الأحد 02 / ربيع الآخر / 1446 - 06 / أكتوبر 2024
وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ ۝ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنبياء:87-88].

هذه القصة مذكورة ههنا وفي سورة الصافات وفي سورة "ن"، وذلك أن يونس بن متى ، بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله تعالى، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله وجأروا إليه، ورغت الإبل وفُصْلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [سورة الأنبياء:89].

وأما يونس فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ [سورة الصافات:141] أي: وقعت عليه القرعة فقام يونس وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً، ولا تهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً.

الله أخبرنا أن الحوت التقم يونس ، والأثر الذي نقل عن ابن مسعود أن الحوت جاء من البحر الأخضر أو أن الله قال له: لا تأكل له لحماً، ولا تهشم له عظماً، يحتمل أن يكون مما أخذ عن بني إسرائيل، ولا حاجة إليه، فهو بقي حياً بأمر الله في بطن هذا الحوت، والله ذكر خبره فقال: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ [سورة الصافات:139-141] فقوله: إِذْ أَبَقَ يدل على أنه خرج بغير إذن الله، والله قال: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ [سورة القلم:48]، فنهاه أن يكون مثله، والله - تبارك وتعالى - هنا قال: وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ذهب مغاضباً، قال بعض العلماء: ذهب مغاضباً لربه - تبارك وتعالى -، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وقال به جماعة من السلف كالحسن وسعيد ابن جبير، ومن أهل العلم مثل النحاس ومن المعاصرين الشنقيطي يوجه هذا يقول: إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا الذين قالوا: مغاضباً لربه، قصدوا بذلك أنه مغاضباً من أجل ربه، لا أنه غاضب ربه، وإنما ذهب مغاضباً من أجل ربه - تبارك وتعالى -، وبعضهم يقول: ذهب مغاضباً لقومه وهذا قال به طائفة، وبعضهم يقول: ذهب مغاضباً لملك في ذلك الزمان، وهذا أضعف هذه الأقوال، وبعضهم يقول: إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا بمعنى أنه أصابته الأنفة مما حصل لقومه حينما أبوا أن يستجيبوا له، ثم بعد ذلك تركهم دون أن يأذن الله له.

والذي يحصل به المقصود في فهم الآية هو أنه كما أخبر الله - تبارك وتعالى - أنه ذهب مغاضباً، واستعجل في هذا الذهاب قبل أن يأمره الله بمفارقتهم والخروج عنهم؛ لأن الله قال: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، والله يقول: وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، ولذلك الله يقول: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [سورة الصافات:142] يعني قد فعل ما يستحق عليه اللوم، وهذا دليل على أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر التي لا تحط من قدرهم، ويمكن أن يمثل بمثل قصة آدم في الأكل من الشجرة، ولكن لا يصرون عليه، وإنما يتوبون فيرفعهم الله ، وتكون حالهم بعد الذنب أفضل من حالهم قبله، والعلم عند الله .

وقوله: وَذَا النُّونِ يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.

قول الله : وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ يفسر قوله: وَذَا النُّونِ والنسبة عادة تكون لأدنى ملابسة، فقد ينسب الإنسان للبلد التي يقيم فيها وقد ينسب لشيء آخر لأدنى ملابسة، فلما التقمه الحوت قيل له ذلك، فيقال مثلاً: أصحاب الجنة، أصحاب النار، أصحاب الأعراف، وقوله - تبارك وتعالى -: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [سورة الأحزاب:18]، نسبهم إليهم وأثبت لهم هذه الأخوة، فإن كانوا من المؤمنين اشتراكهم في القبيلة أو البلد الواحد.

وقوله: إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً قال الضحاك: لقومه.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - يرجح أنه ذهب مغاضباً لقومه، وهذا هو الأليق والأقرب، إذ كيف يقع من نبي من الأنبياء أنه يذهب مغاضباً لربه - تبارك وتعالى -، ولكن سبق توجيه بعض أهل العلم لهذا أنه ذهب مغاضباً من أجل ربه، وبعضهم يقول: إنه قوله: مُغَاضِباً هنا بمعنى أنه غاضب؛ لأن أصل المفاعلة تكون بين طرفين فأكثر تقول: المقاتلة، والمحادثة والمحاورة، والمحاجة، والمخاصمة، وما أشبه ذلك، لكن هذا ليس دائماً، فبعضهم يقول: هذا من هذا القبيل ذَهَبَ مُغَاضِباً حينما يقال: إنه ذهب مغاضباً لربه - تبارك وتعالى -، هذا الغضب واقع من طرف واحد، فيقولون: المقصود به أنه ذهب غاضباً، والأقرب - والله أعلم - أن المقصود به أنه ذهب مغاضباً لقومه، وخرج قبل أن يأذن الله له.

فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي: نضيق عليه في بطن الحوت، يروى نحو هذا عن ابن عباس - ا - ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [سورة الطلاق:7].

هذا قول الجمهور من المفسرين، أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: لن نضيق عليه، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي: ضيق عليه رزقه، وذهب طائفة من أهل العلم ومنهم أئمة في اللغة مثل الفراء والزجّاج وثعلب، وقال به بعض السلف أيضاً: بأن قوله: أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ من التقدير بمعنى أن لا نقضي عليه بالعقوبة، ويعبر فيه بمثل هذا، والله  يقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر:1]، أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: نقضي عليه بالعقوبة، ومهما يكن لا يجوز أن تفسر الآية بالقدرة، وإن قال به بعضهم إلا أنه لا يجوز القول بهذا، كيف يكون نبي من الأنبياء يظن أن الله لا يقدر عليه، يعني من القدرة، أن الله لا يتمكن منه، فهذا إذا وقع من آحاد الناس فهو كفر، كيف يقع من نبي من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهم أعرف الناس بالله ، والمشهور أن المراد بقوله: أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: أن لن نضيق عليه، وجاء في قراءة للزهري وعمر بن عبد العزيز نقدِّر وهذا يؤيد القول الآخر، وأن المقصود نَّقْدِرَ عَلَيْهِ أي: نقضي من القضاء عليه بالعقوبة، والقراءة الآحادية تفسر القراءة المتواترة، وجاء في قراءة أخرى قرأ بها بعض السلف أن لن يُقدَّرَ عليه، وهذا أيضاً من يحتمل معنى التقدير، وفي قراءة أخرى أن لن يُقدرَ عليه وهذه لا يفهم منها القدرة، لكن يُقدرَ تأتي بمعنى يضيق عليه، بالبناء للمجهول، يُقدرَ، وتحتمل معنىً آخر.

وقوله: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر، قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وقال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس.

على كلٍّ كان من الأولى حذف كل هذه الأشياء التي تتلقى عن بني اسرائيل.