفاء لما في الصدور، وأخبر عن المجرمين والظالمين والمكذبين والكافرين أنه عليهم عمى، وأن الآيات التي تنزل يقول: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125]، وذلك لأن الكفار أعرضوا عن القرآن ولم ينتفعوا بها.
وقال بعض أهل العلم أن النبي ﷺ حصل بسببه الانتفاع به، فالمنافقون استفادوا حقن الدماء، وأحرزوا أموالهم في الدنيا، وحصل لهم ما يحصل من الأموال والغنائم إذا حضروا القتال، وأما الكفار فإنها لم تنزل بهم العقوبات المستأصلة التي نزلت في الأمم السابقة، والله يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [سورة الأنفال:33]، فبعثه ﷺ رحمة للعالمين، فلم ينزل العذاب بهذه الأمة كما نزل في الأمم، العذاب المستأصل، كما نزل في الأمم السابقة.
- رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (4 / 2006)، برقم (2599).
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله ﷺ (4 / 347)، برقم (4661)، وأحمد (39 / 110)، برقم: (23706).
- رواه البخاري (6/2655)، برقم: (6852).
- رواه المستدرك، كتاب الطب، (4 / 218)، برقم (7424).