الثلاثاء 20 / ذو الحجة / 1446 - 17 / يونيو 2025
حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِۦ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: حُنَفَاءَ لِلَّهِ أي: مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق؛ ولهذا قال: غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.

ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ أي: سقط منها، فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، أي: تقطعه الطيور في الهواء، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ أي: بعيد مهلك لمن هوى فيه؛ ولهذا جاء في حديث البراء: إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء، فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحا من هناك[1]، ثم قرأ هذه الآية، وقد تقدم الحديث في سورة "إبراهيم".

وقد ضرب الله تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة "الأنعام"، وهو قوله: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [سورة الأنعام:71].

قوله - تبارك وتعالى -: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ من أهل العلم من يقول: هذا تمثيل لحال المشرك في بُعده عن الحق، كبعد ما خر من السماء فتذهب به الطير أو تهوي به الريح، وتقريب لحاله، والأقرب من هذا - والله تعالى أعلم - أن يقال: إن ذلك من قبيل المثل الذي ضربه الله لحال المشرك في بيان هلكته، فهذا الذي ذكره الله  يبين حال هذا الإنسان المشرك بحال الإنسان الذي هوى من السماء، وقبل أن يقع على الأرض تخطفته الطير فمزقت جسده أبعاضاً وأشلاء فتفرق جسده، فلا تسأل عن هلكته وحاله، وهو تتنازعه الطير، وتنتشه وتمزق أوصاله، فكيف إذا وصل شيء منه إلى الأرض؟، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ أي: في مكان بعيد غاية البعد، فهذا حال المشرك حيث إنه هالك هلاكاً محققاً لا مرية فيه، هذا تصوير لهلكته - والله تعالى أعلم - لا لبُعده عن الحق، وإنما لهلاكه، ولهذا قال هنا: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ أي بعيد مهلك لمن هوى فيه، فهو هالك سواء حصل له هذا التخطف أو هوت به الريح في مكان بعيد سحيق لا ينجو مَن وقع فيه، فالمشرك هالك لا سبيل لنجاته، هو يقارف هذه المقارفة، ولا يمكن أن يحصّل مغفرةً أو رحمة من الله  أو يدخل جنة، فهذا أعظم شيء يمكن أن يقع من الإنسان، وأعظم جرم يمكن أن يهوي بصاحبه في النار - والله أعلم -، وهذا المعنى الذي ذكرته آنفاً تكلم عليه ابن القيم - رحمه الله - بكلام جيد يمكن أن يراجع في ما جمع من تفسيره عند هذه الآية.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1676).