الجمعة 25 / ذو القعدة / 1446 - 23 / مايو 2025
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُۥ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِۦ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقال مجاهد وقتادة وغيرهما عَلَى حَرْفٍ: على شك، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الجبل أي طرفه، أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر، وروى البخاري عن ابن عباس قال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ: قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.

قال العوفي عن ابن عباس: كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسناً، وولدت امرأته غلاماً رضي به واطمأن إليه، وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ - والفتنة البلاء - أي: وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبتَ منذ كنت على دينك هذا إلا شراً، وذلك الفتنة وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية، وقال مجاهد في قوله: انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ: أي ارتد كافراً.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى - وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ قال: يعني على شك، هذا نقله عن مجاهد وقتادة، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الجبل أي: طرفه. وهذه المعاني التي ذكرها غير متنافية - والله تعالى أعلم -، فمن فسر الحرف بأنه الطرف فقد فسره بالأصل والمعنى في اللغة؛ فإن حرف الشيء هو طرفه، وحرف الجبل يعني طرفه، وحرف البناء، وحرف الخبز، ونحو ذلك أي: طرفه، ومن فسره بالشك فقد رجع إلى هذا المعنى؛ لأن الذي يعبد الله على شيء من التضعضع والريبة والشك، فإنه غير مستقر كالذي يكون على طرف الجبل مثلاً، فإنه لا يكون مستقراً كالذي يكون على الأرض مثلاً، فهذا وجه الارتباط بين أصل المعنى في كلام العرب، وبين تفسير من فسره بالشك، فإن هذا كله يرجع إلى معنى واحد بهذا الاعتبار، فقولك: إنسان غير مستقر وغير واثق معناه: أنه على شك، فهو بحسب ما يعرض له، متضعضع إن جاءت الأمور على ما يكره حركت عنده دواعي القلق والشك والريبة، فصار متلجلجاً متردداً، وعلى كل حال فهذه المعاني التي ذكرت غير متنافية، يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ يعني هذا بخلاف حال أهل اليقين فإن أهل اليقين إذا جاءتهم الشدائد والمصاعب والمصائب فإن ذلك يزيد من رسوخهم كما قال الله في قصة الأحزاب لما ذكر الموقفَين - موقفَ المنافقين وموقفَ أهل الإيمان - قال في موقف أهل الإيمان: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:22] المقصود - على أرجح أقوال المفسرين والله تعالى أعلم بقولهم -: بـهَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الإشارة إلى البلاء الذي يعقبه النصر والتمكين؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] إلى غير ذلك من الآيات، فوعَدَ بالبلاء لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186] فلما رأوا الأحزابَ قد أحاطوا بالمدينة تذكروا هذا الوعد فقالوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فهو الابتلاء الذي يعقبه التمكين، ولا يكون التمكين إلا بعد الابتلاء وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا بينما تجد أهل النفاق لما رأوا الأحزاب ماذا قالوا؟ قالوا: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب: 12] فشتان ما بين هذا وهذا، وعلى كل حال هذه الآية فيها عبرة عظيمة؛ فهي تبين أحوال الناس ومراتبهم، وبها يعرف الإيمان الثابت الراسخ، وبها يعرف الإيمان الضعيف الهش، وهذه الآية تدل المسلم على أمر: وهو أن البلاء لابد أن يحصل كما سبق في الآيات التي أشرت إليها، ولكن ينبغي للمؤمن أن يطلب من الله العافية؛ فإن العافية لا يعدلها شيء، والنصوص دلت على أن الإنسان لا يطلب البلاء، بل يطلب من ربه العافية، والنبي ﷺيقول: لا تتمنوا لقاء العدو[1] وهناك نماذج وأمثلة في هذا المعنى في القرآن وغيره، والله قال عن أولائك الذين طلبوا أحب الأعمال إلى الله فلما أخبروا أنه الجهاد تثاقلت نفوسهم، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2-3] وأولائك الذين طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله في سورة البقرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [سورة البقرة:246] فهذه فيها عبرة، فتساقطوا ولم يبق إلا القلة، ولذا فالإنسان لا يطلب البلاء بل يسأل ربه العافية، والنبي ﷺ يقول: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق[2] فلا يدخل الإنسان في أمور من حسبة ونحوها، ثم بعد ذلك لا يطيق فيبتلى وينكسر، وقد يفتضح، فيطلب من ربه العافية، ولا يدخل إلا في الأمور التي يطيقها لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286] فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه.

وقوله: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [سورة الحج:11] أي: فلا هو حصل من الدنيا على شيء، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة، ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [سورة الحج:11] أي: هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة.

المبين: يعني البيّن الواضح الذي لا خفاء فيه.

  1. رواه البخاري: برقم: (6810) كتاب التمني -باب كراهية تمني لقاء العدو، ومسلم برقم: (4640) كتاب الجهاد والسير – باب كراهية تمني لقاء العدو.
  2. رواه الترمذي: (2254) كتاب الفتن – باب: (67) وصححه الألباني.