الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِى ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ أي: قائلين فيما بينهم خُفية: هَلْ هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يعنون رسول الله ﷺ يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم، فكيف اختص بالوحي دونهم؟.

النجوى كما هو معلوم لا تكون إلا بالسر؛ لأن النجوى هي الحديث الذي يكون بين اثنين فأكثر مما يقصد به الانفراد عن الناس، هذه النجوى، فالله يقول: وَأَسَرّواْ النّجْوَى مع أن النجوى لا تكون إلا سراً، فهذا يدل على أنهم بالغوا في إخفائها، وَأَسَرّواْ النّجْوَى أي أخفوا النجوى.

وقد يتناجى أناس ويعلم أنهم يتناجون لكن لا يعرف مضمون النجوى، فكأن هؤلاء لشدة مبالغتهم في الإخفاء أخفوا النجوى نفسها، وَأَسَرّواْ النّجْوَى، مبالغة ولم يكتفوا بالتناجي بينهم.

وقوله - تبارك وتعالى -: الّذِينَ ظَلَمُواْ فيها أقوال كثيرة للمفسرين من جهة الإعراب، ومعلوم أن الإعراب تحت المعنى، فيتغير الإعراب بحسب اعتبارات المعاني، كما أن لك أن تقول أيضاً: إن المعنى تحت الإعراب، فقوله: وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ، بعضهم يقول: إن قوله: وَأَسَرّواْ النّجْوَى معناها أظهروا النجوى؛ لأن كلمة أسر هذه من الأضداد تأتي بمعنى أخفى، وتأتي بمعنى أظهر، ولكن هذا قد لا يدل عليه السياق، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ بعضهم يقول: هذا محل نصب، أعني الّذِينَ ظَلَمُواْ، وبعضهم يقول: هو بدل من الواو في قوله: وَأَسَرّواْ فهم أسروا النجوى، فيكون بدل بعض من كل، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ، فالذين أسروا النجوى هم الذين ظلموا، وبعضهم يقول غير هذا، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يرجح هذا القول بأن الّذِينَ ظَلَمُواْ بدل من الواو في قوله: وَأَسَرّواْ، وهذا من أوضح الأوجه، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ أي: قائلين فيما بينهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ، هَلْ هَذَا، هذه الجملة أيضاً يحتمل أن تكون بدلاً من النجوى، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ ومضمون هذه النجوى، قالوا فيها: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ فيكون بدلاً من النجوى، يعني أسروا قولهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ. ويحتمل غير هذا، يمكن أن يكون معمولاً لقول محذوف، وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ قالوا: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ، وحذْفُ القول كثير في القرآن، والعرب تحذف من الكلام ما تستغني عنه ثقة بفهم السامع أو المخاطب، من باب الاختصار، وعلى كل حال يحتمل هذا وهذا، والله أعلم.

وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ قالوا: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ، يعنون رسول الله ﷺ يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم، فكيف اختص بالوحي دونهم؟، وهذا كالآيات التي سبقت في مناسبات شتى وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94]، وهكذا في قوله: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ [سورة التغابن:6]، و أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [سورة المؤمنون:47] وغير ذلك من الآيات.

ولهذا قال: أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أي: أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر؟، فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب: قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَاءِ وَالأرْضِ أي: الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض.

وقوله: وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ أي: السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد.

كذلك في قوله: قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَاءِ وَالأرْضِ، وفي القراءة الأخرى المتواترة قل رب يعلم، ومعنى ذلك - والله تعالى أعلم - أنه قال لهم مجيباً: رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَاءِ وَالأرْضِ يعني: هذا الذي قلتوه، وهذا الذي تناجيتم به، وهذا التكذيب الذي صدر منكم، وهكذا ما أنسبه إلى الله وأضيفه إليه من أنه كلامه كل ذلك الله - تبارك وتعالى - يعلمه، ولا يخفى عليه من قيل القائلين قليل ولا كثير.