الجمعة 15 / محرّم / 1447 - 11 / يوليو 2025
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ ۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ۩

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال – تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [سورة الحـج:18].

 يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وقال ههنا: أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ أي من الملائكة في أقطار السموات، والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ [سورة الإسراء: 44] وقوله: وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ إنما ذكر هذه على التنصيص، لأنها قد عُبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [سورة فصلت:37] الآية، وفي الصحيحين عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله ﷺ: أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر، فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت[1].

وعن ابن عباس – ا - قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني رأيتُني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: فقرأ رسول الله ﷺ: سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة[2].رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.

وقوله: وَالدّوَآبّ أي: الحيوانات كلها، وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله ﷺ نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها[3].

وقوله: وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ أي: يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ أي: ممن امتنع وأبى واستكبر.

قوله - تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ [سورة الحـج:18] هذا الاستفهام استفهام تقريري ومعناه: ألم تعلم؟، وهذا السجود من أهل العلم من يفسره بمعناه اللغوي، ومعنى السجود في لغة العرب: الخضوع، بمعنى أن كل شيء يخضع لعظمة ربه وخالقه .

ومن أهل العلم من يفسر ذلك بسجود الظلال وهو الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - ويمكن لمن قال بهذا القول أن يحتج بقوله – تبارك وتعالى -: يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ [سورة النحل:48].

ومن أهل العلم من يقول وهو ظاهر كلام ابن كثير - رحمه الله - أن السجود يفسر بمعناه الشرعي، وأصل السجود في الشرع هو وضع الجبهة على الأرض، وقد يطلق على الانحناء والركوع، كما قال الله  ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا [سورة النساء:154] وليس معنى هذه الآية أنهم يدخلون وجباههم على الأرض، وإنما يدخل بهيئة الركوع تقديساً وتعظيماً وشكراً لله - تبارك وتعالى -، وهذا تفسير يَسْجُدُ.

والإنسان المؤمن يسجد طوعاً وغير المؤمن يسجد كرهاً بمعنى أنه خاضع لله يدبره ويصرفه كيف شاء، وبعضهم يفسر ذلك بسجود المنافق، لكن هذا التفسير لا يكفي؛ لأن غير المنافقين من الكفار لا يسجدون، وكذلك أيضاً سجود الظلال فغير الآدميين يسجدون لله - تبارك وتعالى - سجود اختيار لكن هذا السجود كل شيء بحسبه، وقد قال – تبارك وتعالى -: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة الجمعة:1].

وتعرفون ما جاء في تسبيح الطعام[4]، وقد جاء عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن[5].

 وتعرفون حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي ﷺ ثم تركه إلى المنبر فحن كحنين العشار إلى ولدها[6].

والله قال: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سورة سبأ:10] يعني مع داود ﷺ أي: رددي معه ورجعى معه، والطير والهدهد كلّم سليمان وأخبره عمن يعبد الشمس من دون الله، قال: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [سورة النمل:25] فهذه الأشياء التي تدرك إدراكاً يليق بها فيحمل السجود على معناه الشرعي؛ لأن     الأصل أن الألفاظ الشرعية تحمل على المعاني الشرعية، فإن لم يوجد فالمعنى العرفي، فإن لم فاللغوي، فلا نبدأ به في التفسير.

فنؤمن بقول النبي ﷺ: أتدري أين تذهب الشمس؟، ثم أخبر أنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأمر.

وليس لأحد أن يقول بأن الشمس تغيب عن قوم وتطلع على آخرين، أو متى تذهب؟ فلا نعارض الوحي بعقولنا، فالوحي هو المتبوع وهو المقدم.

وما عجز عن إدراكه عقل الإنسان فإنه يقول آمنا به، ويسلم لله ، وهذا الذي جاء في حديث ابن عباس لما رأى في المنام شجرة تسجد وتقول: "اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود" وهذه رؤيا حق.

وهكذا الدواب تسجد لله - تبارك وتعالى - والحديث الذي ذكره هنا: رب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها، وهذا القدر في الحديث لا يصح، وهو من رواية ابن لهيعة وفيه كلام، والله أعلم.

قوله: وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [سورة الحـج:18]، وهذه الآية تدل على أن من حُرم السجود والصلاة، فإن الله – تبارك وتعالى – قد أهانه، ولا يمكن أن تحصل له الكرامة، فمن أراد الذل والهوان والمهانة فليترك السجود لله .

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار[7] رواه مسلم.

هذا الحديث يدل على فضل السجود عند قراءة السجدة، ومن المعلوم أن السجود عند قراءة السجدة ليس بواجب كما هو معروف، ولكن له فضل ومزية فإن استطاع الإنسان ألا يتركه فهو خير له، والشيطان يتحسر حينما يراه يسجد.

وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما[8] ورواه أبو داود والترمذي.

على كل حال هذا الحديث لا يصح، فيه ضعف، وقد وردت بعض الروايات عن الصحابة – رضوان الله عليهم – تدل على أن سورة الحج فضلت بسجدتين[9]، بمعنى أن السجدتين في سورة الحج ثابتة، دون أن   يقيد ذلك بأن من لم يسجد فلا يقرأهما، فلا يصح بهذا شيء، بل للإنسان أن يقرأ ولو لم يسجد، والنبي ﷺ سجد وترك.

وقد قال أبو داود في المراسيل عن خالد بن معدان - رحمه الله - أن رسول الله ﷺ قال: فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ثم قال أبو داود: وقد أسند هذا، يعني من غير هذا الوجه ولا يصح[10].

وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن أبي الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية، وقال: إن هذه فضلت بسجدتين.

وروى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان، فهذه شواهد يشد بعضها بعضًا[11].

لا يخلو هذا الحديث من ضعف، وعدد السجدات في القرآن فيه خلاف بين أهل العلم.

  1. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان (6/2700)، برقم: (6988)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (1/138)، برقم: (159).
  2. رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول في سجود القرآن (5/489)، برقم: (3424)، وحسنه الألباني.
  3. رواه الإمام أحمد (3/440)، برقم: (15684)، وإسناده ضعيف.
  4. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/194)، برقم: (3579)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا (4/2180)، برقم: (2835).
  5. رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (4/1782)، برقم: (2277).
  6. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر (1/311)، برقم: (876).
  7. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (1/ 87) برقم: (81).
  8. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن ( 2/ 58)، برقم: (1402)، ورواه الترمذي، أبواب السفر، باب ما جاء في السجدة في الحج ( 2/ 470)، برقم: (578)، وأحمد (4/  151)، برقم: (17402)، واللفظ لأحمد، وضعفه الألباني.
  9. السنن الكبرى (2/  317)، برقم: (3548).
  10. المراسيل لأبي داود (1/72)، برقم: (78).
  11. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن ( 2/ 58)، برقم: (1401)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب عدد سجود القرآن (1/335)، برقم: (1057)، وضعفه الألباني.