وقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ أي: بأبدانهم وبفكرهم أيضا، وذلك كافٍ، أي: فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال.
كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب: التفكر والاعتبار:
"قال بعض الحكماء: أحْيِ قلبك بالمواعظ، ونَوِّره بالفِكْر، ومَوِّته بالزهد، وقَوِّه باليقين، وذَلِّلْهُ بالموت، وقرِّره بالفناء، وبَصِّره فجائع الدنيا، وحَذِّره صولةَ الدهر وفحش تَقَلُّب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسِرْ في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا، وأين حَلُّوا، وعَمَّ انقلبوا".
السير في الأرض يشمل هذا وهذا، ولهذا يقول الله في سورة السجدة أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [سورة السجدة:27]، وقال: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [سورة السجدة:26]، فذكر السمع هنا أَفَلَا يَسْمَعُونَ؛ لأن مثل هذا تُتلقى أخباره فيه بما قص الله ، أو بما يتناقله الناس جيلاً بعد جيل، وأما آثار المطر فهي أشياء مشاهدة بالنسبة إليهم، فالسير في الأرض يكون بالتفكير والاعتبار، سير القلب والنظر بما حل بهؤلاء المكذبين، ويكون بالبدن بحيث يبصر الإنسان بعينه آثارهم كما قال الله : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ [سورة الصافات:137-138].
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا أي: فيعتبرون بها، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر، ولا تدري ما الخبر، وما أحسن ما قاله أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشَّنْتَريني، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:
يا مَن يُصيخُ إلى دَاعي الشَقَاء، وقَد | نَادَى به الناعيَان الشيبُ والكِبَرُ |
إن كُنتَ لا تَسْمَع الذكْرَى، ففيم تُرَى | في رَأسك الوَاعيان السمعُ والبَصَرُ |
ليسَ الأصَمُّ ولا الأعمَى سوَى رَجُل | لم يَهْده الهَاديان العَينُ والأثَرُ |
لا الدّهر يَبْقَى وَلا الدنيا وَلا الفَلَك الـ | أعلى ولا النَّيِّران الشَّمْسُ وَالقَمَرُ |
لَيَرْحَلَنّ عَن الدنيا، وَإن كَرِهـا | فرَاقَها، الثاويان البَدْوُ والحَضَرُ. |
لا شك أن العمى الحقيقي هو عمى البصائر كما جاء عن ابن عباس - ا -:
إنْ يأخذِ اللهُ مِن عينيَّ نورهَما | ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ |
وكما قال الآخر:
إذا أبصرَ المرءُ المروءةَ والتُّقى | فإنّ عمى العينينِ ليس يضيرُ |
فالعمى هو عمى القلب سواء كان ذلك العمى بالعمى عن الحق والهدى، فيكون شغله وعمله وكدحه فيما يرديه، ويضره، أو كان ذلك بأخذ نور القلب فيكون الإنسان مثل البهيمة، يعني إذا ارتفع عنه العقل يكون مثل البهيمة فيقع على الحية ويقع على البئر، ويقع على النار، ولا يميز مع أن له بصراً في عينه لكنه لا ينفعه، وقد تجد الإنسان الذي قد ذهب بصر عينه يرجع ذلك إلى قلبه فيكون ذلك سببا للقوة في الإدراك والفهم والحفظ، فيحصل له من العلم الشيء الكثير ويكون عنده من المعرفة بمصالحه، بل حتى في مشيه وتقلبه لربما يكون كالمبصر، وهو يمشي ويجتنب الحفرة، وأشياء عجيبة تقع من هؤلاء مع أن بصره مفقود.