الجمعة 25 / ذو القعدة / 1446 - 23 / مايو 2025
ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ۝ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [سورة الحـج:9-10] أي: يقال له هذا تقريعًا وتوبيخاً.

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج: 10] أضاف العمل إلى اليد مع أن أعمال الكفار أعظمها ما هو؟ الكفر وهو متعلق بالقلب، وكذلك ما يحصل منهم باللسان من الكفر والمعاصي، وهكذا في سائر الجوارح، فأضافه إلى اليد على طريقة العرب فإنهم يضيفون مقارفات الإنسان إلى يده، يقال: هذا ما جنته يداك، إنسان خسر في تجارة، إنسان لم ينجح في امتحان، إنسان فشل في جانب من جوانب الحياة، وقع في مصيبة، وقع في مشكلة يقال: هذا ما جنته يداك، قد يكون لم يجنه بيده، وإنما وقع له ذلك بسبب الكسل، أو وقع له ذلك بسبب لسانه، هذا ما جنته يداك (يداكَ أوْكَتا وفُوكَ نَفَخ) فهم يضيفون أعمال الإنسان إلى اليد كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [آل عمران:182] لأن أكثر مزاولات الإنسان إنما تكون بيده.

وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [سورة الحـج:10] كقوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ۝ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ۝ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ۝ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان: 47 -50 ].

قوله - تبارك وتعالى -: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10] ظلّام: صيغة مبالغة، يعني كثير الظلم، ونفي المبالغة لا ينفي أصل الصفة (فعل) فهل معنى ذلك أنه يقع منه شيء من الظلم القليل؟ الجواب: لا، فمثل هذا يجيب عنه العلماء بأجوبة، فبعضهم يقول: المبالغة بناء على كثرة العباد، فالعباد كثير، فلو وقعت مظلمة لكل واحد فقط - لو صار - فهذا كثير، وبعضهم يقول: إن الكامل من كل وجه لو وقع منه أدنى ظلم فهو كبير، كما قيل:

كَفُوفَةِ الظُّفرِ تَخفَى مِن حقارتِها ومثلُها في سوادِ العينِ مشهورُ

كفُوفةِِ الظُّفرِ لو وجدت في سواد العين ما تَخفى، يتأذى بها الإنسان غاية الأذية.

وخطأُ الجاهلِ المغمورِ مغمورٌ  وخطأُ العالمِ المشهورِ مشهورٌ

ولذلك تجد الناس يدققون في أخطاء الناس من أهل الفضل والدين والعلم وكذا، يقعون على الزلة، ولربما ما هو بخطأ، ربما يقول: رأيته يصلي ولم يرفع يده حذو منكبه، أو لم يضع مثلاً يده كما ينبغي اليمنى على اليسرى، أو نحو ذلك في أصبعه، وأشياء يسيرة لربما ينظر إليها الناس ويعدونها من العيوب أو من الأخطاء أو من التقصير، لكن ما ينظرون إلى عيوب الجاهل المغمور الذي لربما كله عيوب، فالمرآة النظيفة المرآة الصقيلة يظهر فيها أدنى شيء، والثوب النظيف الأبيض يظهر فيه أدنى شيء، أما الثوب الذي كله زيوت وشحوم وكله ملوث ما يظهر فيه شيء، ما تقول له: نزلت عليك نقطة حبر، ثوب أصحاب الحِرف أو أصحاب الورش كله أسود، لو نزلت عليه نقطة حبر ماذا يسوي؟

فالحاصل أن من أهل العلم من أجاب بهذا الجواب، أدنى ظلم من الكامل يعتبر كثيراً.

وبعضهم يقول: هذا لقبح الظلم وشناعته، قال الله : وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].

على كل حال الآيات في نفي الظلم عن الله كثيرة إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [يونس: 44]  فـ "شيئاً" نكرة في سياق النفي فتعم كل ظلم صغير وكبير، وتوضح هذا المعنى الذي قد يستشكله بعضهم باعتبار مفهوم المخالفة مع استعمال صيغة المبالغة: لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [آل عمران: 182] واضح وجه السؤال والجواب عنه؟ والله أعلم.