الأربعاء 14 / ذو الحجة / 1446 - 11 / يونيو 2025
فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَٰهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أي: كم من قرية أهلكتها وَهِيَ ظَالِمَةٌ أي: مكذبة لرسولها، فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قال الضحاك: سقوفها.

العرش يعني السقف، خاوية على عروشها، جنات معروشات يعني وضُع لها سقوف خشب مثل الأعناب يوضع لها سقوف، فهي خاوية على عروشها أي على سقوفها.

أي: قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها.

خاوية على عروشها يعنى أنها صارت متهدمة قد سقطت حيطانها على سقوفها، فالعروش هي السقوف، خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يعني متهدمة هذا من حيث ظاهر المعنى أخذاً من ظاهر اللفظ، ومثل هذا يعبر به عما هو أوسع من ذلك، يعبر به عن الخراب بمعناه الأعم، خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا بمعنى أنها قد هُجرت وتركت وعطلت فلا ينتفع بها، وليس فيها ساكن، خاوية على عروشها بعد أن كانت عامرة بأهلها مزدهرة، تركت وهجرت ولم يعد ينتفع بها أحد خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ظاهر اللفظ أنها على سقوفها، والمعنى الأوسع من هذا أن يكون المراد أنها قد هجرت وتركت ليس فيها أحد، أو قد هلك أهلها فصارت خراباً.

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي: لا يستقى منها، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها.

وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال عكرمة: يعني المُبَيّض بالجص.

قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي لا يستقي منها ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها، والازدحام عليها يعني المدينة التي أهلكت أو القرية قد خلت من أهلها وتهدمت تساقط بنيانها وتلك البئر التي كانوا يزدحمون عليها لم يعد يرِدها أحد، ويحتمل أن يكون المعنى كما قال طائفة من أهل العلم: إن الله يصور أحوال الأمم المهلَكة، وما حل بهم فذكر القرى التي أنزل بها بأسه فهي خاوية على عروشها قد هلك أهلها وتهدم بنيانها، ثم ذكر حالة أخرى مثل بئر ليست بهذه المدينة على وجه الخصوص، وإنما بئر أخرى قد عذب أهلها فهلكوا فبعد أن كانوا يرِدون هذه البئر ويستقون منها ويزدحمون عليها صارت معطلة، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا فيكون كأنه يقول: فكأين من بئر، فيكون معطوفاً على قرية، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ يعني يكون معطوفاً على قرية، فكأين من قرية، وكأين من بئر، فتكون حالات منفصلة، قرية نزل بها العذاب فحل بها الدمار وخلت من أهلها، وكم من بئر كان يردها واردون كثيراً، فلما نزل بهم بأس الله صارت تلك البئر معطلة لا يستقي منها أحد، ويحتمل أن يكون هذا مرتبطاً بالمعنى الذي ذكر قبله، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.

وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال عكرمة: يعني المُبَيّض بالجص.

الجص مثل النُّورة، الأسمنت الأبيض معروف، الأسمنت الأبيض جص، والمنازل كانت تطلى به إلى عهد قريب جداً، ويوجد إلى الآن لكن بصورة أكثر تطوراً، فالبيوت التي تكون من الطين عادة تطلى بالجص، فبحسب حال هذه البيوت وحال أهلها من اليسار، فقد يكون الطلاء بالجص فقط أقل من متر بالأسفل من الداخل، وأعالي البنيان؛ ليكون ذلك أولاً للزينة، وأحفظ له من أجل أن يتماسك إذا نزل عليه المطر، وإذا كان الناس هؤلاء عندهم إمكانية أكثر فإن هؤلاء قد يطلونه على الأقل من الداخل، يطلون جميع الجدران بالجص، وقد يكون هؤلاء بصورة أكثر عناية فيضعون على السقوف من أسفل يعني بدلاً من أن يوضع الآن الجبس أو السقف المستعار كما يقال كانوا يضعون مثل الشراع خرقاً تغطي السقف الذي هو من خشب، وهذا موجود إلى عهد قريب، ولعل بقاياه ما زالت موجودة، فالحاصل أن هذا يكون في البيوت حينما تنمق وتزين، والقصر يقال لِمَا كان مبنياً من الحجارة، فالقصر المشيد كلمة مشيد يقال ذلك لِمَا شيد بالجص، والنهي عن تشييد المساجد اختلف العلماء في المراد به فبعضهم حمله على هذا التشييد على الجدران، ويحتمل أن يكون ذلك برفع البنيان، بناء مشيد أي مرتفع، فيحتمل هذا وهذا، قصر مشيد يعني الذي قد ارتفع، أو الذي قد وضع فيه الجص أو زين به قال: يعني المبيَّض بالجص.

وروي عن علي بن أبي طالب، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي المَلِيح، والضحاك، نحو ذلك.

وقال آخرون: هو المَنيف المرتفع.

وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين.

وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يَحْمِ أهلَه شدةُ بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم، كما قال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [سورة النساء:78].

قال ابن جرير - رحمه الله تعالى -: " القول في تأويل قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.

يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون؛ يقول: وهم يعبدون غير من ينبغي أن يُعبد، ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه، وقوله: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يقول: فباد أهلها وخلت، وخوت من سكانها، فخربت وتداعت وتساقطت على عروشها; يعني على بنائها وسقوفها"[1].

وقال - رحمه الله -: "وقوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ، يقول تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ومن بئر عطلناها بإفناء أهلها وهلاك وارديها، فاندفنت وتعطلت، فلا واردة لها ولا شاربة منها، ومن وَقَصْرٍ مَشِيدٍ رفيع بالصخور والجصّ[2].

يعني تكون هذه حالة ثالثة.

وقال - رحمه الله -: " قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم، فبادوا وبقيت قصورهم المشيدة خالية منهم"[3].

 قال محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيراً من القرى في حال كونها ظالمة أي: بسبب ذلك الظلم، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها.

وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية جاء موضحا في آيات كثيرة"[4].

والشنقيطي - رحمه الله - يرى أن قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ معطوف على قرية كما سبق، فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها، وكم من قصر مشيد أخليناه هكذا.

وقال الشنقيطي - رحمه الله -: "والظاهر أن قوله: وبئر معطلة معطوف على قرية أي: وكأين من قرية أهلكناها، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل، وفي هذه الآية وأمثالها تهديد لكفار قريش الذين كذبوه ﷺ"[5].

  1. جامع البيان في تأويل القرآن، للإمام الطبري (18/ 652).
  2. المصدر السابق (18/ 652).
  3. المصدر السابق (18/ 654).
  4. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي (5/ 269).
  5. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ الشنقيطي (5/270).