قال سبحانه: مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ [سورة الحج:15-16]
قال ابن عباس: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً ﷺ في الدنيا والآخرة، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أي بحبل إِلَى السَّمَاء أي سماء بيته ثُمّ لْيَقْطَعْ يقول: ثم ليختنق به، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم، فالمعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه، فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [سورة غافر:51]، ولهذا قال: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ قال السدي: يعني من شأن محمد ﷺ. وقال عطاء الخرساني: فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيط؟.
قوله - تبارك وتعالى -: مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ النصر هنا فسره أكثر أهل العلم على ظاهره، وهذا الذي نقله عن ابن عباس - ا -: أن لن ينصر الله محمداً ﷺ في الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء السبب: كل ما يتوصل به إلى الشيء يقال له سبب، ولهذا يقال: الحبل سبب؛ لأنه يتوصل به إلى الماء في البئر، ولا يصل الإنسان إليها بيده، وإنما يضع الدلاء بالحبال ويصل بها إلى الماء فيقال لها: سبب، والطرق الموصلة إلى السماء يقال لها أسباب، وفرعون حينما أمر وزيره ببناء الصرح قال: لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [سورة غافر:36-37] فالسبب يطلق على كل ما يتوصل به إلى غيره.
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء والسماء تطلق على مطلق العلو، فكل ما علاك فهو سماء، فهذا السقف يقال له: سماء، والسحاب يقال له: سماء، والارتفاع عموماً يقال له: سماء، والسقف المعروف وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا [سورة الأنبياء:32] يقال له: سماء، وقول ابن عباس يعني أنه السقف فيربط حبلا في السقف ويشنق نفسه، من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه ﷺ فلينتحر، هذا اختصار المعنى: يشنق نفسه، فإن الله ناصر نبيه، وهذا قد لا يجد شفاءً إلا في الخلاص من هذه الحياة.
كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافياً | وحسْبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا |
ومن أهل العلم من قال: إن السماء هي السماء المعروفة، وفسر النصر بالنصر المعروف فالمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه ﷺ فليتوصل إلى أسباب السماوات ليقطع النصر من مصدره، من فوقه من السماء.
فكأنه أحاله إلى أمرٍ مستحيل، يعني لا أن يقتل نفسه ويشنق نفسه وينتحر، لا، إنما يصل إلى مصدر النصر ويقطعه.
والمعنى الآخر الذي مشى عليه ابن جرير، وهو أنه فسر النصر بالرزق، وجاء بشواهد من كلام العرب، وهذا معنى صحيح، النصر قد يطلق على الرزق، لكن هل هذا هو المعنى المتبادر؟ الجواب: لا، ولهذا فإن القرآن في الأصل يفسر بالمعنى المتبادر الظاهر دون المعنى قليل الاستعمال، وهذه قضية دائماً يقررها ابن جرير - رحمه الله -، فإذا أجريناها على هذا فُسِّر النصر بالنصر المعروف وليس بالرزق.
ابن جرير - رحمه الله - يقول: من كان يظن أن الله لا يرزق نبيه ﷺ ومن معه من أهل الإيمان، وتعجل رزق الله أو استبطأه فليربط حبلاً في سقف بيته ويشنق نفسه، وينظر هل فعله هذا سيغير من قدر الله شيئا؟.
وأرجح هذه المعاني - والله أعلم - أن النصر يحمل على ظاهره، وأن السماء المقصود بها السقف، والله أعلم.
قوله: ثُمّ لْيَقْطَعْ يقطع ماذا؟ يقطع مجاري النفس؛ فإن الإنسان إذا خنق نفسه سُدت مجاري النفس فيموت، إضافة إلى قطع مجاري الدم بعد الدماغ.