قال المفسر رحمه الله تعالى: لما أخبر تعالى عن حال أهل النار -عياذًا بالله من حالهم- وما هم فيه من العذاب والنَّكال والحريق والأغلال، وما أعد لهم من الثياب من النار، ذكر حال أهل الجنة -نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخلنا الجنة- فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ [سورة الحج: 23] أي: تتخَرَّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها، وتحت أشجارها وقصورها، يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا، يُحَلَّوْنَ فِيهَا من الحلية، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا أي: في أيديهم، كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه: تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوُضُوء([1]).
وقوله: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير، إستبرقه وسُنْدُسه، كما قال: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا[ سورة الإنسان: 21-22،] وفي الصحيح: لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة([2]).
قال عبد الله بن الزبير: من لم يلبس الحرير في الآخرة، لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.
وقوله: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ كقوله: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ [سورة إبراهيم: 23.]
فما ذكره الله هنا من نعيم أهل الجنة هذا على طريقة القرآن بذكر ما يحصل به الخوف والرجاء، فقوله -تبارك وتعالى-: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا التقدير: ويحلون لؤلؤاً، وعلى القراءة الثانية، وهي أيضاً قراءة متواترة بالجر بأساور من ذهب ولؤلؤٍ يكون اللؤلؤ عائداً على المجرور معطوفاً عليه وهو الذهب، فيكون المعنى -والله تعالى أعلم- أن هذا الذهب مرصع باللؤلؤ، وعلى قراءة النصب: ولؤلؤاً أي: ويحلون لؤلؤاً، فيحتمل أن تكون الحلية من اللؤلؤ، يعني حلية من ذهب وحلية من لؤلؤ، بمعنى أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ، مع أنه جرت العادة في الدنيا فيما هو معروف أن الأساور في الدنيا لا تكون من اللؤلؤ، وإنما اللؤلؤ يرصع بالذهب مثلاً، ولكن نعيم الجنة يختلف عن نعيم الدنيا، فيمكن أن يحلى هؤلاء بأساور من اللؤلؤ الخالص وأساور من الذهب الخالص، مع أن الاحتمال أيضاً قائم بأن المراد ولؤلؤاً أي: ويحلون لؤلؤا، فلا يلزم من ذلك أن السوار برمته من اللؤلؤ، وإنما هو من الذهب رصع باللؤلؤ، وعلى كل حال نعيم الجنة لا يقاس بنعيم الدنيا وما فيها من البهرج والزينة.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ما ذكره من قول ابن الزبير وقول النبي ﷺ: فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة قال: من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، يعني أن ابن الزبير -ا- فهم من قوله:لم يلبسه في الآخرة أنه لم يدخل الجنة؛ لأن الحرير لباس أهل الجنة، ولكن هذا أيضاً غير قاطع؛ فالحديث قد يفهم منه هذا المعنى، وقد يفهم منه غير ذلك، فالنبي ﷺ أخبر أن من مات وهو يشرب الخمر ولم يتب أنه لن يشرب من خمر الجنة[3]، فهل معنى ذلك أنه لا يدخل الجنة؟ وأنه يخلد في النار؟ لا، وإنما يُحرم من هذا اللون من النعيم في الجنة، وبعض أهل العلم كابن القيم -وقد يفهم هذا من بعض كلام شيخ الإسلام في بعض المواضع- يرى أن النعيم في الجنة ينقص بحسب حال الإنسان في الدنيا، وابن القيم لا يتقيد بما ورد في الأحاديث من أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، أو من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة،
وبعض أهل العلم كابن القيم -وقد يفهم هذا من بعض كلام شيخ الإسلام في بعض المواضع- يرى أن النعيم في الجنة ينقص بحسب حال الإنسان في الدنيا، وابن القيم لا يتقيد بما ورد في الأحاديث من أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، أو من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة،
يعني إن لم يتب، بل يرى أن من تعاطى شيئاً من هذه المحرمات في الدنيا عموماً فإن ذلك يكون نقصاً في نعيمه في الجنة، فيُحرم من نظيره، ولكن هذا الكلام لا دليل عليه، ومثل هذه القضايا لا يجري فيها القياس، يبقى سؤال إذا وقفنا عند الأشياء التي ورد فيها النص كالخمر، والحرير إذا قلنا بأن الحديث يحتمل معنى آخر وهو أنه يُحرم من حرير الجنة، وليس معنى ذلك أنه لا يدخل الجنة، فمن مات وهو يلبس الحرير ولم يتب هل يخلد في النار؟ لا، فهذا الفهم الذي ذكره ابن الزبير من أنه لا يدخل الجنة لأن هذا هو لباس أهل الجنة يمكن أن يقال: إنه يُحرم هذا النوع من النعيم، ولقائل أن يقول: إن هذا من نصوص الوعيد فيجرى على ظاهره؛ ليحصل الردع والزجر، ولا يتعرض له بتأويل، ومن أهل العلم من يؤول ذلك بأن هذا إن كان مستحلاً؛ فالمستحل يكفر، ولا حاجة إلى هذا لأن الحديث ليس فيه ذكر هذا القيد، فيبقى -والله تعالى أعلم- أن يقال: إن هذا من نصوص الوعيد، ولكن في مجالس العلم يحتاج الناس أن يفهموا هذا؛ من أجل أن لا يبنوا على ذلك لوازم فاسدة، كأن يقال –مثلاً-: الذي يلبس الحرير في الدنيا ويموت على هذا يخلد في النار، فهذا لا يجوز، وكذا أن يقال: الذي يموت وهو يشرب الخمر ولم يتب فإنه يخلد في النار؛ لأنه لا يشرب من خمر الجنة، لا، بل يقال: إن ذلك يكون نقصاً في نعيم الجنة بإزاء هذه المقارفة.
هنا يرد سؤال هو أن نعيم الجنة نعيم عظيم وكامل فإذا كان لا يشرب من خمر الجنة فإنه يكون ناقص النعيم، والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين فكيف هذا؟ فيقال: كما أنه قطعاً أخبرنا الله عن تفاوت نعيم أهل الجنة ودرجاتهم، والنبي ﷺ أخبر عن هذا وأن الجنة درجات، وأن أصحاب الدرجات العالية يتراآهم أهل الجنة، كما يتراءى الكوكب الغابر في الأفق، ولا يكون ذلك نقصاً في نعيم من كان في مرتبة أدنى؛ لأنه يرى أنه ما أُعطي أحدٌ أفضل مما أعطي، فالجنة ليس فيها تنغيص، فيكون ما عنده من اللذات والنعيم والحبرة وما أشبه ذلك بحيث لا يحصل له شعور بنقص الراحة والسرور والنعيم في الجنة. هذا الجواب، والله تعالى أعلم.
أما مذهب عمر فهو يرى أن من توسع في المباحات يدخل في عموم قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف: 20 ]وأن ذلك يكون على حساب حظه من الآخرة، فينقص نعيمه في الآخرة، ومرتبته بحسب ما حصل له من التوسع في اللذات، حتى الكلام في اللذات المباحة، فهذا مذهب عمر ، ومذهب عامة أهل العلم أن الإنسان إذا شكر النعمة وأدى حق الله فيها فإن ذلك لا يكون نقصاً في حقه، فالصحابة كصهيب الرومي، وغيره كما ورد في الآثار حينما يتذكرون من مات من إخوانهم، ولم يحصِّل ما حصَّلوا ولم تفتح عليهم الدنيا كانوا يخافون أن تكون حسناتهم قد عجلت لهم في الدنيا، والنبي ﷺ ذكر عن المجاهد في سبيل الله أنه إما أن يقتل في سبيل الله فيكون أجره وافيا على الله، وإما أن يرجع بما يرجع من أجر أو غنيمة، فهذا الأجر الذي يرجع به هل هو مثل الأجر الذي يحصل لذاك الذي قتل ولم يرجع، ويكون هؤلاء كما جاء في بعض الأحاديث أنهم قد تعجلوا شطر ثوابهم أو أجرهم أو جزائهم، فأهل العلم يتكلمون عن هذا..