أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السّمَاءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة الأنبياء:30-33].
يقول تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات، فقال: أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أي: الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره، أو يشرك به ما سواه؟، ألم يروا أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً أي: كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، فجعل السموات سبعاً، والأرض سبعاً، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض؛ ولهذا قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء.
ففي كل شيء له آية | تدل على أنه واحد |
قوله - تبارك وتعالى -: أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً الرؤية هنا رؤية قلبية بمعنى العلم، أوَلم يعلم؛ لأنهم ما شاهدوا هذا بأعينهم وأبصارهم، ويكون المعنى أَوَلَمْ يَرَ أي: أوَلم يعلم.
وقوله - تبارك وتعالى -: أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً الرتق: هو السد، وهو ضد الفتق، فيقال: رتقه أي سده، والسلف اختلفوا في هذا الرتق ما المراد به فبعضهم يقول: كانت السماء ملتصقة بالأرض ثم بعد ذلك فصلت، وبعضهم يقول: كانت السماوات السبع متلاصقة، وكانت الأرضون السبع متلاصقة، ففتق الله هذه وهذه فصارت السماوات طبقات بين كل طبقة وطبقة مسافة، وبعضهم يقول: كَانَتَا رَتْقاً يعني: فتقها بالهواء، وقوله: فتقها بالهواء يرجع إلى ما سبق، فإذا كانت متلاصقة فمعنى ذلك أنه لا هواء بينها، وبعضهم يقول: كانت مظلمة ففتقها بالنور والضياء، وهذا يرجع إلى أنه لما وجد هذا الفاصل بين السماء والأرض وجدت الشمس والنجوم والقمر فصارت مضيئة، فَفَتَقْنَاهُمَا، وبعضهم يقول: المراد بالرتق أن السماء كانت لا تمطر، والأرض لا تنبت، وقالوا: إن هذا يفسره قوله - تبارك وتعالى -: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [سورة الطارق:11-12]، فالرجع قالوا: هو المطر، والصدع: أي أنها تنصدع عن النبات: تنشق، والله يقول: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [سورة عبس:25-26]، فشقها بالنبات، وهذا كله من دلائل قدرته - تبارك وتعالى -، وهذا القول قال به جماعة من أهل العلم وهو قول له وجه قوي من النظر، ولا يبعد أن تكون هذه الآية من سورة الأنبياء مفسرة بالآية الأخرى وهي قوله: وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ، وهناك قرينة أخرى في هذه الآية قد ترجح هذا المعنى وهي قوله بعده: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، فـ رَتْقاً أي: لا تمطر، يعني السماء، والأرض لا تنبت، فشق هذه بالمطر وشق هذه بالنبات، ثم قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وهذا القول رجحه الشنقيطي وانتصر بأدلة متعددة، وزاد بأن قوله - تبارك وتعالى -: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا لو كان المراد أنها متلاصقة فإن الكفار لم يروا ذلك، والذين قالوا بأنها كانت متلاصقة، يقولون بأن الرؤية قلبية وليست بصرية، يعني أوَلم يعلم، لكنه يقول: إن الغالب في القرآن أنّ "رأى" المقصود بها الرؤية البصرية في الغالب، لكن إذا حمل على الغالب أن الرؤية بصرية فهم لم يروا السماء ملتصقة بالأرض حينما كانت ملتصقة على القول الآخر، ولكنهم يشاهدون كيف أن المطر ينزل فتنشق الأرض عن النبات، ويمكن أن يرد على هذا الاستدلال بأن يقال: إن القول بأن الأرض كانت لا تنبت والسماء لا تمطر أنه كان ذلك في أول الأمر، بمعنى أن الأرض أصلاً لا تنبت والسماء لا تمطر أصلاً، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات، فالذي يشاهدونه هم هو ما آل إليه أمرها ثانياً، أما حينما ذكر الله هذه الصفة فهم ما شاهدوا هذا، فتبقى الرؤية أيضاً قلبية، حتى على هذا القول، ومهما يكن فهذه الأقوال يبقى أن منها ما يرجع إلى القول بأنها كانت متلاصقة، يعني حينما يقال: فتق هذه بالضياء، أو فتق هذه بالهواء، فهذا يرجع إلى القول بأنها كانت ملتصقة، وابن كثير - رحمه الله - حاول أن يجمع بين الأقوال الأولى، بمعنى أن السماء كانت ملتصق بالأرض، وكل سماء ملتصقة بالثانية، كما أن الأرضين قد التصق بعضها ببعض، كلها، فحاول رحمه الله أن يجمع بين الأقوال بحيث إنه فصل السماء عن الأرض، وفصل كل سماء عن السماء الأخرى، ووجد الضياء بين السماء والأرض، كما وجد الهواء أيضاً، والآية إذا قيل فيها بأن السماوات جميعاً كانت ملتصقة لا يشكل عليه بأن السماء مفرد؛ لأن السماء المقصود بها الجنس، فيصدق على الجمع، ولهذا وصف بالمصدر كَانَتَا رَتْقاً، وأما التثنية هنا كَانَتَا فباعتبار التقابل بين السماء والأرض، فالسماء جنس واحد كما أن الأرض جنس واحد، فقال: كَانَتَا رَتْقاً، أما ما يزعمه أصحاب الإعجاز العلمي والتفسير العلمي من أن قوله: أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا بأن الأرض كانت ملتصقة بالشمس، وحصلت انفجارات قبل ملايين السنين، فانفصلت الأرض عن الشمس، والحديد الموجود، أو يزعمون أنه موجود في نواة الأرض، وأنه جاء إلى الأرض من الشمس، وإلا فهو ليس من عناصرها أصلاً، وهذا الكلام باطل، ولا صحة له، ولا حصل انفجارات ولا شيء، والله أخبرنا أنه خلق الأرض في يومين، وخلق السماء في يومين، وأن الله دحاها في يومين، وكل ما يقولونه لا أساس له، ومخالف لظاهر القرآن، فالله قال: أَنَّ السَّمَاوَاتِ ولم يقل: أن الأرض والشمس، والشمس لا يقال لها سماء لا لغة ولا شرعاً إطلاقاً، فإذا قيل: السماء فهي ليست الشمس، لكن هؤلاء يأخذون عن هؤلاء الغربيين الذين لا يعرفون الله، ولا يعرفون الوحي، وكل ذلك يبنونه على هذه التخرصات، فلا يجوز تصديقهم في هذا ولا تفسير الآيات بهذا، والله أعلم.
قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ كثير من المفسرين فسروا الماء بأن المراد به النطفة، والله أخبر أنه خلق الإنسان من ماء مهين، وقالوا: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: من النطفة، ويكون بهذا الاعتبار من قبيل العام المراد به الخصوص، باعتبار أنه قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء فالماء هنا يشمل كل ماء، لكنه أريد به النطفة، يعني أريد به معنىً خاص، وهذا الماء هو النطفة، فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى، هذا الذي يسمى العام المراد به الخصوص، وبعض أهل العلم يحمله على ظاهره، يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: الماء الذي أنزله الله من السماء، وصار مختزناً في الأرض، فيخرج منها باستخراج الناس من الآبار، أو بالينابيع، أو غير ذلك، ويكون ذلك إما مباشرة بالحيوانات التي لا تعيش إلا بالماء، وقوامها وحياتها به مباشرة، وهكذا الشرب، وهكذا أيضاً بطريق الواسطة، يعني باعتبار أن هذا الماء يخرج من النبات، والإنسان والحيوان يتغذى على هذا النبات، فالله جعل من الماء كل شيء حي بهذا الاعتبار، فإذا لم يوجد هذا الماء سيهلك الإنسان والحيوان والنبات، ويكون النبات داخلاً فيه بهذا الاعتبار، فالنبات فيه حياة، وإن لم تكن مثل حياة الحيوان.
على هذا القول المروي عن ابن عباس - ا -، يمكن أن يفسر بأنها كانت ملتصقة، يعني لا يخرج عنه.
الآن..، هذا القول من ابن عمر قد يفهم منه أن ابن عمر كان عنده ما يستند إليه في تفسير هذه الآية بهذا المعنى، فلما رأى أن ابن عباس قاله وعرفه، قال: قد علمت أنه قد أوتي علماً، وإلا لو كان مجرد اجتهاد عند ابن عمر فكيف يجزم أن ابن عباس قد أوتي علماً حين وافقه؟ اجتهاد وافق اجتهاداً، فلو خالفه لا ينفي هذا عن ابن عباس أنه قد أوتي علماً؛ لأنه قد علم أمراً، قال: هكذا كانت، فجزم بهذا، مع أنه شديد التورع، وما كان يقدم على التفسير كإقدام ابن عباس - ا -، ولهذا كان يقول: ما كان يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن، فكأنه وجد عنده ما يستند إليه في هذا المعنى، وهذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير واختاره جماعة كثيرة من المفسرين منهم القرطبي، وابن عطية صاحب المحرر الوجيز، أما القول بأنه كانت الأرض ملتصقة بالشمس فهذا ما قال به أحد، وهذا يعود إلى جميع أقوال السلف بالإبطال.
وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتْقهما الذي ذكر الله في كتابه، وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء.
وقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أي: أصل كل الأحياء منه، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء، قال: قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال: أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام[1]، وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سُليم، والترمذي يصحح له.
الحديث هذا ثابت صحيح، وفيه قال النبي ﷺ: كل شيء خلق من ماء ولفظة "كل" أقوى صيغة من صيغ العموم، ولا يرد على هذا أن الإنسان خلق من طين، وأن الجن خلقوا من مارج من نار، فهذا أصل الخلقة، ولكن بعد ذلك فإن الإنسان خلق من نطفة، وهي من الماء، وقوامه إنما هو بالماء.
- رواه أحمد في المسند برقم (7932)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي ميمونة، فقد روى له أصحاب السنن الأربعة، وهو ثقة، والحاكم في المستدرك برقم (7278)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الألباني: "إسناده صحيح" كما في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (3/238).