الإثنين 19 / ذو الحجة / 1446 - 16 / يونيو 2025
وَهُدُوٓا۟ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوٓا۟ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْحَمِيدِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [سورة الحج: 24]، كقوله تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ[ سورة إبراهيم: 23]، وقوله: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [سورة الرعد 23-24،] وقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا[ سورة الواقعة: 25-26] فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، وقوله: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا [سورة الفرقان]: 75 لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم: ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [سورة آل عمران: 181.]

قوله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ هذه الآيات التي أوردها على نوعين منها ما يدل على أن ذلك السلام يصدر منهم، ومنها ما يدل على أن ذلك يصدر من غيرهم، أو أنهم لا يسمعون إلا التسليم –مثلاً-، ولهذا قال هنا بعد قوله -تبارك وتعالى-: وَالمَلاَئِكَةُ قال لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا هذا الذي يسمعونه، قال فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب، وجه هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أنه بمعنى هدوا إليه فلا يصدر منهم إلا الطيب من القول، ومن هذا القول الطيب الذي يصدر منهم السلامُ، وفي الآية التي ذكرها هنا لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا يعني ما يوجب الإثم إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا قيلاً: يعني قولاً، سَلَامًا سَلَامًا، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ هدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الطيب من القول فيكون صادراً منهم، وهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه ذلك من غيرهم، هكذا أراد ابن كثير -رحمه الله-، وعلى كل حال الطيب من القول يشمل السلام، ويشمل كل طيب من القول، فالجنة ليس فيها سخط، ولا أذى، ولا شتم، ولا ما يعاب، ولا ما ينكر، فالقول الطيب يدخل فيه شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا الذي فسر به ابن جرير -رحمه الله- وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، ويدخل فيه السلام كما دل عليه القرآن، وهذا الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-، ويدخل فيه كل قول طيب، فكل أهل الجنة يتكلمون، في الدنيا يصدر من الناس ما يعاب فيشين، ويصدر ما يقبح سواء كان ذلك من قبيل الشرك ودعاء غير الله أو كان ذلك من الأمور المحرمة -بدع وأهواء مما يتكلم به الناس- أو كان ذلك من قبيل الغيبة، والنميمة، أو كان ذلك من قبيل الشتم والسب أو الفحش أو نحو ذلك، والجنة ليس فيها فحش، وليس فيها معصية، وليس فيها ما يقبح، ولا ما يزعج الأسماع، وإنما لا يسمع الإنسان فيها إلا الكلام الطيب، وهذا من أعظم النعيم لأن الإنسان لاشك أنه يتأثر بما يسمع، فإذا سمع الكلام السيئ وجالس أناساً يتكلمون بما لا يليق ولا يحفظون ألسنتهم، ويصدر منهم من السب والأذى والوقيعة، وألسنتهم حداد فإن القلوب والأسماع تتأثر بهذا، ومن ثَمَّ يتكدر القلب ويتنغص، ولذلك فإن الذين يحضرون المجالس التي يسمعون فيها التثريب، يثرب عليهم مثلاً، والتعنيف أو يسمعون ما يكرهون من شتم وانتقاص وعيب سواء كان هذا ولدك أو غيره إذا كان يسمع هذا التثريب لا يحب هذا المجلس، ولا يحب الحضور فيه، وهكذا أصحاب الفطر السليمة إذا حضروا في المجالس التي يُتكلم فيها في أعراض الناس ويسمعون فيها الكلام المحرم فإنه لا تطيق قلوبهم هذا بحال من الأحوال، وقل مثل ذلك حينما يسمع الإنسان أو يبتلى في مكان عام أو في سوق أو في طائرة أو في مجمع من مجامع الناس ابتلي فسمع الناس يتحدثون تحيتهم شتم، وعباراتهم لا يتحفظون بها، قذف وعبارات سيئة جداً، قوية جارحة تجرح جروحاً عميقة وهم لا يتحفظون بهذا الكلام، بل يرسلونه على عواهنه، والإنسان لا يمكن أن يحتمل هذا فهو كلام مؤذٍ جداً، والجنة ليس فيها هذا، لا يسمع إلا الكلام الطيب، ولذلك جرِّبْ هذا، وانظر إلى أناس لا تسمع منهم إلا طيب الكلام، الكلام اللطيف، الكلام الحسن تجد أن هذا من النعيم، ولا تمل تلك المجالس، وكذلك ما ذكره الله من نعيم أهل الجنة بأنه وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ[ سورة الأعراف: 43] فوجود الغل في نفس الإنسان يكدر عليه نعيمه ولذته وراحته وسروره، بل لا ينام الإنسان الذي يحمل الغل في قلبه، إذا امتُلئ القلب بالغل ذهبت السعادة وتنغصت على الإنسان المعيشة، والإنسان إذا وقع بينه وبين أحد خصومة كيف تكون حاله وحياته، إلا إذا كان إنساناً ملوث العرض ملطخاً، في كل مكان كدمات فهذا أسأل الله العافية (ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ) فهذه من الأمور الخفية التي لا يتفطن لها الكثير من الناس مما ذكر الله من نعيم أهل الجنة: السماع وذهاب الغل من نفوسهم، أليس النعيم هو في أمور حسية مادية يتعاطاها الإنسان من نكاح وأكل وشرب وقصور يسكنها، لا، فهناك أشياء قد تُذهب هذه اللذة كلها ولذلك يجد الإنسان أعلى لذات الدنيا ربما هي لذة النكاح، والنبي ﷺ يقول: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب([4]) ومعروف في أحوال الناس أن الرجل قد يسمع من هذه المرأة التي يعاشرها كلمة واحدة تتحول بسببها اللذة إلى تنغيص فيزهد فيها ولا يستطيع أن يعاشر، فكلمة تجرح مشاعره، والناس يذكرون مثل هذا، قد يذكره بعضُ مَن أكثرَ من الجواري، ومن الزوجات وهكذا أيضاً لربما كان الإنسان يأكل ولكنه إذا غلبه الغم أو امتَلأ قلبه بالغل لا يجد طعما للطعام.

وقوله: وَهُدُوَاْ إِلَىَ صِرَاطِ الْحَمِيدِ أي: إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم كما جاء في الحديث الصحيح إنهم يُلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النّفَس([5]) وقد قال بعض المفسرين في قوله: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ أي: القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الأذكار المشروعة وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ أي: الطريق المستقيم في الدنيا، وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم.

القول بأن وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ يعني القرآن أو نحو هذا أو الأذكار المشروعة!! الجنة ليس فيها لا قراءة قرآن ولا أذكار إنما يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفَس، فالجنة ليس فيها تكاليف، ولكن هؤلاء العلماء قصدوا بذلك -والله أعلم-

 أن هذا في الدنيا هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ كما ذكر الله هذا النعيم لأهل الجنة أنهم هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ في الدنيا، مع أن ظاهر السياق أن هذا من نعيمهم في الجنة، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ولكن كأن من فسره بأن هذا في الدنيا وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ إذا قيل: لا إله إلا الله أو نحو ذلك، أن هذا كان في الدنيا وكان سبباً لهذا النعيم، وهكذا وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ أيُّ: هدايةٍ تكون في الآخرة؟ مع أن الله قال عن الشهداء: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ[ سورة محمد: 4-5] وقد قتلوا فكيف يهديهم؟ ولهذا يقال: الهدايات منها ما هو موجود في الدنيا، ومنها ما يوجد في الآخرة، فالهدايات التي توجد بعد الموت كثيرة، يُهدى الإنسان عند سؤال الملكين في القبر إلى الجواب إذا سئل عن المسائل الثلاث، وكذلك العبد أيضاً يحتاج إلى هداية حينما يقوم من قبره فيتوجه إلى محشره، فالله وصف خروج الناس من قبورهم كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج: 43] ويحتاج أيضاً إلى هداية حينما يحاسبه الله فيلهم العبد الحجة، ويسدد، لم فعلت كذا؟ أو يقال له: فعلتَ كذا، رأيت شيئاً يجب عليك أن تغيره، فالنبي ﷺ أخبر أن العبد إذا ألهم الحجة، قال: ربي..، فالشاهد أنه يلهم الجواب الصحيح الذي يحصل له به الخلاص والنجاة، ثم إن الإنسان أيضاً يحتاج إلى هداية أخرى بعد ذلك إلى الصراط، ويحتاج إلى هداية على الصراط، ويحتاج إلى هداية أخرى إلى باب الجنة، ويحتاج إلى هداية إلى منزله في الجنة، ولهذا قال الله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيصْلِحُ بَالَهُمْ والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [سورة يونس: 9] وابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه والله أعلم، يعني هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ في الدنيا لما يكون سبباً لهذا النعيم، وكذلك أيضاً في الجنة، وظاهر السياق في الجنة وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ الصراط هو الطريق الواسع صِرَاطِ الْحَمِيدِ أي: صراط الله وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ أي إلى طريق الله -تبارك وتعالى- فقد تكون الآية تشمل هذا الذي ذكره السلف جميعاً، والله أعلم.