قوله: وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعني تفرقوا في الدين، فجعلوه كالقطع، هؤلاء أخذوا قطعة، وهؤلاء أخذوا قطعة، وهو دين واحد، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه، فهؤلاء قالوا: إنهم يهود، وهؤلاء قالوا: إنهم نصارى، وهؤلاء عبدة وثن، إلى غير ذلك من الديانات الموجودة على وجه الأرض، فبعث الله الرسل فلم ينتفعوا ببعثتهم، فعلى أحد الأقوال المشهورة في التفسير أن هذا في الأمم الذين بعث الله إليهم الرسل، ومن أهل العلم من يقول: إن المقصود بذلك هم أهل الإشراك الذين كانوا في زمن النبي ﷺ، وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [سورة المؤمنون:53] في الآية الأخرى.
وابن جرير - رحمه الله - يرى أن قوله: كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ عام في الأمم، وأنه لا يختص بالمشركين، وهذا
أقرب، وعبارة ابن كثير - رحمه الله - في قوله: وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ "أي: اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب"، وهذا يوافق قول ابن جرير: إن هذا في سائر الأمم، لكن عبارته أدق من عبارة ابن جرير، وعبارة ابن جرير هي قوله: هذا في كل الأمم، عام في الأمم، فكلامه بهذا المعنى، ولكن الفرق أن ابن كثير هنا عبارته دقيقة يقول: اختلفت الأمم على رسلها، ترى الأصل في العالِم حينما يكتب أنه يزن الحرف، ويقصد كل كلمة قالها، يقول: "اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب"، وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعني: كلما جاءهم رسول انقسموا فآمنت به طائفة وكفرت به طائفة، هذا لا يخالف قول ابن جرير، لكن هو أدق من ناحيتين، الناحية الأولى: أن ابن جرير - رحمه الله - أطلقَ وعممَ فقال: هذا في الأمم، يعني صارت الأمم إلى أديان شتى، ابن كثير يقول: كلما جاء أمةً رسولٌ انقسموا فيه، فالنتيجة والنهاية هي أن البشرية تفرقت على أديان، يرجع إلى قول ابن جرير من هذه الناحية، من هذا الوجه، لكنه أدق في العبارة، فكلام ابن جرير وجماعة من السلف أن طائفة صاروا يهوداً وطائفة صاروا نصارى، وطائفة صاروا يعبدون الأوثان، ونحو ذلك، هذا لا يخالف قول ابن كثير، فمثلاً لما جاء عيسى ﷺ إلى بني إسرائيل وهم اليهود انقسموا، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فالتي كفرت صاروا إلى ما يعرف باليهود الآن، والذين آمنوا هم النصارى، وهكذا في سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، فلما بعث الله محمداً ﷺ قالت اليهود: نبقى على يهوديتنا، إلا من شاء الله، والنصارى كذلك، وعبدة الأوثان كذلك، وتواصوا وقالوا: وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [سورة ص:6]، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ، فالشاهد أن هذا القول الذي قاله ابن جرير وما قاله ابن كثير هو موافق له في المآل، وأحسن من قول من خص ذلك بالمشركين الذين بعث فيهم النبي ﷺ، وهذا لا دليل عليه، ولا دليل على هذا التخصيص، والعلم عند الله ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ وهذه الآية ذكرها الله في سياق الذم لهؤلاء الذين تقطعوا أمرهم بينهم، كما في الآية الأخرى قوله: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وفي المقابل يأمر الله بالاجتماع والاعتصام بحبله المتين، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [سورة آل عمران:103]، وينهى عن مشابهة هؤلاء وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ [سورة آل عمران:105]، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذكر في اقتضاء الصراط المستقيم ما يقرب من ثمانية عشر وجهاً من وجوه موافقة هذه الأمة لمن قبلها، لتتبعن سنن من كان قبلكم[1]، وذكر منها التفرق في الدين، والتنازع، والتناحر، فهذا مما نهى الله عنه، والواجب الاعتصام بالكتاب والسنة، وجمع القلوب على هذا، والتآلف والمحبة بين المسلمين، وأما أن يبقى الناس أوزاعاً وأشتاتاً متناحرة فالله يقول: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46]، وهذا شيء مشاهد، والله المستعان.
- رواه البخاري، من حديث أبي سعيد الخدري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي ﷺ: لتتبعن سنن من كان قبلكم، برقم (7320).