قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا خَلَقْنَا السّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ فالله - تبارك وتعالى - خلق ذلك لغاية وحكمة عظيمة، ولم يكن ذلك للتلهي أومن غير حكمة أوجد الخلق من أجلها، فالله إنما خلق هذه الأكوان، والمخلوقات، والجنة والنار، كل ذلك بالحق، وقوله - تبارك وتعالى -: لَوْ أَرَدْنا أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا، اللهو بعضهم فسره بالولد، قالوا: هذه الآية رد على الذين نسبوا إلى الله الولد، وبعضهم فسره بالزوجة؛ لأنه يُتلهى بها، يقولون: هذا رد على الذين نسبوا له الصاحبة، وبعضهم يحمل المعنى على ما هو أعم من ذلك، يقول: اللهو كل ما يتلهى به، ويدخل فيه اللعب، والله وصف الحياة الدنيا بأنها لعب ولهو، فكل ما يتلهى به فهو لهوٌ، فالله - تبارك وتعالى - يقول: وَمَا خَلَقْنَا السّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا، فاللهو يدخل فيه ما يتلهى به، ويذكر بعض أهل العلم الفروقات بين اللهو واللعب، فكل ما يتلهى به فهو لهو، وكل لعب فهو لهو، واللهو منه ما هو باطل، ومنه ما يكون حقاً، وبعض أهل العلم يقول: إن اللعب هو ما يأنس به الإنسان في أوله ويقبل عليه من أجل أن يأنس به ونحو ذلك، واللهو أوسع من ذلك، قد لا يحصل به الاستئناس كالذي ينشغل في الدنيا، ولو كان يشقى بها ويتعب، ينشغل بدنياه عن الآخرة، فهذا مشتغل باللهو، وهكذا إذا اشتغل بشيء يصرفه ويشغله عن الله ، ولو لم يكن فيه راحة وأنس، أما اللعب فإنه إقبال على شيء يستهويه، لكن دون أن ينتفع بذلك ويخرج منه بما يرفعه، ويحصل له به الأجر والثواب ونحو ذلك، فاللعب من اللهو، واللهو أوسع من هذا.
يقول: لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا قال: "أي من عندنا"، من عندنا يعني من جهة قدرتنا لا من عندكم، كما يعبر بعض أهل العلم، وابن القيم - رحمه الله - عبر بعبارة أخص من هذا فيقول: أي من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء، لا من جوهر هذا العالم الأرضي الذي ركب هذا التركيب الذي يخالطه ويمازجه الأدناس والفناء، ومثل هذه المواضع قد لا يتجاسر الإنسان فيها على بعض العبارات، وإنما يعبر بعبارة مجملة كما قال مجاهد، وبعضهم قال: لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً أي: من الحور العين، والدخول في مثل هذه التفصيلات قد يكون الأحسن منه ما ذكره مجاهد، وبعضهم قال: لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً إنه لهو الجماع، ففسروا اللهو بالجماع، ومثل هذا لا حاجة إليه، والله أعلم.
هذا الذي يسمونه بالكليات، كل شيء في القرآن كذا فهو كذا، مثل كل الريح في القرآن فهو العذاب، وأحياناً يستثنون، يقول لك: إلا في قوله: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [سورة يونس:22].
كل شيء في القرآن القتل فهو اللعن مثلاً إلا كذا، لكن هذا يحتاج إلى استقراء، هل هي في كل المواضع فعلاً كذلك أو لا، وهذا يسمونه بالكليات في التفسير، والكليات تأتي بمعنيين، تأتي بمعنى ما يقابل الجزئيات، فالقضايا الكلية كالتوحيد، وقضايا الأخلاق، أصول الأخلاق، وما أشبه ذلك يقال لها: الكليات، مثلما يقال: الكليات الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل والعرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، يقال لها: كليات، ويقال: الكليات لما كان من هذا الشأن، كل كذا فهو كذا، هذا غير هذا، ولذلك تجد أحياناً في بعض الكتب التي تعنى بالكليات، في بعضها المقصود هذا: كل كذا فهو كذا، والقواعد يقال لها: كليات، ولو لم تكن مبدوءة بكل؛ لأنها تنتظم الجزئيات الكثيرة، فالقاعدة قضية كلية وليست جزئية، فالقواعد كليات، وتارة يراد بالكليات المعنى الآخر: أي هي أصول الدين الكبار، ودعائمه العظام، وما أشبه هذا.
وقوله هنا: "كل شيء في القرآن "إن" فهو إنكار"، فقوله: إِن كُنّا فَاعِلِينَ أي: ما كنا فاعلين، وتأتي مخففة من الثقيلة أحياناً، وتأتي شرطية، ومن أهل العلم من قال بأنها نافية إِن كُنّا فَاعِلِينَ أي: وما كنا فاعلين، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ، ولم نكن فاعلين ولم نتخذ لهواً، وبعضهم يقول: بل هي شرطية، وبعضهم يُجّوز الأمرين، وقد يحتمل أن تكون شرطية ويحتمل أن تكون نافية، فإذا كانت شرطية يكون إِن كُنّا فَاعِلِينَ يعني إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذنا من لدنا إِن كُنّا فَاعِلِينَ، تكون شرطية، إن كنا ممن يتخذ لهواً لاتخذناه من عندنا، وهذا الكلام أيضاً في الآية الأخرى، وهي قوله - تبارك وتعالى -: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81]، فـ"إن" هنا شرطية، إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، لكن فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، فأنا أول العابدين لله، على قول جماعة كبيرة من السلف وممن بعدهم، وبعضهم يقول: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لهذا الولد، لكنه غير موجود، فقال ذلك على سبيل التنزل، وعلى هذا المعنى يمكن أن يكون ذلك داخلاً تحت القاعدة، وهي: أن التعليق بالشرط لا يعني إمكان الوقوع، إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، والله أعلم.