الثلاثاء 20 / ذو الحجة / 1446 - 17 / يونيو 2025
ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ٱلْأَنْعَٰمُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَٱجْتَنِبُوا۟ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلْأَوْثَٰنِ وَٱجْتَنِبُوا۟ قَوْلَ ٱلزُّورِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

يقول الله تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل.

وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ [سورة الحج:30] أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه، فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى -: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [سورة الحج:30]، "ذلك" الإشارة هنا للبعيد، وابن كثير - رحمه الله - يقول: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها - يعني المكلف – من الثواب الجزيل، هذا المعنى الذي ذكر أن الإشارة ترجع إليه ليس بمستقيم، وهو أعم في المعنى، وما قاله كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -؛ حيث إنه أرجعها إلى ما قبلها؛ لأن الله قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [سورة الحج:29]، ذلك يعني قضاء التفث، فما أمرنا به من قضاء التفث والوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ [سورة الحج:30]، والله - تبارك وتعالى - ذكر في هذه الآيات جملة من الأمور وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ۝ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [سورة الحج:26-27] ثم قال: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ۝ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [سورة الحج:28-29] ذلك يعني ما ذكر، كل ما ذكر فهذا الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله -، وابن جرير  - رحمه الله - جعلها تعود إلى ما قبلها - الجزء الأخير - وهو قضاء التفث، والوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ، ويقول هنا: وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ أي: من يجتنب معاصيه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه، واضح من كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنه حمل الحرمات على الممنوعات، على مساخط الله ، وأن من يحترز منها ويخاف من مواقعتها ويكون لذلك رهبة في نفسه، ومعنى الحرمات في قوله: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ: الحرمة هي كل ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه، ويدخل في ذلك أيضاً ما نهى الله - تبارك وتعالى - عنه فكل هذا يدخل في هذه الآية كما يقوله أصحاب المعاني كالزجاج، ولهذا عممها ابن القيم - رحمه الله - لتشمل ذلك جميعاً وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ تعظيم حرمات الله مثل الشرك بالله - تبارك وتعالى - فلا يواقع ذلك، ويحترز منه غاية الاحتراز، وهكذا الفواحش وألوان الجنايات والمظالم، ويدخل فيها أيضاً تعظيم ما أمر الله به من إقام الصلوات، وإيتاء الزكوات وغير ذلك من طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ فكما أن المكلف يجب عليه أن يقوم بما أمر به، ويجب عليه أن ينتهي عما نهى عنه، كذلك أيضاً هو بحاجة إلى أن يوجد في قلبه ما يكون من قبيل الرهبة، والتعظيم، والخوف من مقارفة المحرم أو ترك الواجب، كلها لها وقع في نفسه، ولذلك إذا فاتته الصلاة أو نحو ذلك يقع في نفسه من الوجل، والخوف، فإذا أذن المؤذن فإن ذلك يقع في نفسه موقعاً، هذه الصلاة لا يمكن أن يفرط فيها ولو أعطي الدنيا بما فيها، ولو قيل له اترك فرضاً واحداً ما تركه، وهكذا مواقعة الفواحش، والمنكرات يخاف من هذا مهما تزينت له الفتنة، وتزخرفت له هذه الأمور المنهي عنها فالحاصل أن ذلك يشمل هذا جميعاً، فإذا عظّم حرمات الله فهو حري أن يفعل ما أمر به، وأن يترك ما نهى عنه، وإنما تقع المقارفة للمنهي أو ترك المأمور قصداً من غير عذر لما يقع في القلب من الاستخفاف والتهاون.

وقوله: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي: أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة، ولا سائبة، ولا وصيلة، ولا حام.

وقوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي: من تحريم الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ الآية [سورة المائدة:3]، قال ذلك ابن جرير، وحكاه عن قتادة.

تفسير قوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ بآية المائدة لا يخلو من إشكال، فسورة الحج من السور المختلف فيها فالبعض يقول هي مكية، والبعض يقول: هي مدنية وبعضهم يقول: هي مكية وفيها آيات مدنية، ومنهم من يقول: هي مدنية وفيها آيات مكية، واختار القرطبي أنها مختلطة فيها المكي، وفيها المدني، ومهما يكن فهي ليست من أواخر ما نزل، حتى لو قلنا إنها مدنية وفيها آيات مكية، فهي ليست من أواخر ما نزل وإنما آخر ما نزل في الأحكام، المائدة كما هو معروف، فقوله - تبارك وتعالى - هنا في هذه الآية وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إذا قلنا بأنها مكية فلا تفسر بالآية النازلة في المدينة آية الحج هذه فإنها لا تفسر بأمر ما نزل، لكن يمكن أن يقال ذلك على سبيل التوسع، وقوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي مما نزل ومما سينزل بهذا الاعتبار، وهنا يرتفع الإشكال، لكن يمكن أن يقال: إن قوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إذا أريد به ما نزل وتحقق نزوله فإن ذلك يدخل فيه آية الأنعام، وكذلك ما نزل في البقرة إذا قلنا بأن البقرة هي أول ما نزل في المدينة، وإذا كانت هذه الآية من سورة الحج نازلة في المدينة فالله يقول: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [سورة المائدة:3]، فهذه من المحرمات والله يقول في الأنعام: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [سورة الأنعام:145]، فتفسر بما سبق نزوله، وإذا فسره بما نزل بعدها فاعتبار السابق على سبيل التوسع، أي أن المعنى أوسع من ذلك باعتبار ما نزل، وما سينزل، والأنعام هي الأصناف الثمانية، كما قال الله : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [سورة الأنعام:143]، ثم قال بعد ذلك: وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [سورة الأنعام:144].

وقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ: "من" هاهنا لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقرن الشرك بالله بقول الزور، كقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف:33]، ومنه شهادة الزور، وفي الصحيحين عن أبي بَكْرَة أن رسول الله ﷺ قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت"[1].

وروى الإمام أحمد عن خريم بن فاتك الأزدي قال: صلى رسول الله ﷺ الصبح، فلما انصرف قام قائماً فقال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ، ثم تلا هذه الآية: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ۝ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [2] [سورة الحج:30-31].

هذه الرواية لا تخلو من ضعف؛ لجهالة في أحد الرواة، لكن في قوله - تبارك وتعالى -: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ الرجس يأتي بمعانٍ متعددة فهو من قبيل المشترك يأتي بمعنى العذاب، ويأتي بمعنى القذر، ويأتي بمعنى النجاسة، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [سورة المائدة:90] رجس فهذا بمعنى النجس وسواء كانت النجاسة معنوية أو كانت نجاسة حسية، والميتة رجس، وما ذبح لغير الله رجس، وكذلك الرجس يأتي بمعنى العذاب، والنبي ﷺ أيضاً قال عن الروثة: إنها ركس، ورجس، فالدنس والقذر كله يقال له: رجس، فهذه نجاسة وقذر معنوي، ومِن في قوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ليست تبعيضية؛ لأن كل الأوثان، وعبادة الأوثان من قبيل الرجس، وإنما هي لبيان الجنس كما تقول: ثوب من القماش، والأوثان معروفة، والأصنام، والعلماء لم يتفقوا في هذا على شيء لكن منهم من يقول: إن الوثن هو ما لم يكن على صورة، والصنم ما كان مصوراً، وقول الزور يدخل فيه شهادة الزور دخولاً أولياً؛ لأن ذلك هو المتبادر، ويدخل فيه أيضاً كل قول باطل، وأعظم ذلك الإشراك بالله - تبارك وتعالى -، كما يدخل فيه القول على الله   بلا علم، الكذب على الله والافتراء، ويدخل فيه الكذب على الناس، ولهذا قال الله على المظاهرين وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا [سورة المجادلة:2]، فحين يقول الرجل لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي، هذه جملة خبرية فهي كاذبة، والكذب زور، وحين يقول: أنتِ عليّ كظهر أمي هو ينشئ حكماً وهو المظاهرة، فهذا الحكم الذي أنشأه حكم منكر باعتبار المعنى، وَزُورًا باعتبار أن الجملة كاذبة، فهي ليست بمنزلة الأم؛ ولهذا قال الله : مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، فهذا داخل فيه، وهكذا من حرم ما أحل الله كالذي حرم امرأته، أو حرم بعض أنواع المطعومات كقوله: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ [سورة الأنعام:138]، وهكذا قوله: وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء [سورة الأنعام:139] فكل هذا من الزور، وأصل ذلك مأخوذ من الازورار وهو الميل، فكل ميل عن الحق فهو داخل في هذا.

  1. رواه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة، برقم (6521)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (87).
  2. رواه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في شهادة الزور، برقم (3599)، والترمذي، كتاب الشهادات عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في شهادة الزور، برقم (2299)، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب شهادة الزور، برقم (2372)، وأحمد في المسند، برقم (18898)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لجهالة والد سفيان العصفري - واسمه زياد - وحبيب بن النعمان الأسدي، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (6387).