الجمعة 15 / محرّم / 1447 - 11 / يوليو 2025
هَٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُوا۟ فِى رَبِّهِمْ ۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قوله: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ۝ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ۝ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ۝ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [سورة الحـج:19-22].

ثبت في الصحيحين عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ نزلت في حمزة وصاحبيه، وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر[1]. لفظ البخاري عند تفسيرها.

ثم روى البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ قال: هم الذين بارزوا يوم بدر عليٌّ، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة[2]. انفرد به البخاري.

قوله - تبارك وتعالى -: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ، ذكر الله - تبارك وتعالى - في الآيات السابقة الذين يجادلون في الله بغير علم، وذكر الطوائف الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئين، والنصارى، والمجوس، وذكر أهل الإيمان، وأهل الكفر، ثم قال: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ وذكر من يسجد، ومن لا يسجد فقوله: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ هذا يمكن أن يرتبط في المعنى مع ما قبله، يعني فريق أهل الإيمان، وأهل الكفر اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ اختصموا في وحدانيته ، وطاعته، وعبادته، فأهل الإيمان عبدوا ربهم - تبارك وتعالى - ووحدوه، وأهل الكفر عبدوا غيره وجعلوا له الأنداد والنظراء.

وما جاء في هذه الآية من الآثار أنها نزلت في حمزة وصاحبيه، وهكذا قول علي فهذه العبارة ليست من العبارات الصريحة في سبب النزول، ولو كان هذا من قبيل الصريح في سبب النزول فإن العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، فالآية تشمل الفريقين عموماً، أهل الإيمان وأهل الكفر في كل زمان ومكان.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية: هم المؤمنون والكافرون.

وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون. يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل، وهذا اختيار ابن جرير، وهو حسن.

هذا الأسلوب في الجمع بين الأقوال في الترجيح هي مزية هذا التفسير، ولذلك يتميز تفسير ابن كثير، وتفسير ابن جرير وأضواء البيان، وكلام ابن القيم، وكلام شيخ الإسلام في التفسير بالتحقيق وحسن النظر في الروايات، والجمع بين الأقوال والتأصيل والتقعيد.

ولهذا قال فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ، أي: فصلت لهم مقطعات من النار، قال سعيد بن جبير: من نحاس، وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي.

يقول الله – تبارك وتعالى -: لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر:16]، لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [سورة الأعراف:41]، والمهاد مثل الفراش، وقد قال النبي ﷺ: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب[3]، والقطران معروف شديد الاشتعال.

يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُود، أي: إذا صب على رءوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة.

وروى ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان[4] ورواه الترمذي وقال حسن صحيح.

هذا الحديث فيه ضعف، والله - تبارك وتعالى - أخبر أن هذا الذي يصب على رءوسهم يصهر به ما في بطونهم والجلود، وصهر ما في البطون واضح، أما الجلود فبعض أهل العلم يقول: يصهر به ما في بطونهم ويقدر للجلود فعلاً آخر، فيقول: ويحرق الجلود، أو ويحرق به الجلود، أو نحو ذلك، فحذف الفعل واكتفي بفعل لأحدهم، والآخر مقدر مثل قولهم:

"علفتُها تبنًا وماءً باردًا"، يعني: علفتُها تبناً وسقيتُها ماءً باردًا.

فالجلود لا تصهر، بل تحرق، ومن أهل العلم من يقول: لا حاجة لهذا فإن النار تصهر البطون والجلود، ونار جهنم قد زادت على هذه النار بسبعين جزءاً فلماذا لا تصهر الجلود؟، وهذا هو الأولى أن يقال حملاً للقرآن على ظاهره؛ لأن الأصل عدم التقدير، ومهما استطعنا أن نبقي اللفظ على حاله، وأن يحمل على وجه صحيح من غير الحاجة إلى دعوة تقدير فهذا هو الأصل.

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، ثم روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن السري قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرّهه، قال: فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه، ثم يفرغ الإناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه، فذلك قوله: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ.

مثل هذه الروايات لا تثبت، ولا تصح، ومثل هذا لا يقال من جهة الراوي، لكنه يحتاج إلى إسناد يعتمد عليه.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير،  باب تفسير سورة الحج (4/1768)، برقم: (4466).
  2. رواه البخاري،  كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحج (4/1769)، برقم: (4467).
  3. رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد فى النياح (3/45)، برقم: (2203).
  4. رواه الترمذي، صفة جهنم، باب ما جاء في صفة شراب أهل النار (4/705)، برقم: (2582)، وضعفه الألباني.