إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [سورة الأنبياء:92-94].
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً يقول: دينكم دين واحد، وقال الحسن البصري في هذه الآية: يبيّن لهم ما يتقون وما يأتون، ثم قال: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً أي: سنتكم سنة واحدة، فقوله: إِنّ هَذِهِ إن واسمها، وأمتكم خبر إن، أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم، وقوله: أُمّةً وَاحِدَةً نصب على الحال؛ ولهذا قال: وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ كما قال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [سورة المؤمنون:51]، إلى قوله: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [سورة المؤمنون:52]، وقال رسول الله ﷺ: نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد[1]، يعني: أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له، بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [سورة المائدة:48].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله - تبارك وتعالى -: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً قوله في تفسير هذه الآية: "دينكم دين واحد"، وهكذا قول من قال: "أي سنتكم سنة واحدة"، والعبارتان بمعنىً واحد، فالسنة والدين والشريعة والملة كل ذلك يرجع إلى شيء واحد، أي أن دين الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - واحد، كما ذكر في الحديث: نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات، ومعنى أولاد عَلات كما فسره النبي ﷺ أي: ديننا واحد، وأولاد العلات هم الذين لهم أب واحد وأمهات شتى، فأصل الدين هو الإسلام الذي بعث به ربنا - تبارك وتعالى - جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وشرع لهم الشرائع فاختلفت وتنوعت شرائعهم، ولكن أصل الدين واحد، إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة:132]، وفي قوله - تبارك وتعالى - عن إبراهيم ﷺ: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا [سورة الحج:78] على
أحد القولين: أي أن إبراهيم ﷺ هو الذي سمانا المسلمين، والقول الآخر: أن الله هو الذي سمانا، وقد يكون هذا هو مقتضى القواعد التفسيرية، والأمة تأتي بمعانٍ متعددة، تأتي بمعنى الدين، كما قال النابغة:
حلفتُ فلم أتركْ لنفسِك ريبةً | وهل يأثَمَنْ ذو أمّةٍ وهو طائعُ |
فهل يأثم يعني هل يتقصد الإثم ذو أمّة، يعني ذو دين، وهو طائع، يعني وهو مختار يتقصد الإساءة والمخالفة والمعصية، يقول: أنا حلفت فلم أترك لنفسك ريبة، ولا يمكن أن أحلف على الكذب.
فهذه بمعنى الدين، وتأتي بمعنى الطائفة المجتمعة على أمر من الأمور، أو أي طائفة مجتمعة، كقوله - تبارك وتعالى - عن موسى ﷺ لما ورد ماء مدين قال: وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [سورة القصص:23]، أمة يعني جماعة من الناس، وتأتي بمعنى المدة الزمنية، كقوله - تبارك وتعالى -: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [سورة يوسف:45]، أي الذي نجا من السجن في قصة يوسف ﷺ، وهكذا تأتي بمعنى الرجل الذي اجتمعت فيه الأوصاف الكاملة التي تفرقت في غيره، مثل إبراهيم ﷺ: كَانَ أُمَّةً [سورة النحل:120]، ففي كل موضع بحسبه، والمقصود بها هنا الدين.
والخطاب في قوله: إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً ليس لهذه الأمة الإسلامية من أمة محمد ﷺ، وإنما لما ذكر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - جميعاً قال هذا، فيكون ذلك راجعاً إلى الجميع، فكل الرسل الذين بعثهم الله بعثهم بدين واحد، وإن تنوعت فيه الشرائع، بعثهم بالإسلام، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا [سورة آل عمران:67]، فاليهودية مبتدعة والنصرانية مبتدعة محدثة، وهذه الأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران:19].
وقوله: إِنّ هَذِهِ "إن واسمها، وأمتكم خبر إن"، فـ "هذه" اسم "إنّ"، وخبرها "أمتكم"، ونصب قوله: أُمّةً وَاحِدَةً على المصدر.
- رواه البخاري، كتاب التفسير، باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16]، برقم (3259)، عن أبي هريرة بلفظ: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء أخوة لعَلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد.