وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لّلْعَالَمِينَ [سورة الأنبياء:91].
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى - عليهما السلام - مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام -، فيذكر أولاً قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم؛ لأن تلك مربوطة بهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم، وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا يعني: مريم - عليها السلام -، كما قال في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [سورة التحريم:12].
وقوله: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لّلْعَالَمِينَ أي: دلالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، وهذا كقوله: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ.
وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا ذكر الله قصة مريم - رحمها الله - في سياق ذكر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهي ليست بنبية، ولكن لما ذكر الله خبر زكريا كيف أن الله رزقه بالولد من امرأة كبيرة عاقر، الأمر الذي يدل على قدرته - تبارك وتعالى - على كل شيء، ذكر خبر مريم بعده، ففيه نوع شبه به، بل هو أعجب حيث إن الله جاء بالولد منها، رزقها بالولد، وهي ليست بذات زوج، وأيضاً فإن خبر مريم مرتبط بخبر ابنها ﷺ عيسى، فهو من جملة هؤلاء الأنبياء الكرام - عليهم الصلاة والسلام -، وأضاف النفخ إلى نفسه - تبارك وتعالى -؛ لأنه بأمره كما يقول الملِك: بنينا كذا، وفعلنا كذا، وعملنا كذا، من أجل أنه هو الذي أمر بذلك، وإن لم يباشره بنفسه، ونقول مثلاً: عمر هو الذي بنى الكوفة وهو الذي بنى البصرة، ولم يباشر ذلك بنفسه لكن كان ذلك عن أمره، فهذا المسجد الذي بناه عمر ، لم يبنه بيده، وإنما أمر ببنائه، فالله - تبارك وتعالى - يقول: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا أخبر الله أنه نفخ فيها، أمر جبريل ، فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا، وهذه الروح المخلوقة نفخنا فيها من روحنا، جبريل ﷺ نفخ فيها بأمر الله ، وجبريل هو روح القدس، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [سورة النحل:102]، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [سورة مريم:17]، فأرسل إليها روحه، وهو جبريل ﷺ فنفخ فيها، يعني الروح العظيمة، ويحتمل أن يكون فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا أي: أن جبريل نفخ فيها من روحٍ مخلوقة، الروح التي خلقها الله، فإن الله - تبارك وتعالى - سمى عيسى ﷺ روحاً، وذلك أنه روح مخلوقة، وحينما يضيف ذلك إلى نفسه فإن هذه الإضافة إضافة تشريف؛ لأن ما أضافه الله إلى نفسه إما أن يكون من الأوصاف القائمة به، كعلم الله، وقدرة الله، أو من الأوصاف غير المعنوية كيد الله ووجه الله، فهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وإما أن يكون ذلك من باب إضافة أمر لا يقوم به كبيت الله، وناقة الله، فهذا من إضافة المخلوق إلى خالقه، فالإضافة تكون إضافة تشريف، وهكذا ما يقوم بغيره، كالروح، فعيسى ﷺ هو روح الله بهذا الاعتبار، وهو أيضاً كلمة الله لأنه وجد بالكلمة بـ: "كن"، من غير أب، هذا هو المعنى، والله أعلم.
وقوله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ هما آيتان، يعني مريم آية، وعيسى ﷺ آية، عيسى كان يُحيي الموتى بإذن الله، ويبرئ الأكمه، والأبرص، وتكلم في المهد، فهو آية تدل على قدرة الله ، فالآية بمعنى العلامة، وذلك أن مثل هذه الأشياء من خوارق العادات تدل على قدرة الخالق، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأن نواصي الخلق بيده، وأن الأمور جميعاً تحت أمره وقدرته وتصرفه ، فقال: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً ولم يقل: جعلناها وابنها آيتين، يحتمل أن يكون ذلك - والله تعالى أعلم - باعتبار المجموع، أن وجود عيسى ﷺ من امرأة غير متزوجة تحمل وتلد، فالمقصود أن هذه الآية يمكن أن يعبر عنها بأنها آية واحدة، لا ما عدا ذلك من الآيات، كإحيائه للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص، وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا فيما حصل من الحمل والولادة آيَةً، رجل وُلد من امرأة غير متزوجة، ليس له أب، الله خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، من غير أب ولا أم، فخلق آدم ابتداءً من تراب وخلق حواء من آدم، وخلق عيسى ﷺ من أم بلا أب، وخلقنا من أم وأب، فهذا يدل على كمال قدرته وعظمته، وأن الأمور بيده ، ومن أهل العلم من يقول: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً أي: جعلنا كل واحد منهما آية، وقد ذكرنا أمثلة لهذا في توحيد الضمير بعد ذكر شيئين، وأنه أنواع، كقوله - تبارك وتعالى -: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [سورة الجمعة:11] ما قال: إليهما، وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ [سورة التوبة:62] ما قال: يرضوهما، فأحياناً يعود الضمير مفرداً على مذكوريْن، ويكون المراد أحياناً الأمرين، وأحياناً يكون المراد أمراً واحداً، الأول أو الثاني بحسب القرائن، والله جعل مريم وما جرى لها من الحمل وولادة عيسى ﷺ آية تدل على قدرته الباهرة، وعظمته .