وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [سورة الأنبياء:51-56].
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه آتاه رشده من قبل، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ [سورة الأنعام:83] والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل، أي من قبل ذلك، وقوله: وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ أي: وكان أهلا لذلك.
قال كثير من المفسرين: إن قوله: مِن قَبْلُ يعني: قبل النبوة، وإن تكسيره للأصنام وقع في صغره، وهو في السادسة عشرة من عمره، وقال بعضهم: في السادسة والعشرين، والقول بأن إبراهيم كسر الأصنام قبل النبوة هو قول عامة المفسرين.
وقال بعض أهل العلم إن الله لما ذكر خبر موسى وهارون ذكر إبراهيم ﷺ، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ أي: قبل موسى وهارون، فإنه متقدم عليهما كما هو معلوم، وهذا الذي اختاره ابن جرير وابن القيم، ولعله أقرب؛ لأنه لا يوجد دليل يدل على أن إبراهيم ﷺ كسر الأصنام وهو في الصغر.
وقول ابن كثير في قول الله – تبارك وتعالى -: وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ "أي: وكان أهلا لذلك"، وقال البغوي: أهل للهداية والنبوة، وقول ابن كثير لا يقتضي هذا، ومعناه أن الله عالم به أنه أهل لإيتائه الرشد قبل النبوة.
وقال بعض أهل العلم: وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ يعني: أهل لإيتائه الرشد، وقال بعضهم: وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ أي: بأوصافه وأحواله وكمالاته، وما أعطاه الله فهو أهل لما منحه الله من النبوة، والخلّة، ولا شك أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - هم أكمل قومهم، وقد اصطفاهم الله من بين سائر الناس، فقال : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة الحـج:75] فالنبوة منحة إلهية، وفضل من الله يوليه من شاء من عباده عن علم وبصر، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، خلافاً لقول الفلاسفة: إن النبوة تحصل بالعلم والعمل، يعني بالتهذيب والتزكية للنفس حتى يصل الإنسان إلى مرتبة عالية يستحق معها النبوة، وهذا لا شك أنه كفر، ولا يجوز، ولما قال الإمام ابن حبان - رحمه الله -: النبوة العلم والعمل، فقد كاد أن يقتل؛ لأنه فُهم منه أنه يقول بقول الفلاسفة وهو لا يقصد هذا.