الأربعاء 21 / ذو الحجة / 1446 - 18 / يونيو 2025
ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ وَٱلْمُقِيمِى ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [سورة الحج:34-35].

يخبر تعالى أنه لم يَزَل ذبحُ المناسك وإراقةُ الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا قال: عيدًا.

وقال عكرمة: ذبحًا.

قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ: يخبر أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل، ونقل عن ابن عباس مَنْسَكًا قال: عيداً، وهذا قال به بعض أصحاب المعاني مثل الفراء، يقول عكرمة: ذبحاً، والنسيكة هي الذبيحة، وقال زيد بن أسلم في قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا إنها مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها، والمنسك يقال: للعبادة، فيقال مثلاً: فلان متنسِّك أي متعبد، ويقال لعبادة مخصوصة وهي الحج والعمرة، ويقال: النسك والمناسك، ويقال لجزء من هذه العبادة وهو الذبح والقرابين من الهدي، فيقال: نسيكة ذبيحة، وبعضهم يقول: إن المقصود به المكان الذي نذر الرجل أن ينحر إبلاً ببوانة وسأل النبيَّ ﷺ عن هذا فسأله ﷺ هل فيها عيد من أعياد المشركين؟، فالشاهد أن في تاريخ العرب في الجاهلية عندهم في أعمال الحج أماكن للنسك يذبحون فيها قريباً من مكة، فمنهم من يذهب إليها قبل الحج، وقبل أن يأتي مكة، وبعضهم يذهب إليها بعده ولهم في هذا أخبار كثيرة، يمكن أن يراجع في هذا كتاب تاريخ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام في نحو عشرة مجلدات، ذكر فيها المناسك عند العرب الأماكن التي يُذبح فيها ذكر ذلك بالتفصيل، والمراد - والله تعالى أعلم - كأنه قال: إنها مكة جعل المكان الذي يذبح فيه! ومن قال: إنه الذبح أي النسيكة هي الذبيحة، وهكذا لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل، وحيث إن الله تعالى شرع لهم ذلك وإبراهيم ﷺ فدى الله ابنه إسماعيل بذبحٍ عظيم، يعني بذبيحة لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ يعني على ذبحها، وفي وقت الذبح، ولا حاجة لأن يقال: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ أنه عند مشاهدتها مثلاً، ولِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على ذبحها، وقيل: إن هذه الآية تدل على أن الأيام المعلومات يوم النحر، وأيام التشريق؛ لأن الذبح لا يكون إلا فيها، وقوله: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أي: على ذبحها، ويمكن أن يشمل ذلك ذكر الله وشكر المعبود على تسخيرها إذا شاهدوها.

وقال زيد بن أسلم في قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا، إنها مكة، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها.

وقوله: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: "أتى رسول الله ﷺ بكبشين أملحين أقرنين، فسمَّى وكبر، ووضع رجله على صِفَاحهما"[1].

إذا جعلنا مكة منسكاً معنى ذلك أنه محل الذبح، ولهذا قال الأزهري - وهو إمام كبير في اللغة -: يعني موضع النحر منسكاً أي موضعاً، النحر جعلنا منسكاً يعني محلاً ومكاناً لنحر النسك وهو مكة.

وصِفاحهما يعني: العنق، صفحة العنق الرقبة، ليكون ذلك أثبت وأمكن في الذبح، وهذه هي السنة في ذبح الغنم بهذه الطريقة ويتوجه بها إلى القبلة، وتكون مضطجعة على شقها الأيسر، ولو كان الذابح أعسر يعني يذبح باليسار قد لا يتيسر له هذا فقد يؤذي نفسه وقد يؤذي الذبيحة فيمكن أن يجعلها على شقها الأيمن، ولا مانع من هذا، كما أنه يمكن أن تذبح من خلف الرقبة لكن يتحرى ما هو الأسرع في إزهاق الروح والأيسر على البهيمة، وذلك بمقدم الرقبة.

وقوله: فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أي: معبودكم واحد، وإن تَنوّعَت شرائع الأنبياء ونَسخَ بعضها بعضًا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:25]، ولهذا قال: فَلَهُ أَسْلِمُوا أي: أخلصوا واستسلموا لحُكْمه وطاعته.

وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قال مجاهد: المطمئنين، وقال الضحاك، وقتادة: المتواضعين، وقال السدي: الوجِلين. وقال عمرو بن أوس: المخبتون: الذين لا يَظلِمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا.

وقال الثوري: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قال: المطمئنين الراضين بقضاء الله، المستسلمين له.

وأحسن ما يفسّر بما بعده وهو قوله: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي: خافت منه قلوبُهم، وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ أي: من المصائب.

الإخبات معنى يلتئم التواضعَ والكسرة في القلب، والخضوع والتذلل، فهذا هو المُخبِت، فتارةً يفسر بأثره، وتارةً يفسر ببعض معناه وهو معنى يلتئم هذه الأشياءَ، - والله تعالى أعلم -، والمخبت يظهر أثر ذلك عليه من التواضع والتخشع وهو معنى في القلب يكون بانكساره وتذلله وتخشّعه لربه وخالقه  الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.

وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ أي: المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أي: وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقّائهم وقراباتهم، وفقرائهم ومحاويجهم، ويحسنون إلى خلق الله مع محافظتهم على حدود الله، وهذه بخلاف صفات المنافقين، فإنهم بالعكس من هذا كله، كما تقدم تفسيره في سورة "براءة".
  1. رواه البخاري، كتاب الأضاحي، باب وضع القدم على صفح الذبيحة، برقم (5244)، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل والتسمية والتكبير، برقم (1966).